حشود في بحر العرب
في سياسات الأمن والدفاع الإقليميّة: ممَّا قدّمه برق للسياسات من دعمه الاستشاري في مجال صناعة القرار لِرؤيته عن الأزمة الدوليّة في الخليج العربي كَنتيجةٍ لِتضاد مصالح الولايات المتحدة، وحلفائها من جهة، مع استراتيجيات النظام الإيراني وأذرعه مِـن جهات أُخرى.
تمهيد: عن الأزمة الظاهرة في بحر العرب، والنطاق الإقليمي للخليج، وردود الفعل الدوليّة على الحشود، والجذب العسكري المتصاعد الذي تُمارسه الولايات المتحدّة وخصومها في المنطقة، عبر تحشيد لم تشهده مياه الخليج منذ غزو العراق وتسليمه أمريكيًّا إلى إيران والمنظمات المتطرفة الدينيّة المدعومة منها.
في اللحظات الأخيرة تراجعت الدائرة السياديّة للبيت الأبيض عن قرار توجيه ضربات محدودة لِمنظومات الدفاع والأمن الإيرانيّة، بعد إسقاط الأخيرة طائرة من طراز تريتون إم كيو-4 سي تتبع البحرية الأمريكية، فوق المجال الجوي لِـ كوهموباراك في إقليم هورموزكان الجنوبي -حسب التلفزيون الرسمي الإيراني-، فما أسباب التراجع الأمريكي الذي لا يمكن النفاذ إليه دون تقدير موقف القوى المُختلفة المتواجدة في مياه الخليج العربي:
أمريكيًّا: وصول فرقاطات، وحاملة طائرات، واستطلاع جوّي، مرفقة بتصريح ترامب عن احتماليّة رفع عديد قوّاته في المنطقة، يظهر إصرارًا على التصعيد مع إمكانيّة اتخاذ قرار خطير تجاه إيران. ولكن بِالنظر إلى تموضع هذه القوّات، وأماكن انتشارها، نحن أمام خيارات أخرى تكاد تنسف احتمالية رغبة الطرفين الأمريكي والإيراني في فتح باب المواجهة المباشرة، يُضاف لها نقاط خلل وضعف في شكل ونوعيّة وأهداف التصعيد الأمريكي:
- حجم القوات الأمريكيّة المتواجدة سابقًا في المنطقة كان كفيلًا بتوجيه ضربة _رادعة_ لِـقواعد الصناعات المحظورة الإيرانيّة، سواء بالستيّة أو نوويّة أو بيولوجيّة وكيماويّة. فلماذا كانت زيادة الحشد بشكل مبالغ فيه؟! خصوصًا أنّ الحشد الأمريكي في المنطقة يُطابق ما تتخذه الجيوش المحترفة في الدول العُظمى من إظهار فائض قوتها بعرض عسكري تشارك فيه غالبيّة القوات في أي قاعدة أو منطقة تُريد إعادة الانتشار فيها، أو بما يُعرف بعمليات الإخلاء الاستراتيجي.
- تموضع الأمريكي على مدخل مضيق عُمان، دون الوصول إلى المياه الإقليميّة لإيران يكشف أنّ المُراد تثبيت موقف قتالي، وليس تغيير قواعد الاشتباك التي من المفترض أن تعمل على تطويق النفوذ البحري الإيراني، بينما التواجد الأمريكي بصورته الحاليّة أعطى حدود عمليات أوسع لِـلفرقاطات ومشاة البحريّة والضفادع البشريّة الإيرانيّة بعمق يصل بها إلى بحر العرب الذي تحوّل إلى مسرح عمليات بحريّة لِـعدّة دول بهدف الاستطلاع، أو التخريب، وهذا يوحي بتسليم المنطقة للفوضى وزيادة قدرة إيران على تهديد خصومها الخليجيين، وليس العكس.
- أمريكا لم تقدّم مطالب واضحة وعلنيّة مِـن إيران، بل اكتفت بطلب الجلوس على طاولة المفاوضات وهذا على عكس إنذار 72/ساعة عملياتيّة التي أطلقها بوش بهدف إخراج الرئيس صدام من العراق وإعلان الاستسلام لِـقيادة العمليات المركزيّة الأمريكيّة في الشرق الأوسط، مما يدلل على اختلاف النوايا بين الأمس واليوم.
- التكثيف العالي لحجم الحشود، وضع الأمريكان بقبضة الرمايات المتوسطة قصيرة المدى للسلاح الاستراتيجي الإيراني، وهذا يخالف أبسط قواعد الحماية التي تتخذها القوات في حال اتخاذها قرار حرب أو تصعيد، مما يؤكّد نظريّة أنّ أمريكا تستعرض بالقوات الساكنة.
- أغفلت القوات الأمريكيّة تأمين عمقها في القواعد البريّة أو شبه البحريّة المتواجدة في الخليج العربي، ولم تعمل على عزلها عن عمق نيران أو عمليات إيران وحلفائها، مما يدل أنّ الجانب الأمريكي مُدرك أنّ أيّ استهداف لن يطالها، وما سيحدث من استهدافات سيكون على الدول المستضيفة لهذه القواعد وهذا ما تجلّى في قصف الحوثيين لمصافي استراتيجيّة في عمق السعوديّة، وكذلك تخريب الفجيرة.
إيرانيًّا: تجّلت سياستها في الثبات على مقياس واحد من التصريحات، وعدم رفع الجاهزيّة القتاليّة إلى مستويات نفير عام أو تعبئة مما منع من الزجّ بالوضع الداخلي نحو تفاقم يُضاف إلى حالة هشاشة مجتمعيّة، واضطراب في موقع النظام أمام صراعات داخليّة تهدده، وهذا يُحسَب للنظام الإيراني ويؤكّد أنّه مُدرك لِحدود التصعيد الأمريكي من جهة، ومدرك لِوضعه الذي قد ينهار ويتحوّل إلى حرب داخليّة تُرافقها فوضى إقليميّة إذا ما أقدمت الولايات المتحدة على تنفيذ ضربة تجاه عصب النظام أو أطرافه من جهة أخرى، وبهذا يكون الضعف الإيراني أحد أسباب الردع التي تؤخّر أو تمنع أيّ قرار جديّ باستهداف النظام السرطاني المُتآكل.
خليجيًّا: في الخليج ثلاثة مواقف: أ- محور الرياض أبو ظبي المنامة: الذي يبني أمانيه على القضيّة، وتحويلها إلى حرب أمريكيّة على إيران، بينما تغيب التصريحات الأمريكيّة التي تؤكّد هذه الرغبات، وتنحصر تلك التصريحات بطلب التفاوض مع إيران لمعالجة ملفات المنطقة مما يعني أنّ ترامب يُقايض على هذا المحور أكثر مما يدعمه.
ب- عُمان والكويت: باعتبارهم المتضررين الأبرز من أيّ تطوير في الأزمة، كون عُمان هي مكان تموضع القوات الأمريكيّة المنقولة، وتقع على مدخل الأزمة بين واشنطن وطهران، والكويت بخاصرتها الهشّة المُطلة على مليشيات وهمج ومرتزقة زاد تموضعهم في صحراء البصرة مما يُعجز الحكومة الكويتيّة عن ردّهم فيما إذا حدثت فوضى عامّة واجتازوا الحدود، وهذا الاحتمال على ضعفه ولكنّه قائم وهذا ما أجبر أمير الكويت على رفع جاهزيّة الحرس الوطني وقوات النخبّة المُدربة على التعامل مع حالات الفوضى.
ج- دولة قطر: رغم إظهار الاتزان في السياسات، وجهود الاحتواء التي تُمارسها الأجهزة السياديّة فيها، ولكنّها متضررة من عدّة أوجه منها سياستها في الانفتاح على الاستثمار الداخلي في البلاد، بسبب جُبن رأس المال وهروب المستثمرين أمام أيّ عاصفة تضرب المنطقة، وهذا يضر أيضًا بخطط استضافة الفيفا 2022 التي قد تواجه قرارًا بنقل الاستضافة في حال زيادة المخاطر الأمنيّة والعسكريّة في المنطقة مما يهدد سلامة الفرق والجماهير المُشاركة.
يلفت النظر المرسوم الأميري رقم (12) الصادر 16 أيار_ مايو 2019 بشأن تحديد المناطق القطريّة البحرية الاقتصادية الخاصة قبالة سواحلها الرئيسية وسواحل الجزر الخاضعة لسيادتها في مياه الخليج، مما جعل الدولة القطريّة في حالة حذرة.
المُلاحظ في القانون توقيته، الذي يسمح للدولة فرض نطاقها السيادي، الذي يشكّل حسب الرسم الخرائطي سياجًا متقدّمًا، ونقاط ارتكاز أماميّة تعطي عمق عملياتي لأجهزة الدولة المُكلفة بحماية هذا النطاق، مما يعني تخويل القوات المسلحة والجهات المُختصة في خفر السواحل التعامل مع أيّ خرق، وبهذا يكون القانون بِوجهٍ اقتصاديّ وَمخالب عسكريّة، عزَّزت تموضع قطر أمام عاصفة تضرب الخليج.
أوروبيًّا: القارة ليست على قلب رجل واحد كما كانت في حرب الخليج2، بل تعاني صدعًا داخليًا فرض على دولها التعامل مع أزمة الخليج الجديدة بواقع المصالح المتفرقة، مما حوّل القوات العسكريّة التابعة لِـ دولها في المنطقة لتعمل بشكل قوات استطلاع وتجسس وجمع معلوماتي يسمح لها الاستعداد لأي طارئ، وهذا لا يمنحها دورًا فاعلًا في الأزمة، بل مراقبًا ومتأثِّرًا فقط.
تركيا: صرّحت إعلاميًّا بِرفضها ما وصفته “الإملاء الأمريكي”، ونسّقت عمليًّا عبر أجهزتها السياديّة مع الأمريكان وحاولت طمأنتهم بِـتأخير استلام منظومة (S) الدفاعيّة، التي يعني وصولها في هذا التوقيت التشويش على قدرات القوات الأمريكيّة الاستطلاعيّة في المنطقة، وتهديد المظلات الدفاعيّة المُرافقة للقوات البحريّة، وكذلك تسهّل رصد حركات النقل الجوّي في قواعد أمريكا الرئيسيّة جنوب الأناضول.
لكنّ الأخطر، والذي لم تذكره وسائل الإعلام ومراكز الاستشعار: ((أنّ قرار تأخير تسليم المنظومة لم تتخذه أنقرة منفردة، بل بترحيب روسي جاء بناءً لِـ تفاهمٍ ثانٍ بين روسيا وأمريكا على تبادل الأدوار في المنطقة، وتركيز ضغط نفسي يُشعِر إيران أنّها منبوذة من القوة العظمى ووحيدة في المنطقة أمام أيّ صراع تكون سببًا في تصاعده، وهذا ما قاله بوتين بالضبط في تعليقه على إمكانيّة انسحاب إيران من الاتفاق النووي)).
روسيا: لم تطرح نفسها كعرّاب تسويات كما في السابق، بل استدارت لإيران، وساهمت في حشرها بِـزاوية ضيقة ومعزولة، وأبدت إحجامًا عن أيّ مساهمة علنيّة لدعم الموقف الأمريكي من خلال إعلان الكرملين عدم استعداده تعويض الأسواق عن نقص النفط الإيراني، بينما عملت استخباريًّا على التضييق وخنق الموقف الإيراني وعزل حلفائه عنه، وهذا يشير إلى رغبة دوليّة في إفهام إيران حجم المسموح من دورها في المنطقة، وعدم تجاوزه، وخصوصًا أمام التشويش والاستفزاز الإيراني لِـروسيا في سوريّة كما حدث في استيلائها على مناجم فوسفات بادية تدمر، وسعيها للسيطرة على مرفأ بانياس في محاولة منها تطويق تمدد القاعدة الروسيّة في طرطوس.
المنطقة تتغيّر بسرعة ولن تكتسب شكلها الواضح في وقت قريب، والتحالفات فيها متغيّرة ليست ثابتة، ولا بنّاءة، مما يسمح للأدوار الإقليميّة والدوليّة زيادة منسوب استفادتها مِـن وضع إشكالي غريب، وعليه وأمام اضطراب مواقف إقليميّة ودوليّة، وسعيٍ حثيث لتفادي الأضرار التي تلحق بالمصالح العُليا للدول بسبب قرارات ترامب الانعطافيّة، وغير المسؤولة في أحيان كثيرة، تبقى نسبة ضئيلة لحدوث -خطأ ما- يفجّر الوضع، ويحوّل مساعي تفادي الحرب إلى كابوس حقيقي.
محمود إبراهيم: مسؤول السياسات في برق الاستشاري/ خبير في استراتيجيات الأمن والدفاع.