على ضرورات الحدث الدولي المتعلق بِـ نقل السفارة الإسرائيليّة، إلى القدس الشريف، واعتبار المدينة المقدّسة عاصمة “دولة إسرائيل” حسب الأدبيات الأمريكيّة، يضطلع برق الاستشاري بدوره في البحث عن الوجود الإسرائيلي في الشرق، عبر سلسلة تنويريّة تُعنى بالجذر التاريخي لِلحدث، ومخرجاته الحاليّة، والمستقبليّة.
عن نشوء اليهود، وعلاقتهم بِبني إسرائيل، وبالتعاون مع الباحث أحمد طلب الناصر، يقدّم برق الاستشاري مادته تحت عنوان “بنو إسرائيل “نظرة في النصوص والتاريخ”
تمهيد: بعد مرور ما يقارب 14 قرناً على نزول القرآن الكريم، لازال فريقٌ مِن المهتمين يخلط بين العديد من المصطلحات والكلمات القرآنيّة، رغم أن القرآن جاء واضحاً بتحديده التعابير والمصطلحات، ومدلولاتها، سيما وأنّ اللغة العربية التي نزل بها، غزيرة الألفاظ والتراكيب والتشكيلات، التي لكل منها تفسيرًا ومعنًا خاصًا، مقرون بالمكان والزمان والمدلول التكويني، حسب مطارحها في الجملة اللغوية العربية التي اعتمدها النصّ القرآني.
ومن بين المفاهيم التي سيمرّ عليها هذا العرض البياني: “اليهود” و“بني إسرائيل“، وما يتعلق بِـ هذين المصطلحين دينياً وتاريخياً، تفسيرًا، وتحديدًا تمليه حقيقة انتمائنا ونظرتنا إلى الحياة والكون والإنسانية، وقد استندت هذه المادة في تدعيم الفكرة، والسعي في بحثها، إلى ثلاثة مرتكزات علميّة رئيسة، هي: المصدر التاريخي، واللغوي، والديني، وتلك المصادر الثلاثة، تجتمع أصلاً في النص القرآنيi، الذي سيشكّل الاعتماد على آياته الحلقة الأوسع في سعينا هذا.
أولاً– أصل تسمية “بني إسرائيل“، وذكرهم في القرآن:
الباب الأول يتناول مكوّن بني إسرائيل قبل تناول مصطلح اليهود، نظراً لأسبقية التواجد المكوّن الأوّل تاريخيّا قبل الثاني، حيث لم تأتِ آية من آيات القرآن على ذكر اليهود في المواضع التي تم فيها ذكر موسى عليه السلام أو من سبقه من الأنبياء جميعاً، أما بني إسرائيل فقد رافق وجودهم جميع الأنبياء الذين أعقبوا إسرائيل (يعقوب عليه السلام) وصولاً إلى المسيح عليه السلام كما سيمر معنا لاحقاً. وكذلك كان ورود ذكر يعقوب وبنيه في القرآن الكريم أكثر مما ذكر اليهود بأربعة أضعافii، وكذلك كان ذكر موسى عليه السلام، نبي بني إسرائيل ومخلصهم، الذي لم يذكر القرآن نبياً بنصف ما جاء على ذكر موسى.
إسرائيل كما هو معروف، الاسم الثاني ليعقوب عليه السلام، ومن هنا أُطلق على أبنائه “بنو إسرائيل“، وهم الأسباط الاثنا عشر، وهم: يوسف، وبنيامين، ولاوي، ويهودا (يهوذا)، ويساكر، وشمعون، ونفتالي، وجاد، ودان، ورؤبين، وزبولون، وأشير. ومعنى إسرائيل كما ورد في المصادر العربية هو “صفوة الله” أو عبد الله، أما معناها الحرفي كما جاء في العهد القديمiii، فهو الذي يصارع الله، وأصلها عندهم (إسرا) يصارع و(إيل) بمعنى الإله، لأن كتبة العهد القديم من اليهود، زعموا أن يعقوب تصارع مع الله– جل وعلا– حتى بلغ منه الجهد، فأطلق الله عليه هذا الاسم.
مَن هو يعقوب (إسرائيل): ابن النبي إسحاق بن إبراهيم، كان على دين آبائه، “حنيفاً مسلماً“iv، ولم يكن على دين اليهود، الذين ظهروا بعده بأكثر من أربعة أجيال، هذا إن افترضنا بأن التوراة التي نزلت على موسىv هي شريعة اليهود، وبالتالي فالتوراة أنزلت بعد يعقوب ولم يعهدها أو يعاصرها.
لم يُذكَر أحد في القرآن لا مِن الأنبياء ولا مِن المُرسَلين ولا من الملائكة، كما ذُكر موسىvi، وكذلك بني إسرائيل تكرَّر ذكرهم في القرآن الكريم كما لم تتكرَّر قصة أخرى عن الأمم الأولى، عن الأقوام الذين تلقَّوا الوحْي واستمَعوا إليه، إما استماع طاعة أو استِماع مَعصِيَة، وقبل الانتقال إلى الباب الثاني، الذي سيتناول المكوّن الثاني (اليهود) من جوانب عدة، تمهيداً للفصل الأهم والأشد خطورة، والذي يستعرض الحديث عن حقيقة العلاقة بين اليهود وموسى والتوراة _العهد القديم_.
هنالك آيات من القرآن الكريم نلاحظ مِن خلالها أن الله عز وجل يخاطب بني إسرائيل بصفتهم أتباع رسالة واضحة المعالم، منهم المطيع ومنهم العاصي على اعتبار ما تمّ فيها مِن ذكر حالات مختلفة تعرّض لها بنو إسرائيل في مراحل تاريخية متفرقة، منها ما يعود إلى عصر ما قبل موسى، وأخرى إلى عصر موسى، وأخرى أيضاً إلى زمان داود وسليمان، وهكذا وصولاً إلى اللحظة التي رُفع فيها المسيح عليه السلام إلى السماء، والتي كانت الآية التي تناولت آخر ذكر لبني إسرائيل، لتقتصر إشارة النص القرآني بعد هذه المرحلة التاريخية على اليهود فقط، طيلة المرحلة الزمنية التي فصلت بين صعود المسيح وإقامة الرسول محمّد عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة ووفاته فيها.
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴿٤٠ البقرة﴾
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴿٨٣ البقرة﴾
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴿٢١١ البقرة﴾
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿٩٣ آل عمران﴾
حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ﴿٩٣ آل عمران﴾
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ﴿٧٠ المائدة﴾
وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴿٧٢ المائدة﴾
وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴿١١٠ المائدة﴾
قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿١٠٥ الأعراف﴾
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ﴿١٣٧ الأعراف﴾
قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴿٩٠ يونس﴾
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿٢ الإسراء﴾
وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ ﴿٤ الإسراء﴾
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ﴿104 الإسراء﴾
إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿94 طه﴾
كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿59 الشعراء﴾
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ﴿16 الجاثية﴾
فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ﴿14 الصف﴾
آخر آية تناولت ذكر بني إسرائيل، بحسب التسلسل التاريخي للأنبياء وقصصهم في القرآن، _وليس حسب نزول الآيات_، هي التي ورد فيها قوله تعالى: “فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين” (14/الصف)، حيث مثّلت هذه الآية حقبة تاريخية شهدت صراع المكوّنين (بني إسرائيل واليهود)، وهذا يشير إلى ابتداء، أو استمرار مرحلة تتمثل باغتصاب المكوّن الثاني للسلطة الدينية، وتحويلها كاملاً إلى دستور فئوي قبلي، فكان ذلك بمثابة إعلان انتهاء سماوية الشريعة الموسوية بشكل تام، واستبدالها باليهودية الأرضية.
الآية المفصليّة في التفريق العقدي، والوجودي بين الإسرائيليين واليهود تأتي في: “يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين“، وتفسيرها مرتبط زمنياً باللحظات الأخيرة التي سبقت، وشهدت، رفع السيد المسيح إلى السماء، حين طلب من أتباعه التمسّك بتعاليم الإيمان برسالته ومناصرته، بحيث آمنت به مجموعة “طائفة” من نسل بني إسرائيل، وقالوا بأن المسيح هو بشر بالكامل، وعبد من عباد الله، وقام الله برفعه إليه، وهؤلاء وهم “الحواريون_ تلاميذ المسيح وعددهم 12 حسب ما يستشف مِن النص القرآني، حول المبشرين الذين انطلقوا إلى كافة أرجاء المعمورة ينشرون الدين المسيحي ودفعوا أرواحهم ثمناً لذلك.
أما الطائفة الثانية، والتي وصفها القرآن بِـ _التي كفرت_ فقسمٌ قال بأن المسيح هو الله، رفع نفسه إلى السماء، وقسم قال بأنه ابن الله، وقام الله برفعه بعد أن صُلب. وهذه الطائفة هي التي أطلق عليها (النصارى)، الذين قالوا “المسيح ابن الله“vii، وقالوا أيضاً “نحن أبناء الله وأحباؤه“viii.
ثانياً– “اليهود” في المصادر التوراتية والتاريخية:
في العبرية (هيتبعيل) – هيتياهيد، تهود – صار يهوديًا وأيضاً: فعل يهد– هَوّد، أي جعله يهوديًا، نستنتج أن هذا المصطلح لم يشتق من جذر فعل مثل ما هو متوقع إنما اشتق من اسم (يهودا). بمعنى آخر أن هذه الديانة تنسب إلى شخص مثل الزردشتية أو البوذية، أو لمنهج فكري أو فلسفي مثل الماركسية مثلاً، والاسم العلم هذا هو يهودا، أحد أبناء يعقوب والأسباط الاثني عشر.
بالنسبة لليهودية تتفق أغلب التعريفات الاصطلاحية على نقاط: أنّها اسم يطلق على دين يعتنقه بنى إسرائيل، ويعتقدون فيها بأنها منزلة من السماء على موسى وتلقى الشريعة على جبل سيناء بعد خروجه ببنى إسرائيل من مصر، تتمثل في مجموعة العقائد والشرائع والطقوس وقواعد السلوك، تراكمت على مدى آلاف السنين، ولغوياً أصل مصطلح “يهودي” وطريقة استخدامه في العهد القديم لا يعرف إلا من المصادر الدينية وخاصة من أسفار الكتاب المقدّس، وتشير هذه المصادر، إلى أن أصل لقب “يهودي” هو يهوذا بن يعقوب وأطلق أصلا على أبناء السبط الذي خرج منه، ثم أطلق على سكان مملكة يهوذا التي أسسها أبناء السبط مع أبناء بعض الأسباط الأصغر الذين أقاموا بجواره.
في الوثائق التاريخية التوراتية تذكر هذه المملكة باسم “بيت داود” نسبة إلى سلالة الملك داود (النبي داود في الإسلام). وفي سفر الملوك الثاني ( 18،26 ) يذكر اسم “يهودية” كاسم اللهجة المحكية في مدينة أورشليم، منذ السبي البابلي سنة 587 ق.م، وأصبح لقب يهودي يشير إلى كل من خرج من مملكة يهودا وواصل اتّباع ديانتها وتقاليدها، وعليه يكون اليهود سلالة وليسوا ديانة كما قد يُعتَقد، وهم الذين جعلوا من سبط “يهوذا“- سبط الملوك عند أبناء إسرائيل، أصلاً لهم، بدلاً عن الديانة التي نزلت في التوراة على النبي موسى عليه السلام، قبل داود وسليمان بما لا يقل عن 3 قرون، من خلال مقارنة الأحداث وحساب الأجيال بين المرحلتين، كما أن اليهود، في توراتهم الحالية، يعتبرون كلاً من داوود وسليمان واللاحقين لهما عبارة عن ملوك وليسوا أنبياءً، باعتبار أنّ الشريعة اليهودية اللاحقة، التي تطورت منذ القرن الثاني للميلاد تعتبر كل من ولد لأم يهودية يهودياً، وهذا الاعتبار لا يتأثر من هوية الأب أو أسلوب الحياة الذي يتبعه الإنسان، وبهذا تكون اليهودية دين مرتبط بعرق– نسب– أو ما نسمية اليوم قومية، وبالتالي فهي ليست ديانة تبشيرية كما هو سائد في الديانات السماوية وغالبية الأديان الوضعية، بل تشترط رابطة الدم.
ثالثاً– معانٍ حول اليهود في اللغة العربية:
في بعض معاجم اللغة العربية جاء معنى كلمة “اليهود” أنّهم بنو إسرائيل، مِن قوم موسى عليه السَّلام ويُطلق عليهم العبرانيّون، من نسل إبراهيم عليه السَّلام، عاشوا في مصر فترة من الزَّمن اضطهدهم فرعون، وأنقذهم موسى، وهذا المعنى يخلط بين بني إسرائيل، وبين اليهود من جهة أخرى كون ما جاء في معنى الْيَهُود هو: قوم من أَصل ساميّ .وقيل إِنَّهم سُمُّوا كذلك باسم يهوذا أَحد أَبناء يعقوبَ .
جاء في بعض التفاسير: الهود: الرجوع برفق، ومنه: التهويد، وهو مشي كالدبيب، وصار الهود في التعارف التوبة. قال تعالى: ﴿إنا هدنا إليك﴾ [الأعراف/156] أي: تبنا، قال بعضهم: يهود في الأصل من قولهم: هدنا إليك، وكان اسم مدح، ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازمًا لهم وإن لم يكن فيه معنى المدح، وتهود في مشيه: إذا مشى مشيا رفيقا تشبيها باليهود في حركتهم عند القراءة.
وهذا التفسير لا دخل له بما مررنا عليه سابقاً، حيث يخلط بين الهود واليهود، كما وأنه بعيد عن المعنى اللغوي المرتبط باليهود، فالمصدر العربي “هُدى” ومنه الفعل “هاد” أو “اهتدى” أو “هَدى” لا يقبل أن يكون اسم فاعله أو مفعوله “يهودي” وإنما “هادٍ” أو “مهتدٍ“، والجمع منه “هادون” أو مهتدون” وليس “اليهود“.
رابعًا– اليهود في القرآن، واقتران ذكرهم بالنصارى:
بالعودة إلى الآية الكريمة التي تطرقنا إليها في نهاية الفقرة السابقة: “فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين“. (14 / الصف)، نستدل أنّ مجموع من آمن بالسيد المسيح ساعة رفعه إلى السماء، كما ورد في تفسير الآية السابقة، 12 شخصاً فقط، ثم أخذت الرسالة المسيحية بالانتشار على يدهم في بقاع العالم القديم.
والملفت هو اجتماع اليهود مع النصارى في غالبية الآيات القرآنية اللاحقة، وتبنيهم نفس التوجّهات الفكرية والدينية كتلك التي تدّعي أن الله له ولد، أو أنهم (اليهود والنصارى) أبناء الله وأحباؤه، أو عدم رضاهم عن الرسول إذا لم يتبع ملتهم وغيرها من التوجهات، وقبل استعراض آيات اليهود، نود توضيح نقطة، هي أن الله تعالى يخاطب اليهود في جميع تلك الآيات بصفتهم عصاة وكفار فقط، بخلاف خطابه لبني إسرائيل، الذين بيّن الله تعالى في الكثير من الآيات تفضيلهم على عالمي زمانهم، وتحليل الطيبات لهم، وعدم تعميم الأحكام عليهم، وكان الله تعالى يضرب للمسلمين الأمثلة من بني إسرائيل، في الطاعة والمعصية على حد سواء. وثماني آيات ذكر بها اليهود في القرآن الكريم، منها سبعة مقترنة بالنصارى:
-
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شيء ﴿١١٣ البقرة﴾، توضح هذه الآية مدى النظرة الدونية التي ينظر بها كل من اليهود والنصارى بعضهم لبعض، فاليهود لا يعترفون بوجود شريعة ذات قيمة عند النصارى، والعكس كذلك.
-
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴿١٢٠ البقرة﴾
-
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ ﴿١٨ المائدة﴾
-
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴿٥١ المائدة﴾،
-
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ﴿٦٤ المائدة﴾، في هذه الآية ينعت اليهود رب العالمين بالبخل، فألقى عليهم لعنته، كما نشر بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
-
أشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمنوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴿٨٢ المائدة﴾، هذه هي الآية الوحيدة تفرّق بشكل واضح بين اليهود والنصارى في تعاملهم مع المؤمنين.
-
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴿٣٠ التوبة﴾
-
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٦٧ آل عمران﴾، حقيقةً، إن هذه الآية الكريمة، وعلى الرغم من ذكرها المتكرر في مناسبات عدة، إلا أننا نعتبرها من أشد الآيات وضوحاً على أن اليهودية لا تمت بصلة لدين سماوي، والنصرانية بالطبع، أمّا آيّة “وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿٢ الإسراء﴾، فلا يوجد فيها ما يشير لليهود أو اليهودية، كونها توضّح أن الكتاب الذي آتاه الله لموسى (التوراة) لم يكن لطائفة اسمها اليهود أو لديانة اسمها اليهودية، بل هدى لـ “بني إسرائيل” وليس لمجموعة أخرى.
هل اليهودية هي ديانة بني إسرائيل السماوية؟
من خلال إجراء مقارنة بسيطة بين الآيات التي ذٌكر فيها بنو إسرائيل والآيات التي جاءت على ذكر اليهود، نلاحظ أن الله طلب من الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وأتباعه في عدد من الآيات التي جاءت على ذكر موسى عليه السلام وبني إسرائيل بأن يحذوا حذوهم في طاعة الله، وأيضا “أن يجتنبوا المعاصي التي ارتكبها بنو إسرائيل. أما اليهود، فليس من آيات تدلّ على طاعتهم لله، بل وجاءت إحدى الآيات لتضع اليهود في مرتبة أشد كفراً وإيلاماً وعداوة للمسلمين من باقي الديانات والملل، وجاء ذلك واضحاً في قوله عز وجل: “لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ” (82/المائدة). فجاء ذكر اليهود قبل المشركين.
لو كانت اليهودية ديناً سماوياً –كما هو سائد– أو أن يكون قسم من معتنقيها من المؤمنين بوحدانية الله وبما أنزل على موسى من الكتاب، فهل من المعقول أن يلعن الله جميع اليهود على الإطلاق ودون استثناء أحد منهم؟ قال جل وعلا: “وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا” (64/ المائدة، على عكس الحالة في ذكره لمعصية بني إسرائيل، حيث خص ألله عز وجل اللعنة على الذين كفروا من بني إسرائيل، ولم يشملهم جميعاً، وذلك دليل على رسالية بني إسرائيل، رغم وجود عصاة بينهم، كما يرد في سورة المائدة أيضاً الآية 78: “لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ“، ولعلَّ المعنى يشير إلى فئة اليهود في ذكر الذين كفروا من بني إسرائيل، خاصة وأن ظهور اليهودية كان متزامناً مع قيام مملكة داوود وذريته، ما جعلهم ملعونين عند داوود في (الزبور)، وعند عيسى (في الإنجيل) فلو تتبعنا تراتب الآيات الكريمة من 78 وحتى 82 من المائدة، فسنجد: “لُعن الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)، وهنا تكمل الآية82 الآيات الأربع سابقاتها، لتطلق على أولئك “الذين كفروا من بني إسرائيل” تسمية “اليهود“، ما يعني بأنهم لا يدينون بدين بني إسرائيل الذي أنزله الله على نبيه موسى عليه السلام.
ختاماً: على افتراض أننا توصلنا إلى فكرة فك الارتباط ما بين (الديانة اليهودية) وبني إسرائيل، وأيضاً ما بين توراة موسى واليهود، وكذلك ما بين اليهودية والديانات السماوية والتوحيدية، فما اسم الديانة التي نزلت على موسى والتي اعتنقها بنو إسرائيل قبل وبعد التوراة؟ الجواب حسب النص القرآني: “إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ“.
والإسلام هو ليس فقط الذي نزل على محمد، بل ما نزّل على جميع الأنبياء والرسل، حسب إشارة القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: “إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون” (البقرة/133).
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية “
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية © 2018
i – يجب التنويه بأن المصدر التاريخي الذي قصدنا وجوده في القرآن، هو ذكر أحداث، ووقائع، وقصص لأنبياء مع ذكر أعمارهم مثلاً، وليس المقصود أبدأ تحديد زمنهم في التاريخ. أما ما يرد عند بعض الباحثين من تحديد زمنٍ لنبي أو رسول أو حدث ما، فمعظمه عبارة عن فرضيات واجتهادات شخصية، قد يصيب بعضها، وبعضها الآخر يبقى مجرد تخمينات، لا سيما ما تذكره الآيات من تفاصيل سابقة لزمن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. والحقيقة، فإن الباحثين الذين يتناولون بعض القصص المذكورة في القرآن الكريم ويقرنونها بمراحل تاريخية محددة، غالبيتهم يستقون معلوماتهم من أسفار “العهد القديم” الذي يُرجع تاريخ البشرية جمعاء إلى أقل من 6 آلاف عام!
ii – تكرر ذكر إسرائيل في القرآن 42 مرة، أما “اليهود” 9 مرات (ولم نشمل الكلمات التي اعتبرها البعض مرتبطة باليهود، مثل هوداً، هاد، هدنا..)
iii – (تكوين/ 32-29،28)
iv – سورة آل عمران– 67، الآية كاملة تقول: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين).
v – كان موسى من أبناء الجيل الرابع من نسل يعقوب حسب العهد القديم، وكان من سبط (لاوي).
vi – تم ذكر موسى في القرآن الكريم 136 مرة.
vii – التوبة– 30
viii – المائدة– 18