تبادل التصرفات الجيدة بين الكرملين والكنيسة الأرثوذكسية
الدين هو اليد اليمنى للقومية:
كان واضحًا أنّ إعادة انتخاب فلاديمير بوتين في 18 آذار/مارس 2018 مضمونة، تميزت فترة الرئيس الأخيرة بعلاقاتٍ متوترة بشكل متزايد مع الغرب، لكنه أيضًا كان يبدو محافظًا، إذ أنّه ولمدة ست سنواتٍ حرص أن يظهر مع الشخصيات الأرثوذكسية، وبالتالي فهو يسعى إلى التأثير في الحالة الوطنية وتعزيز التألق الخارجي.
تحت أشعة الشمس الساطعة نهار 25 أيار/مايو 2017، افتتح البطريرك كيريل، بطريرك موسكو وسائر روسيا، دير سرتنسكي في قلب العاصمة، إلى جانبه ظهر الرئيس بوتين بوجهٍ رسمي وعادي معًا، يراقب بعنايةٍ جميع الطقوس، ثم يُسلّم البطريرك رمزًا يبلغ عمره 400 عام، يصور يوحنا المعمدان النبي الذي يعلن عن مجيء المسيح، كان هذا الرمز موجودًا حتى ذلك الوقت في مكتب الرئيس، الآن سيتم وضعه على مذبح دار العبادة الجديد.
بطريرك أرثوذكسي إلى جانب رئيس دولةٍ روسي:
كان سيبدو هذا المشهد مستغربًا منذ بضعة عقود، على بُعد بضع خطواتٍ من لوبياكانا يقع مبنى وزارة الداخلية السوفييتية، رمز القمع العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، لا يمكن أن تنسى الكنيسة ذكرى “شهداء الاضطهاد المعادي للدين”.
قال بوتين بعد الاحتفال أنّ قرار إحياء ذكرى مئويةِ ثورتي شباط/فبراير وتشرين الأول/أكتوبر عام 1917 يُشكل “رمزًا هامًا”. وشدّد على وجوب عدم تجاهل صعوبة شفاء “الجروح الناتجة عن الانقسامات”، وتابع بالقول “جميعنا يعلم مدى هشاشة السلام المدني، هذه مسؤوليتنا المشتركة أن نفعل كل ما بوسعنا للحفاظ على وحدة الأمة الروسية”.
لم يكن ممكنًا أن تختفي الكنيسة كليًّا خلال الفترة الشيوعية، إذ خرجت الأرثوذكسية من فترةٍ طويلةٍ كانت فيها في حالة تعافٍ وتطهّر. بعد الحملة العنيفة المناوئة للدين التي قادها البلاشفة ضد رجال الدين بداية الحرب العالمية الثانية، لم يبقَ سوى 250 ابرشية نشطة بشكلٍ فعلي مقارنةً ب 54000 في عام 1914.
في مواجهة هجوم القوات الألمانية، سعى جوزيف ستالين إلى تأهيل الكنسية لدعم عملية التعبئة في تقليدٍ طويلٍ عمل عليه الروس خلال الحروب “المقدسة”.
قال ستالين في 3 تموز/يوليو 1941 مقولته التي لا تزال مشهورةً حتى اليوم “الأخوة والأخوات، وطننا مهددٌ بخطرٍ حقيقي”. مع ذلك فإنّ الاعتراف برجال الدين الذي حصل عام 1943 يخضع لسيطرةٍ صارمةٍ من الشرطة السياسية ومجلس شؤون الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. تمّ التسامح مع الكنيسة فيما يخص ضمان ممارسة العبادة، لكن يُمنع تدخلها في أي شكلٍ من أشكال الحياة العامة.
في وقتٍ لاحقٍ، أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى توجه عدد متزايدٍ من المواطنين إلى الكنيسة: فقط ثلث الروس حرصوا على القول أنّهم أرثوذكس في عام 1991 مقارنة ب 74% في عام 2012، بينما شكّل المسلمون 7% من الذين شملتهم استطلاعات الرأي.
السكان غير ملتزمين بممارسة شعائر الدين:
بهذا الشكل اقامت كلًا من الكنيسة والدولة تقاربًا اعتبره كل طرفٍ مربحًا. أندريه بيجلوف احد المختصين في شؤون الكنيسة الأرثوذكسية البارزين في روسيا يقول أنّ “الكنيسة تسعى إلى زيادة ظهورها وتأثيرها في المجالات التي تهمها بشكلٍ مباشر: الأسرة والثقافة والتعليم والإنجاب والأخلاق” ثمّ يستدرك بيجلوف أنّ كل هذا “بدون تسجيل أي نجاحات”.
في أعقاب ضغط النشطاء الأرثوذكس، أُجبر إصلاحٌ مدرسي على إضافة دروس “أسس الثقافة الدينية والأخلاق العلمانية”. منذ عام 2012 أصبح بإمكان الوالدين اختيار مادةٍ لأبنائهم تتكيف مع إيمانهم، رغم أن هذا الاختيار لا يتم احترامه دائمًا بسبب نقص الموارد.
يمكن أيضًا للبطريركية الاعتماد على وزيرة التعليم أولغا فاسلييفا، المؤرّخة الشهيرة للكنيسة الأرثوذكسية والقريبة من الأرشمندريت تيخون شيفكونوف، خصوصًا أنّ الوزيرة بذاتها تؤيد زيادة عدد الساعات المخصصة للتربية الدينية.
للكنيسة أيضًا مداخلها إلى وزارة الصحة، حيث تابعت لجانها بانتظامٍ جلساتٍ تخصّ صحة المواطنين، وأعطى الأساقفة أيضًا رأيهم في السياسات الصحية: في إحدى هذه الاجتماعات، في تشرين الأول/أكتوبر 2015 شرح الأسقف بانتيليمون تشانوف للوزيرة فيرونكا سكفورتسوفا أن فيروس نقص المناعة البشرية -الإيدز- “له أسبابٌ اجتماعيةٌ وأخلاقية، أو بالأحرى لا أخلاقية” وتابع الأسقف تشانوف أن “الطريقة الوحيدة لمكافحة هذا المرض هي تعزيز القيم الأخلاقية السليمة”.
كما تدعم الحكومة المراكز التي تُعنى بالنساء الحوامل والأمهات الشابات، هذه الدور تديرها الجمعيات الأرثوذكسية، مثل بيت الأمهات وسط موسكو.
تقول المديرة ماريا ستودينيكا “عشرات النساء اللواتي نستقبلهنّ في مركزنا يرفضن الإجهاض رغم ضغط شريكهنّ أو صعوبة وضعهنّ المادي” وتضيف مديرة البيت أن الإجهاض “جريمة قتل”، بالنسبة إلى هذه المرأة الشابّة ذات 29 عامًا “يجب أن تكون أرثوذكسيًا وطنيًا وأن تحبّ روسيا، يجب أن ترفض المرأة قتل طفلها في المستقبل” لأنّ هذا الطفل حسب رأي السيدة “سيكبر ليكون جنديًا يدافع عن بلده” ثم تستأنف القول أنّ “بوتين يستمع كثيرًا إلى بطريركنا”.
في عام 2014 نجحت الكنسية في إفشال مشروع إصلاح محاكم القاصرين، الذي يهدف إلى إدخال مبدأ الوصاية القضائية الخاصة، واعتماد نهجٍ أقل عقابيةً بالإضافة إلى إيجاد بدائل عن عقوبة السجن.
وباسم الدفاع عن وحدة الأسرة نجحت الكنسية كذلك في دفن التشريع المتعلق بالوصاية الاجتماعية، وهو نظام دعمٍ للأهل الذين يعانون من صعوباتٍ يُفترض بسببها إيداع الأطفال في مؤسساتٍ متخصصة.
ومع ذلك فإنه من الخطأ أن نقول أنّ الكنيسة قادرةٌ على فرض خطّها السياسي على السلطة الروسية، أحيانًا تطغى نشاطات بعض الجماعات الأرثوذكسية الأصولية على البطريركية.
في الخريف الماضي، هذه الجماعات تمكنّت من تعطيل إنتاج فلم ماتيلدا لأليكسي أوتشيتيل، هذا الفلم يوري قصة حب آخر القياصرة نيكولا الثاني مع راقصة باليه. أجبروا اثنين من أهم دور السينما على إلغاء تصوير الفلم.
المطران هيلاريون رئيس قسم العلاقات الكنسية الخارجية لبطريركية موسكو أوضح عُقب تلقي أكبر دور السينما في روسيا تهديداتٍ متكررةٍ من نشطاء دينيين وقوميين اعتبروا الفلم تجديفًا، أوضح المطران أنّه “بدون شروطٍ وبشكلٍ قطعي نحن ضدّ أي تحريضٍ على العنف” ويضيف “في نفس الوقت لا أستطيع ولا أريد أن أقف إلى جانب أولئك الذين يدافعون عن الفلم”.
وفي أعقاب إدانة ثلاثة أعضاءٍ من المجموعة النسوية -بوسي ريوت- لأنهم قاموا بأداة صلاةٍ “ساخرة” في عام 2012 في كاتدرائية المسيح المخلص في موسكو، رحبت البطريركية باعتماد قانون جريمة “إهانة المشاعر الدينية”.
من جهةٍ أخرى لا تتطابق مواقف المؤسسة الدينية بالضرورة، يتعرض الإجهاض الطوعي القانوني منذ عام 1920 في روسيا – باستثناء بين عامي 1936 و 1945- لهجماتٍ متكررةٍ من قبل الكنيسة. في أيلول/سبتمبر 2016 وقّع البطريرك كيريل عريضةً تدعو “لوضع حد للقتل القانوني للأجنّة” ويطالب كذلك “بتعديلاتٍ تشريعيةٍ لحظر حبوب منع الحمل الصباحية”.
لكن هذه المناورات ليس لها تأثيرٌ في روسيا كما في فرنسا، حيث يمكن للمرأة أن تقرّر الإجهاض حتى الأسبوع الثاني عشر من الحمل، ومن الأسبوع الثالث عشر وما بعده يُسمح بالإجهاض فقط في حالة الاغتصاب او حالةٍ مرضية. بينما حتى عام 2012 تمّ التحفظ على الأسباب والعوامل الاجتماعية مثل الفقر أو سجن الأب.
الأب ديمتري سميرنوف المتحدث الجديد باسم الكنيسة الأرثوذكسية يرى أنه بدون الكنسية كان “سيتم تجاهل جرائم القتل هذه بصمت” ويُعطي سميرنوف أهميةً كبرى للحوار الذي تقوده الكنيسة في خفض نسبة الإجهاض “بفضل الحوار الذي نقوده لحظره انخفض الإجهاض في روسيا إلى النصف منذ أربع سنواتٍ حتى الآن”.
لكن سميرنوف يتناسى أنّ هذا الانخفاض في الإجهاض له علاقةٌ أيضًا بتحسن الوصول إلى وسائل منع الحمل وزيادة الاهتمام بصحة المرأة.
وفقًا لاستطلاع رأيٍ أجراه مركز ليفادا في كانون الثاني/يناير 2018، فإنّ 35% من المشمولين بالاستطلاع يعتبرون أنّ الإجهاض أمرٌ “صادم” حتى لو لم تكن العائلة قادرةً على إعالة الطفل، مقارنةً ب 18% عام 1998 كانوا يتبنون ذات الرأي.
لكن التأثير المتجدّد للكنيسة الأرثوذكسية في الحياة السياسية لا يقترن بارتفاع التعصب الأعمى، فما يقرب من 30% من الناس الذين يدّعون أنهم أرثوذكس يقولون أنهم لا يؤمنون بالله، منهم 3% فقط يذهب إلى الكنيسة مرةً واحدةً في الأسبوع. الأمر نفسه في فرنسا عند الكاثوليك، وتبتعد النسبة عند البروتستانت في أمريكا إلى 48%.
نقص الكنائس الموجودة على مسافةٍ معقولةٍ لا يُفسّر إلّا جزءًا بسيطًا من هذا الحضور المتواضع، الكنائس في موسكو كثيرةٌ جدًا ومع ذلك تبقى فارغةً أغلب الأحيان، وهي حالة كنيسة -بيمين لوغراند- شمالي العاصمة، أيام الأحد من الشائع أن يقوم البابوات بالقدّاس أمام عشرين جدّةٍ فقط. رغم ذلك فإنّ هذا الحضور أكثر مما كان عليه في العصر السوفييتي.
في الواقع، إيليا ستونياكين الذي يعمل مصمم رسومياتٍ يذهب إلى الكنيسة مرةً واحدةً في السنة فقط بمناسبة عيد الفصح الأرثوذكسي، ولكنّه يبدو مع ذلك متدينًا، فهو يرتدي الصليب ويتحرى الصوم ولديه وشمٌ ضخمٌ للعذراء على ظهره منذ أكثر من ستة اشهر.
يقول ستونياكين أنّه يغامر بتدينه هذا بعلاقته مع أسرته الملحدة، وبالتزامه بالكنيسة يتحدى والديه “أسرتي ملحدة، لا تزال تعتبر أنّ الدين أفيون الشعوب” في إشارةٍ إلى كارل ماركس. ستونياكين ينظر بعين الرضا إلى التقارب بين الرئيس والبطريريك إذ أنّه وحسب وجهة نظره “الكنيسة هي الضامن الأخلاقي للحياة السياسية الروسية”.
في حالة أنّ غالبية الرّوس يعتبرون أنفسهم ارثوذكس فإنّ هذا الأمر يعكس القليل من الاعتقاد الديني مقابل الكثير من الانتماء القومي إلى الأمة الروسية، من هنا تأتي أهمية التقارب بين البطريركية والحكومة، هذا التقارب بدأ منذ عام 1991 بهدف وضع الأسس الإيديولوجية للدولة القومية.
بعد كلّ شيءٍ ومنذ بطرس الأكبر الذي قام في 1721 بتقطيع أوصال البطريركية لصالح مجموعة من الشخصيات البارزة -المجمع المقدّس- الذي تم تعيينهم برعايته، منذ ذلك الحين والسلطة الروسية غير الدينية تسيطر على السلطة الدينية.
يتم تعريف الأرثوذكسية على أنها أحد مكونات الهوية الوطنية، حيث قام الكونت سيرجي يوفيروف بوضع نظرية “الأرثوذكسية والأوتوقراطية والمبدأ الوطني”. كان يوفيروف وزيرًا للتعليم في عهد نيكولا الأول (1825-1855)، حيث يرى أنّه في هذا الثالوث “قلب النجاح”، كما حاول حماية بلاده مما اعتبره “التلويث” الذي تحمله أفكار الثورة الفرنسية في الحرية والعدالة والأخوّة.
منذ عام 1997، وخلال رئاسة بوريس يلتسين تمّ حصول أول تجاوزٍ ضدّ مبدأ العلمانية، حيث أكّد دستور 1993 على قانون “يعترف بدورٍ خاص للكنيسة في تاريخ روسيا وفي نهوض وتطور روحانية البلد وثقافته”. في هذا الدستور أُعطيَت الأسبقية للأرثوذكسية، وتمّ بعبارةٍ أخرى التأسيس “للتعدّدية الهرميّة” حسب تعريف ألكسندر أغجانيان المتخصص في الديانات في موسكو.
خلال ولايتي بوتين الرئاسيتين (2000-2008) قدّم الرئيس نفسه كقائدٍ جيدٍ ولكن بدون إيديولوجية، إذ أنّه في ذلك الوقت كان يُزعج طموحات الكنيسة التي كانت محرومةً من فرض ضريبةٍ لتمويل شعائر العبادة أو افتتاح قناةٍ تلفزيونيةٍ فيدرالية.
بعد ذلك كانت بداية إعطاء دورٍ خاص للأرثوذكسية خلال ولاية دمتري ميدفيديف؛ الذي تميزت بداية ولايته بوفاة البطريرك ألكسيس الثاني نهاية عام 2008. منذ ذلك الوقت حاول خليفته كيريل إعادة تأهيل نموذج “سيمفونية السلطة” التي أنشأها الإمبراطور البيزنطي جستينيان في القرن السادس عشر.
حسب هذا المفهوم فإنّ القوى الدنيوية والروحية عليها أن تتعاون وتتبادل الدعم. كان ردّ مدفيديف بأن دعا في رسالة تهنئةٍ إلى البطريرك الجديد إلى حوارٍ مع الكنيسة، هدفُ هذا الحوار كما جاء في الرسالة “تطوير البلاد وتوطيد القيم الروحية” والتي حسب مدفيديف “لا يمكن الفصل بينهما”.
الخضوع إلى رجال الدين:
بسرعةٍ كبيرةٍ وخلال رئاسة مدفيديف -كان بوتين وقتها يشغل منصب رئيس الوزراء- تمتعت الكنيسة بخصوماتٍ ضريبيّةٍ كبيرةٍ على عائداتها الهائلة آنذاك: 506 مليار روبل -76 مليار دولار تقريبًا- في عام 2014، وذلك بفضل تبرعات المتدينين ورعاية الأثرياء، بالإضافة إلى عائدات مبيعات الرموز والشموع والتماثيل المزخرفة والكعك.
في الوقت الذي تتعرض فيه روسيا إلى أزمةٍ اقتصاديةٍ متأثرةً بالأزمة العالمية، لا يتردد مدفيديف في إنفاق 6 مليارات روبل بين عامي 2008 و 2010 لبناء الكنائس في جميع أنحاء البلاد. وفي عام 2010 التزمت الدولة بإعادة أكثر من 6400 عقارٍ صادرتها السلطات السوفييتية من الكنيسة.
في المقابل وافق البطريرك كيريل على دعم برنامج “التحديث” الذي تمّ إطلاقه في رئاسة مدفيديف، والذي يجمع بين إحياء الخصخصة في الشركات الكبيرة المملوكة للدولة وفتح اللعبة الانتخابية إلى المزيد من القوى السياسية.
ألكسندر فيرخوفسكي رئيس مركز سوفا في موسكو -يجري دراساتٍ حول التسامح الديني ومسألة كراهية الأجانب- يوضح في جانبٍ من أبحاثه أن “الكنيسة تساعد الدولة لأنها تستفيد، ولكن عليها أيضًا أن تعترف أنّه ليس لديها خيارًا آخر حقيقي” ويتابع أن “العلاقة بين الكنيسة والدولة غير متكافئة، لأنّ الدولة تتحكم بكل شيء”.
علاقة التعاون هذه -غير المتكافئة- اتضحت أكثر عند عودة بوتين إلى الرئاسة. أُعيد انتخابه عام 2012 بعد حملةٍ حصلت خلالها مظاهراتٌ بلغت شدةً لم تشهدها منذ أول انتخاباتٍ له عام 2000.
قرّر الرئيس إذًا تعبئة السكان الذين لم يقفوا معه بعد، لكن تحت عنوانٍ أكثر قبولًا لدى هذه الفئة: “الدفاع عن القيم الروسية التقليدية ضد الغرب الذي -حسب موسكو- يسعى إلى تطويق روسيا عسكريًّا وإلى إسقاط الأنظمة التي لا تتفق مصالحها مع مصالح الغرب الجيوسياسية”.
يؤكد الأب سميرنوف أمام نادي فالداي للحوارات عام 2013 أنه “بدون المعايير الأخلاقية التي تشكلت منذ آلاف السنين يفقد الناس حتمًا كرامتهم الإنسانية”. ويُضيف سميرنوف بعد عامٍ أمام نفس التجمع “لكي يكون المجتمع موجودًا بشكل حقيقي، يتعين دعم واحترام تقاليدنا وديننا” ويتساءل معترضًا على السماح بإصدار قانونٍ يُجيز زواج المثليين “كيف لروسي أرثوذكسي أن يقبل بزواج المثليين؟ لا، لا يمكن أن تقبله روسيا ولا الكنيسة”.
تُقدّم الكنيسة -كونها مكونًا وطنيًا- وسيلةً ممتازةً لإبراز وجه روسيا خارج حدودها، حيث تتباهى بطريركية موسكو بحوالي 150 أرثوذكسي يصلّي في جميع أنحاء العالم، وعلى الأخص في بقايا الامبراطورية الروسية السابقة.
بعد ضمّ شبه جزيرة القرم التي تضمّ القاعدة البحرية الروسية الاستراتيجية جدًا في سيفاستوبول، يتذكر بوتين أنّ شبه الجزيرة شهدت معمودية القديس فلاديمير “معموديةٌ أرثوذكسيةٌ تحدّد أسس وقيم وحضارة الشعوب الروسية والأوكرانية والبيلاروسية”.
مع ذلك فإنّ تقارب وجهات النظر بين كيريل ورئيس الدولة ليست دائمًا في أحسن حالاتها، وهذا ما يشكل مصدر إزعاجٍ إجباري للكرملين . يهتم سيريل بالعناية بالمجتمع الأوكراني الأرثوذكسي الكبير، هذا الاهتمام يجعله جسرًا بين كييف والمتمردين الانفصاليين في دونباس المدعومين من موسكو.
في 27 كانون الاول/ديسمبر 2017 ادّت وساطة بطريركية موسكو إلى تبادل أكثر من مئة سجين على جانبي جبهة القتال.
وفي نهاية 2016، ساعد افتتاح مركزٍ أرثوذكسي روحي وثقافي روسي في باريس على إيقاد المصابيح الأرثوذكسية في قلب العاصمة الغربية. وفقًا للباحثة مارلين لارويل فإنّ هذا المجمّع بما في ذلك الكاتدرائية والمدرسة والمركز الثقافي كلّف موسكو 150 مليون يورو، وأكدت أنّ “الأداة الأرثوذكسية تشكّل جزءًا من القوّة الروسية الناعمة”.
جميع الأوراق بيد الدولة الروسية، لكنّ “الوضع يخرج عن السيطرة بسرعة” حسب تقديرات بوريس فيشنفسكي النائب في الدوما عن سان بطرسبرغ، والذي يرأس الحركة المعارضة لنَقِل حق استخدام كاتدرائية القديس إسحاق إلى الكنيسة الارثوذكسية.
الكاتدرائية التي حوّلها ستالين إلى متحف “الإلحاد” ثم تحولت إلى متحف التاريخ والفنون عام 1937، تشكّل أحد المواقع السياحية الرئيسية في المدينة حيث وصلت عائداتها إلى 12.5 مليون يورو عام 2016، والتي سترجع جميع عائداتها الآن إلى الكنسية، فيما تبقى تكاليف ترميم البناء وصيانته على عاتق الدولة الروسية.
يقول فيشنفسكي “لا أفهم لماذا تتجه الدولة نحو الكنيسة الأرثوذكسية، إنّها لعبةٌ خطيرةٌ للغاية” ويستغرب النائب تفضيل الدولة للأرثوذكسية على حساب باقي الأديان والطوائف، إذ برأيه تُخاطر الدولة بإثارة الكراهية لديهم واستبعادهم من العقد الاجتماعي الروسي.
تقول الباحثة كاثي روسيليت المتخصصة في شؤون الكنيسة الارثوذكسية في روسيا “الأساس ليس تأثير الكنيسة على تصرفات الحياة اليومية بل على رمزيتها فقط”.
ويحذّر فيشنفسكي أنّه “طالما أنّ الدولة ستحتاج إليها بصفتها مدافعًا عن القيم التقليدية، فسيرتفع التملق والانحناء للكنيسة”، ويتوقع أيضًا أنّ هذا التزاوج بين الكنيسة والدولة “سيلدُ وحشًا”.
الصحفية آناييس لوبيت -لوموند ديبلوماتيك- آذار/مارس 2018
https://www.monde-diplomatique.fr/2018/03/LLOBET/58469
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية “
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية © 2018