أحداث لبنان
هناك من يعتقد، أن ربيع لبنان أو ربما ربيع الطوائف في لبنان وإن كان قد تأخر عدة سنوات عن مواكبة ربيع الثورات العربية، إلا أنه قد وصل أخيرًا إلى بيروت، بيروت التي شهدت قبل سنوات مظاهرات تطالب بتجاوز المحاصصة الطائفية، ورفعت مطالب لمزيد من الحقوق المدنية والسياسية في بلد يتم كل شيء فيه عبر توافقات مرسومة بدقة واتصالات عابرة للطوائف تصل في أغلب الأحيان لعواصم عربية أو إقليمية.
أزمة النفايات
تنادى مجموعة من المهتمين بالشأن البيئي في لبنان وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، تقريبا في بدايات آب 2015 تقريبًا، للاحتجاج على تردي الخدمات في مجال رفع النفايات التي تراكمت أكثر من شهر، وأصبحت مَعْلَمًا من معالم بيروت خلال هذه المدة، وعطلت جزءًا من حياة البيروتيين، ولم يَبدُ أن الحكومة جادة في التحرك لإزالة هذه النفايات قريبًا، ومع أن هذه الاحتجاجات بدأت قليلة العدد أول الأمر، إلا أنه سرعان ما انضم إليها متظاهرون ينتمون إلى جهات سياسية وطائفية، يريدون أن يتظاهروا ليس للاحتجاج على تراكم هذه النفايات فقط، ولكن للمطالبة باستقالة وزير البيئة محمد المشنوق أيضًا، واحتجاجًا على تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
تطور الأمر إلى أزمة سياسية
تم اجتماع الحكومة برئاسة رئيس الوزراء تمام سلام للتباحث واتخاذ قرارات بشأن إنهاء أزمة تراكم النفايات في بيروت، وتم في هذا الاجتماع إلغاء العطاءات السابقة بشبهة الفساد، إلا أن البعض فُوجئ بغياب وزراء حزب الله عن هذه الاجتماعات، بالإضافة للوزراء المحسوبين على الجنرال ميشيل عون، بحجة أن الوضع في لبنان يحتاج إلى بحث القضايا كلها وخاصةً السياسية منها وليس موضوع النفايات فقط، إلا أن الأمر كان قد ارتبك قبل ذلك بقليل في الشارع، حيث خرجت المظاهرات عن سلميتها بقيام المتظاهرين بإلقاء الحجارة وبعض زجاجات المولوتوف على قوات الأمن بتاريخ 22-8-2015، مما أدى إلى إصابة بعض رجال الأمن. الأمر الذي استدعى الأمن للرد على ذلك، وللرد على محاولة اقتحام مبنى رئاسة الوزراء (السراي الحكومي)، وترتب على ذلك إصابة واعتقال العشرات من المحتجين.
حاول المنظمون لهذه المظاهرات إعادة ترتيب المشهد، حيث حاولوا إخراج مَن أسموهم بالمندسين من المظاهرة، وتم التأكيد والإعلان على أن هذه الاحتجاجات سلمية وتتعلق بموضوع النفايات بالأساس، ولكن هناك من قال بأن هذه المظاهرات لا تواجد للمندسين فيها، بل هم مواطنون عاديون سئموا من تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية، ويجب أن تسمع أصواتهم التي تطالب بتصحيح الوضع. وزادت المطالبات إلى حد المطالبة باستقالة الحكومة برئاسة تمام سلام، على اعتبار أن الحكومة هي المسؤولة الأولى عن تردي الخدمات المُقدمة للمواطنين. وردت الحكومة بدورها بأن هذه المطالبات تنطلق من جهة معروفة ومن فصيل سياسي واحد، وإن كان القصد حزب الله وحركة أمل وأنصار الجنرال عون.
لم تكف الحكومة عن التصريح بأنها تؤيد هذه التظاهرات إذا التزمت بسلميتها، وأن ما حصل من تجاوز من قبل رجال الأمن سيتم معالجته، وأنها لا تستطيع الاستقالة حسب ما قال رئيس الوزراء تمام سلام، ليس تشبثًا بالسلطة ولكن لكيلا يحصل فراغ في السلطة، حيث إن منصب رئيس الجمهورية شاغر منذ أكثر من سنة؛ بسبب عدم التوافق على تسمية شخصية يقبلها الجميع، ولكون الحكومة شبه معطلة نتيجة الخلافات السياسية بين الفرقاء، والتجاذبات الطائفية، والبرلمان منقسم على نفسه نتيجة الأسباب ذاتها، بل إن البعض ينظر لاستقالة الحكومة كنوع من تفرد طيف سياسي وطائفي وهو حزب الله وأنصار عون، وإحكام سيطرتهم على السلطة، وأن هذا الأمر لن يقبل به مَن في الطرف الآخر.
بل تجاوز الأمر أن تداعى البعض من أنصار تيار المستقبل وخاصة في طرابلس في الشمال حيث الأغلبية السنية، تداعوا لحماية رئاسة الوزراء من أي اعتداء عليه من قِبل المتظاهرين، حيث شكك هؤلاء بهذه التظاهرات معتبرين إياها تهدف لزعزعة أمن البلد، وما الاحتجاجات على تراكم النفايات إلا غطاء للكثيرين من هؤلاء المحتجين، حيث يعتبر منصب رئاسة الوزراء المنصب الأهم للسنة في المحاصصة اللبنانية بما تضمنه اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب اللبنانية.
تباين في وجهات النظر
بدا للوهلة الأولى أن الاحتجاجات على تراكم النفايات في بيروت، والمظاهرات التي تبعتها، تُوَحِّدُ اللبنانيين على مطلب اعتقد الكثيرون أنه بعيد ولو نسبيًا عن أمور السياسة، لذا من الممكن أن يجتمعوا عليه، ولكن اتضح أن هذه الاحتجاجات في الحقيقة ذات بعد سياسي عميق رغم صلتها المباشرة بالبيئة، وحق المواطنين بخدمات تليق بسمعة بيروت كمركز حضاري وإشعاع ثقافي عربي ومتوسطي.
لم يكن غريبًا في بلد مثل لبنان يقوم على التوافقات والتسويات بين الطوائف، أن تتباين فيه وجهات النظر حتى على التظاهرات التي تحتج على تراكم النفايات، حيث أعلن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أن هذه المظاهرات خرجت عن المطالب الأساسية لها وأنه تم تسيسها، وأعلن انه سيسحب تأييده لها، وأنها لم تعد احتجاجات سلمية. وبالتأكيد كان يقصد أن من خطف المظاهرات وأخرجها عن سلميتها هم حزب الله وحركة أمل وأنصار الزعيم عون.
وأما بالنسبة للزعيم المسيحي سمير جعجع، فهو لا يريد استقالة الحكومة تحت وطأة هذه المظاهرات بحجة أن ذلك سوف يزيد من الفراغ الدستوري الحاصل في لبنان ويجعل حزب الله وجماعة 8-آذار يستولون على السلطة بشكل أو بآخر، ودعا أن تكون هذه المظاهرات للضغط على القوى السياسية لانتخاب رئيس للبنان. ومن المعروف أن جعجع يطرح نفسه كمرشح رئيسي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية وينافسه من الفريق الآخر الجنرال ميشيل عون، أما بالنسبة لرئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل الشيعية اللبنانية نبيه بري، فهناك من يعتقد أن هذه المظاهرات ربما تهز عرشه السياسي، حيث إنه يترأس البرلمان منذ مدة طويلة، وجزءٌ من هذه المظاهرات يقوم على التنديد بالجمود السياسي، وعدم فاعلية الأجهزة السياسية والخدمية في الدولة، لذا حوّل بعض أنصاره المحتجين من التظاهر أمام البرلمان إلى التظاهر أمام رئاسة الوزراء.
أما حزب الله، فقد وجد في هذه الاحتجاجات فرصة للضغط من خلال مناصريه المتواجدين في هذه المظاهرات أو الذين تم الدفع بهم لاحقا إليها، والتأكيد على قوته، ومحاولة توضيح أن اتفاق الطائف الذي تم على أساسه تقاسم السلطات الأساسية الثلاث في لبنان بين الشيعة والسنة والمسيحيين، والذي كانت فيه رئاسة البرلمان من حصة الشيعة ربما لم يعد صالحًا، والذي كانت فيه رئاسة البرلمان من حصة الشيعة، ربما أراد أن يؤكد على أن هذه القسمة لم تعد مناسبة الآن بعد مضي حوالي ربع قرن عليها، تغيرت فيها أشياء كثيرة، حيث أصبح الشيعة اللاعب الأقوى عسكريًا عن طريق حزب الله، و الطائفة الأكثر سكانًا، وخرجت إيران -نصير حزب الله الأساسي- من مفاوضاتها النووية كلاعب مركزي في الشرق الأوسط، وكقطب دولي، وربما وجد حزب الله في هذه المظاهرات الفرصة لتأكيد وضعه المتفوق، ولحصد مزيد من المكاسب قبل أي تسوية في سورية ربما تكون نتيجتها تغيير النظام فيها عبر سقوط الأسد، سواءً كان ذلك من خلال انتصار عسكري للمعارضة أو من خلال تسوية سياسية.
أما بالنسبة لرئيس الوزراء اللبناني وحكومته، فمن المعروف أن الحكومات اللبنانية كافةً تشهد دومًا حالة من الترهل الإداري وضعف الخدمات؛ لأن تكوين الحكومات يكون في الأغلب على أساس المحاصصة الطائفية وليس على أساس الكفاءة، ولذا ينتشر الفساد داخل الإدارات اللبنانية، وهذا ما أدى إلى تفاقم مشكلة النفايات في بيروت، والتي حاولت الحكومة اللبنانية في الآونة الأخيرة التعامل معها ووضع بعض التصورات لإنهائها، ولكن تم انسحاب وزراء حزب الله وعون من الاجتماعات، مما حذا برئيس الوزراء للتصريح بأن استمرار حالة الجمود، وعدم قدرة الحكومة على أداء وظيفتها؛ سوف يؤدي بها إلى أن تكون غير قادرة خلال أشهر على دفع رواتب الموظفين، أو خدمة الدين العام للدولة اللبنانية، وأضاف أن المشكلة ليست في النفايات بذاتها ولكن فيما أسماه بالنفايات السياسية من كل الطوائف والجهات السياسية.
يبقى من المعروف أن الدولة التي تقوم على المحاصصة سواءً الطائفية أو القومية لا يُتوقع أن تقوم بها ثورات جماهيرية، حيث تبقى كل طائفة على دعم سياسييها المشاركين في قمة السلطة، وتظل مصلحة الطائفة هي الأهم من مصلحة الدولة بشكل عام، وهذا ينطبق تمامًا على لبنان، ومع ما تشهده بيروت كل عدة سنوات من تحركات لناشطين من المجتمع المحلي المدني ينادون ببعض الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن هذه التحركات لا تستطيع أن تشكل تيارًا حقيقيًا، حيث إن هناك توجسًا فعليًا من حرب أهلية، إذا تم التعرض لمصلحة الطوائف أو رموزها تحديدًا، أو الإخلال بالتوازن الهش بينها.
بيروت تعيش نوعًا من التوتر على كافة الأصعدة، سواءً الأمنية أو السياسية أو الاجتماعية، بانتظار المظاهرات التي أُعلن عن القيام بها يوم السبت 29-8-2015 بعد أن تم تأجيلها عدة مرات من قبل، وهناك تخوّف من تخلل هذه المظاهرات لشغب قد يتطور إلى حالة من الانفلات الأمني، لذا صرحت الأجهزة الأمنية كافة، بأنها مع حق التظاهر السلمي، ويأتي هذا التوجس أيضًا بعد إعلان حزب الله وأنصار عون أنهم سيشاركون في التظاهرات.
ورغم كل التخوفات، فإن للرموز السياسية في لبنان خبرة طويلة في تصعيد وتعقيد الأزمات بكل أنواعها للحصول على أكبر مكاسب لكل طرف، ولكن قبل الوصول إلى النقطة التي لا رجوع عنها، نجد أن هناك تسويات يتم طرحها لترجع الأمور إلى الهدوء النسبي مرة أخرى.
والسؤال المطروح الآن على اللبنانيين: هل يجب عليهم التنازل عن حقوقهم في إزالة النفايات مقابل حالة من التهدئة؟ وهل فعلًا هذه التظاهرات تتعلق بالاحتجاج على تراكم النفايات فقط؟ خيارات كلها صعبة ولا يمكن الاستمرار بها طويلًا دون حل للمشاكل السياسية الأساسية، والتي يختبئ منها كثيرٌ من السياسيين والفاسدين في لبنان خلف أكياس النفايات.
للتحميل من هنا
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016