رأي: في مواجهة صعود الصين يسعى الاتحاد الأوروبي إلى ضبط هذا الشريك الرئيس، وعدم السماح له بالتصرف بشكل كامل كما يحلو له، توازنٌ صعب.
بقلم: ستيفان أيمارد، جامعة لا روشيل[1]
اعتمد الاتحاد الأوروبي مؤخرًا برنامجه الإطاري الجديد للبحث والابتكار بعنوان “”Horizon Europe ، ومن المتوّقع أن يموِّل هذا البرنامج إجراءً استراتيجيًّا مبتكرًا هو « Upgrading independent knowledge on contemporary China in Europe » أي “رفع مستوى المعرفة المستقلة عن الصين الحالية في أوروبا”. الهدف هنا هو دعم عمل الباحثين في العلوم الاجتماعية، مما يجعل فك رموز الصين ممكنًا، وذلك للسماح بالتبادل والتعاون الآمن في المسائل التجارية بين الجهات الفاعلة في العالم الاجتماعي والاقتصادي، أي التبادلات التي لن تكون ضحية الاستراتيجيات أو التقاليد أو السياسات الصينية غير المعروفة كما يجب، والمقلقة في الأمور التجارية.
لقد تغيرت الصين، ولم تعد “البلد النامي” كما كانت توصف أحيانًا في الماضي. وبصرف النظر عن أهميتها في التبادل التجاري مع أوروبا، فهي تُصنّف على أنها الفاعل الذي تكثّفت العلاقات معه في مجالات البحث والتطوير أو في مجال التكنولوجيا، وبالنسبة للاتحاد الأوروبي تُعتبر الصين في نفس الوقت شريكًا ومنافسًا اقتصاديًّا، وهي كذلك منافسٌ أو بديلٌ في مجال الأنظمة والحوكمة.
أهداف الشراكة:
الهدف الأساسي للاتحاد الأوروبي هو التكتل ضد العملاق الصيني. في آذار/ مارس ٢٠١٩ نشرت المفوضية الأوروبية خطّةً استراتيجيةً في مواجهة الصين، تتضمن هذه الخطة إجراءات ملموسة، منها على سبيل المثال:
- الدفاع عن أهداف الأمم المتحدة في مسائل حقوق الإنسان والسلام والأمن.
- الالتزام بالحد المتفق عليه من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للمناخ (الصين هي في نفس الوقت أول مصدر للانبعاثات وبناء محطات توليد الطاقة بالفحم في البلدان الأخرى، وكذلك هي الدولة التي تستثمر أكثر من غيرها في الطاقة المتجددة).
- التعايش مع الصين لضمان السلام والأمن في المناطق أو البلدان التي يكون لبكين فيها نفوذ، مثل إيران والقرن الأفريقي أو كوريا الشمالية أو خليج عدن، وفي مناطق النزاعات المحتملة، بما في ذلك بحر الصين.
- تثبيت أسلوب المعاملة بالمثل في التجارة، وذلك بتجنّب الحمائية أو الدعم المفرط للصناعات المحلية (عبر منظمة التجارة العالمية)، فضلًا عن الصعوبات المرتبطة بملكية الدولة لشركات معينة.
- ألا يؤخذ في العقود العامة بعين الاعتبار معيار السعر فقط، بل بيئة العمل كذلك.
- تعزيز الأمن المتعلق بالتقنيات الجديدة (مثل 5G ) لمنع القرصنة والتجسس.
الهدف من هذه الخطة هو تبني نهج أقل “سذاجة” وأكثر نفعية وواقعية تجاه الصين، دون الاستسلام للمزايدة أو التصعيد أو الحرب التجارية، لذلك من الصعب إيجاد مثل هذا التوازن. ولكن ما هو صحيح أنه في كل النقاط المذكورة أعلاه، تكثر الأمثلة على الإخفاقات الأوروبية. بشكلٍ عام استحوذت الصين على العديد من الأسواق من خلال تبني قواعد التشغيل التي سمحت لها بممارسة “المنافسة غير العادلة”، وعليه وللحفاظ على تبادلاته مع الصين، يجب أن يتبنى الاتحاد الأوروبي استراتيجية أكثر هجومية.
دروس من الماضي:
تاريخيًّا، أُقيمت العلاقات الدبلوماسية الأولى بين الجانبين عام ١٩٧٥، واعتُمدت أول خطة شراكة استراتيجية بينهما عام ٢٠٠٣، وتَبع ذلك خطط أخرى، آخرها “جدول الأعمال الاستراتيجي للتعاون بين الاتحاد الأوروبي والصين لعام ٢٠٢٠” الذي تحقق تبنيه عام ٢٠١٣.
هذه الخطة، التي تم استبدال أهداف جديدة بها اليوم، كان لها طابع سياسي أكثر مما هو اقتصادي؛ فالمجالات التي تمّ تناولها كانت تتعلق بالسلام والأمن والمعلومات والتمدّن والمناخ والتقدم الاجتماعي والثقافة والتعليم. وبالطبع تمّت أيضًا مناقشة القطاعات الرئيسة مثل النقل والملاحة الجوية والطاقة والزراعة، وبشكلٍ عام العلوم والابتكار، لكن غالبًا ما كانت تتم هذه المناقشات بطريقة مقتضبة، فقط للإشارة إلى أن الكيانين سيتعاونان ويطوران “مبادراتٍ تجارية” (مختبرات مشتركة، تبادل بيانات، إلخ…).
أخيرًا، يبدو بعد عدة سنوات أن كل ذلك تمّ لمصلحة الصين، حيث يوضح مثال تطوير الملاحة الجوية أو التقنيات الحيوية في الصين أن الدول الغربية كانت خسائرها أكثر من المكاسب، سواء من حيث حصتها في السوق أو في مجال نقل التكنولوجيا.
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، باعت فرنسا – على سبيل المثال – مئات طائرات إيرباص A320 بموجب عقود موقعة خلال زيارات رسمية، مع الإنتاج والتجميع – كفرع للشركة- في الصين، وكذلك نقل المعرفة. اليوم، شركة الطائرات التجارية الصينية قادرة على إنتاج طائرة C919 جديدة التي ستنافس مباشرة طائرة إيرباص A320 حيث يمكن أن تحصل على شهادة الصلاحية للطيران هذا العام، وقد قُدِّم بالفعل ما يقرب من ألف طلب شراء.
علاقات وأدوات اليوم:
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من هذه الخطط الاستراتيجية، لا تزال العلاقات الاقتصادية بين الجانبين الأوروبي والصيني تعتمد على الأحداث الجارية.
حتى إذا أشارت الخطة الأخيرة إلى الوضع في شينجيانج (منطقة الأويغور المتمتعة بالحكم الذاتي)، فإن بضع كلمات في مؤتمر صحفي يمكن أن تؤدي إلى تدهور العلاقات. وفي الآونة الأخيرة أثارت العقوبات الأوروبية المرتبطة بمصير الأويغور غضب الصين، التي ردّت بفرض عقوبات مضادة يمكن أن تتجاوز المجال الدبلوماسي، وتؤدي إلى التشكيك في الاتفاقيات التجارية، وخاصة “اتفاق الاستثمارات الشامل”. ومع ذلك، فإن هذه التطورات حاسمة من وجهة نظر اقتصادية، فعلى سبيل المثال تتوقع الشركات الألمانية (فولكس فاجن، سيمنز، بي إم دبليو) أو الفرنسية (البنوك على وجه الخصوص) الكثير.
وما تزال الصين حازمة في عزمها على تنفيذ “مبادرة الحزام والطريق” الشهيرة، وبلدان أوروبا الشرقية على الطريق. علاوة على ذلك، غالبًا ما يشار إلى العلاقات مع الاتحاد الأوروبي أنها “١٧+١” أو “١٦+١” باعتبار أن دول الشرق الأوروبي واحدة، مما يسمح للصين بالتفاوض معهم بشكل مباشر.
كذلك فإن الخلافات الأخرى حول (5G أو هواوي) أو أصل مرض كوفيد تعطل هذه العلاقات أيضًا، ويمكن أن توفر شركتا نوكيا وإركسون الأوروبيتان للاتحاد الأوروبي بنية تحتية لــ 5G، لكن تبقى هواوي في وضع أفضل من حيث السعر والجودة.
وبالإضافة إلى هذه المسائل الاقتصادية، تُؤخَذ الخيارات السياسية بعين الاعتبار، لا سيما فيما يتعلق بالظروف الأمنية، مثل تلك المتعلقة بحماية البيانات ومخاطر التجسس. وبلغة دبلوماسية يُشار إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يعارض أي شركة، لكنه يسعى إلى تجنب المورِّدين الخطرين، من جهتها ترى الصين في كل ذلك حمائية مقنّعة.
وعلى الرغم من كل شيء، فإن التبادل التجاري مع الصين والاتحاد مهم؛ فالاتحاد الأوروبي هو ثاني أكبر قوة تجارية وأكبر مُصدِّر للمنتجات والخدمات، كما مثلت الصين وأوروبا والولايات المتحدة معًا ٤٦٪ من تجارة البضائع الدولية في عام ٢٠١٩، ومثلت تجارة الاتحاد الأوروبي في السلع (الصادرات والواردات) مع بقية العالم حوالي ١٥٪ من التجارة العالمية. أما بالنسبة للسلع، فإن شركاء التصدير الرئيسين لأوروبا هم الولايات المتحدة (٤٠٦ مليارات) ثم الصين (٢١٠ مليارات)، ومن حيث الواردات الصين (٣٩٤ مليارًا)، ثم الولايات المتحدة (٢٦٧ مليارًا)، وذلك وفقًا لــ Eurostat.
وفي المسائل التجارية، تتفاوض المفوضية الأوروبية على اتفاقيات تجارة حرة مع باقي دول العالم، لكن الدول الأعضاء لها رأيها، وذلك من خلال مجلس الاتحاد الأوروبي (له حق الاستشارة) والبرلمان (له حق النقض)؛ إذ يتحدد الهدف الرسمي للاتحاد الأوروبي في معاهدة سير عمل الاتحاد الأوروبي، التي تتحدد في المادة ٢٠٦، وفيها:
“يسهم الاتحاد، من أجل المصلحة المشتركة، في التنمية المنسجمة للتجارة العالمية، والإلغاء التدريجي للقيود المفروضة على التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي المباشر، وكذلك في تقليل الجمارك وغيرها من القيود”.
نتيجة لذلك، تحولت السياسة الاقتصادية مع الصين، كما هو الحال في مناطق جغرافية أخرى (كندا، اليابان، إلخ) نحو مفاوضات تهدف إلى تطوير التجارة والتخلي عن الحمائية. ومع ذلك، فقد زود الاتحاد الأوروبي نفسه بأدوات للدفاع ضد الممارسات غير العادلة بقانونٍ واسع النطاق، وأهم رمز لهذه القوة هي أمثلة العقوبات ضد الشركات الأمريكية (عمالقة الرقميات).
بالإضافة إلى ذلك، دمَج الاتحاد الأوروبي في استراتيجية التجارة الجديدة المعتمَدة في شباط/ فبراير ٢٠٢٠، بعنوان “مراجعة السياسة التجارية: سياسة تجارية منفتحة ومستدامة وحازمة” احترامَ اتفاقيات باريس بشأن المناخ، واحترام المعايير الأوروبية (البيئة مثلًا)، بدون ذكر الصين بشكلٍ صريح، وتُعتبر هذه القواعد وسيلة لتوجيه السياسة الاقتصادية.
وقبل كل شيء، تأتي الاستراتيجية الأوروبية مصحوبة بأدوات الدفاع التجاري المذكورة سابقًا، وأهم الأمثلة النموذجية على ذلك: مكافحة الإغراق[2]، حيث يُعتبر المنتَج قد استفاد من الإغراق عندما يكون سعر بيعه في أوروبا أقل من سعره في البلد المصدِّر. وغالبًا ما يتمّ إلقاء اللوم على الصين في هذه الممارسة التي تهدف إلى الاستحواذ على الأسواق؛ لكي تجد نفسها في موقعٍ مهيمن، لذلك يهدف التشريع الأوروبي اليوم إلى تسريع عملية اتخاذ القرار قبل فوات الأوان؛ لأن الأسواق وحيازة الأسهم تتغير بسرعةٍ كبيرة.
يمكن الاستشهاد بمثال حديث عن الأحذية الجلدية المستوردة من الصين، ففي عام ٢٠٠٦، ولمواجهة هذا الإغراق، اتخذ الاتحاد الأوروبي تدابير جذرية من خلال فرض رسوم جمركية بنسبة ١٩.٤٪ على المصدِّرين الصينيين، على أساس أنهم استفادوا من إعانات حكومية مخالفة لقواعد منظمة التجارة العالمية (WTO).
في الختام، يعتزم الاتحاد الأوروبي إظهار قوته في علاقاته الاقتصادية مع الصين، ولهذا الغرض، بالإضافة إلى المناقشات الثنائية، يسعى جاهدًا إلى لعب دور قيادي داخل منظمة التجارة العالمية (WTO)، وذلك من خلال إعطاء المفوضية دورًا تفاوضيًّا لجميع الدول الأعضاء، والتعبير عن نفسها بصوت واحد عند التفاوض على المعاهدات التجارية، وذلك بدلًا من الاصطفاف خلف الولايات المتحدة، أو السقوط في حالة من الفوضى.
لا تريبون ٥ من تموز/يوليو ٢٠٢١
الرابط الأصلي من هنا
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021
[1] ستيفان أيمارد مهندس أبحاث في جامعة لاروشيل.
[2] الإغراق أو الإغراق التجاري هو حالة من التمييز في تسعير منتج ما، وذلك عندما يتم بيع ذلك المنتج في سوق بلد مستورد بسعر يقل عن سعر بيعه في سوق البلد المصدر.