الاصداراتمقال رأي

ما الذي يبحث عنه الشاب العربي في مشاريع النهضة والتجديد؟

111

منذ ما يقرب من القرنين من الزمان، بدأت المشاريع العلمية والواقعية لما يعرف ب “حركات النهضة والتجديد” تحاول أن تصوغ فكرا ما تجيب به عن السؤال الكبير: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟

وبالرغم من الإجابات المتعددة التي حظي بها هذا السؤال، والأسئلة التي قدمت لإجاباته، فإنه لا يزال فتيا في الأذهان، والواقع. وكانت أحداث الربيع العربي منبها جديدا ودافعا لإعادة قراءة مشاريع النهضة والتجديد، بحثا عن تقييمها وفق معايير محددة.

لم يكن موضوع التجديد هو الشيء الوحيد الذي أبانت عنه رياح التغيير في العالم العربي، بل ثمة ظاهرة قد تكون ألفت للانتباه. يعبر عن ثورات الربيع العربي بأنها “ثورة الشباب”، “الشباب” هذا المصطلح الذي أبان عنه الربيع العربي بجلاء، من خلال تصدر الشباب للمشهد الثوري والإعلامي في دول الربيع. مواقع التواصل ساهمت كذلك بشكل كبير في ترسيخ هذه الظاهرة التي تعني تقدم الشباب من مدرجات المشاهدة إلى ساحات اللعب والتأثير، من خلال المشاركة في صياغة رأي عام، كان حكرا في السابق على النظام ومؤسساته التي شاخت.

بعد هدأة رياح التغيير، وبعد تجربة مريرة للربيع العربي، يجلس الشباب في محاولة تقييم لسنوات مضت، حاولوا فيها تطبيق مجموعة كبيرة من الأفكار والمشاريع النهضوية، كل حسب المدرسة التي ينتمي إليها، ولا يزال الكثيرون يعبرون في حساباتهم على مواقع التواصل عن رؤاهم النقدية في هذا المجال.

كشاب عربي متابع غير متخصص في مسائل الفكر والنهضة، فإنني أجد مجموعة من الأفكار الهامة التي يعرضها الشباب عند مساءلتهم لحركات النهضة والتجديد، يحاول هذا المقال عرضها بشكل موجز.

  • الإجابة عن سؤال الدنيا قبل الإجابة عن سؤال الدين:

قامت كثير/أكثر مشاريع النهضة والتجديد على قراءة التراث، أو العودة إلى الموروث الإسلامي ومحاولة تطبيقه في الواقع، تختلف درجات أخذها من التراث إلا أن أغلبها (ممن له حضور جماهيري في الدول العربية) يكاد يجمع على هذه النقطة. هذه الحركات والمشاريع تهتم أكثر ما تهتم به بالإجابة عن تساؤلات الدين، لا الحياة. إنها تهتم بإنشاء جيل مسلم قادر على مجابهة الحياة، وفق القواعد الإسلامية والقيم الإيمانية. إنها تهتم بالمجتمع المسلم، والمبادئ الشرعية والتعليم الديني المتخصص.

إن هذه الحركات النهضوية تمارس الدعوي أكثر مما تمارس السياسي، رغم تصديها لمهمة سياسية في الأساس (رعاية شؤون الناس). بل هي لما تحاول أن تمارس السياسة فإنها تمارسها لا كما هي، كعلم له أصول وقواعد، ربح وخسارة، إنما تمارسه بما تحمله من موروثات دينية، صحيحة أو خاطئة، إنها تمارس الدعوي في السياسي، فتخرج بالسياسي عن مداره.

الشباب لم يعد يقبل كثيرا هذا التوجه. إن الشباب يبحث في حركات النهضة المتصدرة لقيادة المشهد السياسي، يبحث عن أداء سياسي فعال، واقتصادي فعال، وقانوي فعال، مستند إلى العلم لا إلى الوعظ، تقاس فيه النتائج ويحاسب فيه المخطئون. إن أدبيات الحركات الإسلامية التي تحاول النهضة والتجديد، التي تقوم على الأخوة والعمل الجماعي، والأجر عند الله، وبقية المعاني الأخلاقية لم تعد تستهوي الشباب، لأنها تطبيق لهذه القيم في غير ميدانها. فمن أراد العلم فليأخذه من مظانه.

ومنه فإن على حركات النهضة والتجديد إن رغبت في الحصول على قاعدة شبابية فعالة أن تهتم بأسئلة الحياة لا بمسائل الدين، وأن تترك التعليم الديني لأصحابه، وتركز على واقع الناس، وتكوين كوادرها في العلوم الإنسانية والسياسية والإدارية، وتعرض أفكارا للنهضة والتطوير بما يتناسب مع الواقع وفق خطط بآجال محددة.

  • إقامة الدولة:

ربما كان هذا الهاجس أهم الهواجس على الإطلاق عند الشباب العربي. إن الشباب العربي ورث دولا منهكة من عقود من سوء التسيير والإدارة، مليئة بمشاكل من مخلفات الاستعمار، فاقدة للقرار السيادي، لا خطط لها لإصلاح الحاضر فضلا عن بناء المستقبل. ثم هو يجد أفكارا متضاربة تطرحها المدارس النهضوية في طبيعة الدولة التي تصلح للعرب، بين دولة الخلافة كما تقدمها داعش مرورا بالأنظمة الملكية والجمهوريات نهاية بدول الوحدة العربية. الكل يعرض نموذجا مختلفا للدولة، والواقع يضغط بدول لها رسم الدولة ولا حقيقة لها. ويقع الشباب العربي حائراً بين إصلاح مافي اليد أو العمل على تغييره وفق نموذج جديد.

من أهم ما يميز حركة تجديد أو نهضة ما في عالمنا العربي، ويعطيها قبولا شبابيا متميزا قدرتها على صياغة مفهوم واضح “قابل للتطبيق” و”القياس” لبناء الدولة الحلم/الواقع. إن هذه المهمة اعلى صعوبتها بوابة الأمل للشباب وفيها يجدون مسارات تنتظم فيها طاقاتهم وإبداعاتهم.

إن من أهم ما يميز الإعجاب الشبابي بنماذج مثل: تركيا، ماليزيا .. أنها تمكنت من الإجابة عن سؤال: ما الدولة؟ وكيف نصل إليها؟ إن وجود المثال يحفز الشاب العربي على استلهام التجربة والتطبيق، فكيف إذا وجد مدرسة نهضوية تحقق له هذا الهدف من الجانب المعرفي (وهو الأصعب) ثم على الواقع بدولة حرة مستقلة تقوم على أساس الحريات.

إن حركات التجديد والنهضة التي تتجنب الحديث عن هذا الباب، إن على مستواه النظري أو العملي فإنها تفقد شريحة لا بأس بها من الشباب، تلك الشريحة التي عاشت -بأحداث الربيع العربي-معنى أن كل الجهد المبذول للتغيير إن لم ينتظم في مؤسسة الدولة فإنه سيظل قاصرا عن تحقيق النهضة.

  • إطلاق الممكنات:

كثير من مشاريع النهضة التي قدمت طوال القرنين السابقين كانت ذا أساس نظري بحت، وكثير منها كان ذا جانب عملي لم يراوح مكانه من الكتاب، وبعض المشاريع تمكنت من افتكاك مساحة للعمل على أرض الواقع، ما جعل لها بعض البقاء، ومكنها من تطوير أفكارها واختبار نظرياتها ومنه إما الانسحاب أو تطوير خطاب جديد، فعال أم غير فعال؟ التقييم يختلف.

الشباب كحماسة متوقدة للعمل يحب الانضواء تحت سقف المشاريع النهضوية ذات الجانب العملي، وهو يسخر وقته وجهده وطاقته في سبيل تطويرها. مشاكل العمل الجماعي تحت منصات الجمعيات والأحزاب والمنظمات المتعددة كثيرة، تطرق لها كثيرون، وفي دراسات مفصلة.

غير أن الذي أشير إليه هنا أن الشاب العربي يبحث دوما عن مكان يمكنه من “إطلاق ممكناته”، تلك القدرات والمواهب المكتنزة فيه، التي تحقق له ذاته والذكر الحسن بين الناس. بعض الحركات النهضوية تمنع الشباب من بعض ما يحسنون تحت دعاوى مختلفة، وكثيرا ما يفقد الشباب الناقد مكانه بين المجموعة لأنه ناقد فقط، يجهر بما يخفي الجميع. بعض المنظمات لا ترى الشباب إلا أرقاما، يتمكنون في المناسبات من جلب المصوتين، وفي المظاهرات من إسعافهم بالجماهير، وغير ذلك فهم لا يشركون في قرار ولا يؤخذ بمراجعاتهم أو نقدهم.  مالم تتمكن مشاريع النهضة العملية التنظير لقبول تام لممكنات الشباب وطاقاتهم فإنها ستظل بعيدة عن استيعابهم، وتفعيل طاقتهم في رعاية عجلة النهضة.

  • خاتمة:

وبعد فإن لكل شاب/شباب عربي نظرة خاصة لحركات النهضة والتجديد، تمليها عليه خلفيته المعرفية ورؤيته الايديولوجية، ثم واقعه الذي يعيشه وتطلعاته للمستقبل، غير أن ما ذكرت ثلاثية يكاد الجميع يتفق عليها. والذي ذكرت يمكن اعتباره كذلك من أخطاء حركات النهضة والتجديد في غالب الدول العربية، منذ سنوات عديدة. صحيح أنها نقاط عامة لا تؤسس لشيء، إلا أنها كذلك تحمل قدرا لا بأس به من الواقعية، وعلى رواد النهضة المعاصرين أن يحاولوا تجاوز هذه الأخطاء، وغيرها، للوصول إلى مرحلة تفعيل النهضة الحقة في حياتنا الواقعية.

للتحميل من هنا

 

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى