الاصداراتترجماتمتفرقات 1

لماذا فشل الأنثروبولوجيون في مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية

لماذا فشل الأنثروبولوجيون في مقاطعة
في عام 2016 شهدت حركة مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية زخمًا كبيرًا وواجهت عقبات شديدة لتواطؤها مع الاحتلال غير الشرعي لفلسطين. بدأت هذه الحركة في الولايات المتحدة؛ البلد الذي يمول ويتعهد بدعم الاحتلال الإسرائيلي! دعوات المقاطعة عام 2004 من منظمات الحقوق المدنية الفلسطينية التي حققت نجاحًا مثيرًا للإعجاب، إذ دعمت هذه الحركة إلى الآن ثماني مؤسسات، لاسيما تلك المؤسسات التي تعمل في المجالات الأكاديمية المناهضة للمركزية الأوروبية. استمرت الحركة في النمو على مدار العام الماضي، إذ تعرف الباحثون عبر التخصصات المختلفة على الاحتلال الإسرائيلي وعواقبه أكثر. وقد ناقشت أعداد أكبر من المنظمات الأكاديمية دعوة المقاطعة أو صوتت عليها بما في ذلك الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا وجمعية اللغات الحديثة. وبينما انتشرت الانتقادات للدولة الإسرائيلية والأيديولوجية الصهيونية، اشتدت ردود الأفعال العنيفة.
نحن جزء من مجموعة متنوعة من الأنثروبولوجيين تتسم بخلفيات ثقافية مختلفة، بما في ذلك الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين نظموا حركة لإقناع أعضاء الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا بتبني خيار المقاطعة. على مدار عدة سنوات، حاولنا توعية زملائنا بكلٍ من الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق الفلسطينية وبخيار المقاطعة باعتباره تكتيك فعال لتأييد هذه الحقوق. لقد فعلنا ذلك من خلال الندوات والموائد المستديرة والعشرات من مقالات الرأي وأشرطة الفيديو، بالإضافة إلى ندوات عبر الإنترنت والتوعية من خلال البريد الإلكتروني، كما حاولنا استقطاب العديد من المؤتمرات الأنثروبولوجية. وعندما بدأت جمعية اللغات الحديثة مناقشتها حول المقاطعة، عرضنا ذلك الأمر بأثر رجعي على الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا أثناء التصويت بالربيع المنصرم.
وفي نهاية شهر مارس 2016، قبل أسبوعين من التصويت الكامل لأعضاء الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا على قرار مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، نظمنا لقاءً عن كتابنا الحديث، سياسة الأنثروبولوجيا: تأطير الشرق الأوسط، الصادر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. يتناول الكتاب الضغوط السياسية والاقتصادية التي شكلت الكيفية التي قام من خلالها الباحثون في الولايات المتحدة، على مر الأجيال، بالبحث والتعلم حول الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال اشتباك علماء الأنثروبولوجيا مع مفاهيم التمييز الجنسي والعنصرية والإسلاموفوبيا والصهيونية. أنهينا اللقاء بملاحظة إيجابية، ألا وهي أن حقل دراستنا ربما يكون على حافة تغيير ذا معنى أخيرًا. استند جزئيًا -تفاؤلنا الحذر كما عبرنا عنه حينها- على تجربتنا في تصويت الجمعية في نوفمبر 2015. إذ عُقد تصويتٌ ابتدائي، وقد كان بكل المقاييس أفضل نسبة حضور لهذه الاجتماعات في تاريخ الجمعية، وصوت 88% من الحاضرين على دعم المقاطعة ووضعها للتصويت أمام جميع أعضاء الجمعية لإقرارها. انتهينا من حديثنا في بيركلي بشعور يملأه الأمل بأن هذا النجاح الأولي يشير إلى زوال أنواع من التحيز الجنسي والعرقي ضد الشرق الأوسط وشعوبه وهي الأنواع التي ناقشناها في كتابنا، كما أنه يشير إلى وضع نهاية للفهم السابق للأنثروبولوجيا باعتبارها علم موضوعي غير سياسي. تحدثنا للحضور قائلين “يبدو أن ثمة تغييرًا هائلًا في الأنثروبولوجيا، ونحن نتساءل ونأمل ما إذا كانت هذه هي الحالة عينها بالنسبة للأكاديميا بشكل عام”.
كانت زميلتنا صبا محمود من بين الحضور وتدخلت بتعليقٍ قد يكون الأكثر تبصرًا في هذا اليوم. قالت صبا أنها لا تُشاركنا تفاؤلنا حيال تصويت المقاطعة القادم، وأنه ما يزال هناك “وحش في ثُبَاتٍ” يقبع بقلب المجال الأكاديمي لم تقطع رأسه بعد، ويُميز ذلك الوحش ليبرالية خاملة سياسيًا. وبعد مرور شهرين ثبت أنها كانت على حق. ما بدأ بانتصارٍ بنسبة 88% في (اجتماعات العمل) والتي كان عدد الحضور فيها حوالي 1000 عضو (أي حوالي 10% من أعضاء الجمعية تقريبًا)، تحول إلى خسارة بفارق 0.8% أي حوالي 39 صوت عندما صوت 50% أو 5000 عضو من أعضاء الجمعية البالغ عددهم 10 آلاف عضو ليبرز انقسام واضحً بين المعسكرين.
ما الذي حدث إذن؟ عندما صُدم الزملاء الداعمون جراء هذه الخسارة غير المتوقعة، كان أول تفسير قدموه هو أن التدخل الخارجي المباشر قد أفسد التصويت بالضرورة. وبالفعل، ثمة أدلة بارزة على هذا التدخل حتى من جانب أعلى المستويات الحكومية الإسرائيلية. إذ صرح جلعاد أردان -وزير الأمن العام الإسرائيلي- بأن: “الأعمال الدعائية المُكثفة والعمل مع أعضاء الجمعية” أدى إلى الهزيمة. وقد ربط نتيجة التصويت بمجهودات أخرى على مستوى العالم ضد المقاطعة، ما يُشير إلى حملة منسقة تقودها الدولة لهزيمة حركة المقاطعة. كتب رئيس اتحاد رؤساء الجامعات في إسرائيل إلى المستشارين والرؤساء في الجامعات الأميركية الكبرى ليطلب منهم إصدار بياناتٍ تعارض اقتراح المقاطعة في الجمعية قبل التصويت. وقد قام العديد منهم بذلك في خطاب علني مشترك عقب فتح فترة التصويت في الجمعية، ووقع على الخطاب عشر جامعات في كاليفورنيا بالإضافة إلى جانيت نابوليتانو رئيسة جامعة كاليفورنيا. كما قامت مجموعات داعمة لإسرائيل بقيادة يوجين كونتوروفيتش، أستاذ القانون في جامعة نورث ويست والمستوطن الإسرائيلي، برفع دعوى قضائية ضد بعض الأعضاء في رابطة الدراسات الأمريكية (ASA) الذين أيدوا المقاطعة في عام 2013. وبدا رفع هذه الدعوى القضائية في وقتٍ يتزامن مع الأيام الأولى للتصويت داخل الجمعية كما لو أنه صُمم لإرهاب المصوتين داخل الجمعية.
شابَ التصويت تكتيكات إرهاب أخرى كذلك، بما في ذلك إعداد قوائم سوداء وحملات تحرش. فعلى سبيل المثال، أعدت مبادرة (AMCHA)، التي تسعى لتصنيف أي نشاط ضد إسرائيل باعتباره معادياً للسامية، قوائم سوداء لعلماء الأنثروبولوجي الداعمين للمقاطعة، ثم أرسلت بعد ذلك بشكل منهجي ومستمر رسائل إلكترونية للتحرش بالأساتذة غير المتفرغين، لعلمهم التام بأن هؤلاء لديهم أمان وظيفي هش وهم بالتالي ضعفاء على نحو خاص في مواجهة الضغوط السياسية الخارجية في هذه القضية. ويبدو أن خطر مقاطعة الجمعية قد حفز ظهور مجموعة جديدة تدعى “شبكة المشاركة الأكاديمية AEN”، التي عملت على حشد أعضائها الذين لا ينتمون إلى الأنثروبولوجيا لإقناع أعضاء الجمعية بالتصويت ضد قرار المقاطعة. وعرض موقع الشبكة بفخرٍ نتيجة التصويت باعتبارها أحد إنجازاتها، وأشارت الشبكة إلى عملها على “توزيع ونشر” الرسائل المعارضة للمقاطعة.  كما أن مؤسسة ششوسترمان التي مولت الشبكة قد مولت كذلك رسوم العضوية لبعض الأعضاء المعارضين للمقاطعة، حتى يتمكنوا من التصويت وثمة مؤسسات مولت الكثير من الأعضاء.
أدت المقاطعة بالتأكيد إلى زيادة مشاركة الدولة الإسرائيلية والمؤسسات الأخرى في الضغط على العلماء، وضُخمت هذه الجهود من خلال المشاركة المالية والتنظيمية لمجموعات مثل مؤسسة ششوسترمان، إلا أن مثل هذا الضغط على الأكاديميين حتى يغضوا الطرف عن تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين ليس أمرًا جديدًا بشكلٍ خاص. فمنذ السبعينات -على الأقل- تعرض الأكاديميون الذين يبحثون أو يُدرسون موضوعات ضد السرديات الأميركية المهيمنة حول فلسطين لمخاطر مهنية كبيرة، واتهموا بالتحيز والخيانة بسبب محاضراتهم التعليمية والعامة واستهدفوا من خلال القوائم السوداء ورسائل البريد الإلكتروني. وقد تكثفت هذه الضغوط والمخاطر خلال هذا القرن مع صعود الحرب على الإرهاب، وزيادة أعداد منظمات “المراقبة” اليمينية وتطوير التكنولوجيات التي تمكن من زيادة الرقابة والاستهداف العام للباحثين. على مدى عقود، تعرض الباحثون للضغط لتجنب الارتباط بفلسطين ومعارضة المقاطعة من خلال رسائل لرؤساء الجامعات والمستشارين والتحرش المتنوع من خلال رسائل البريد الإلكتروني من أعضاء هيئة التدريس الآخرين، مما دفع بهذه الضغوط إلى صدارة المشهد.
وعلى الرغم من أن هذه التكتيكات مألوفة بالنسبة للباحثين المهتمين بالشرق الأوسط، إلا أن العديد من علماء الأنثروبولوجيا المهتمين بمناطق أخرى قد تفاجأوا تمامًا بهذه التكتيكات. على مدى ثلاث سنوات من النقاش حول حقوق الفلسطينيين والمقاطعة، تعرض العديد من هؤلاء الباحثين للمرة الأولى لمثل هذه الضغوط.  أعرب زملائنا في كثير من الأحيان عن دهشتهم إزاء تخوف طلاب الدراسات العليا أو أعضاء هيئة التدريس غير المثبتين من دعم المقاطعة علنًا أو تخوفهم من الانتقام السلبي إذا أقدموا على ذلك. ما يبدو مجهولًا لكثيرٍ من هؤلاء الباحثين هو أن تجارب زملائهم بالشرق الأوسط وفي وقتٍ مبكر من عملهم تجعلهم يتعرضون بانتظام لهذا العالم المسيس للغاية.
ولكن من المهم أن ندرك أن مثل هذه الضغوط بالإضافة إلى الأدلة على وجود حملة واسعة ومنسقة ضد المقاطعة، ليست السبب الوحيد الذي منع صدور القرار في التصويت الكامل للجمعية. إذ لا يمكن أن يفسر ذلك وحده تحول انتصار 88٪ إلى خسارة، وإن كان له أثر صغير. وبعبارة أخرى، لماذا لم تنعكس نتيجة التصويت بين 10٪ من أعضاء الجمعية الذين حضروا (اجتماع العمل) في عام 2015 على نتيجة التصويت الكامل لأعضاء الجمعية؟ سياسة الأنثروبولوجيا تكشف عن السبب الآخر الأقل حدة لا الأقل غدرًا، سبب تعثر حركة المقاطعة في الأنثروبولوجيا. لنقل ببساطة أن ثمة شق منذ أمد بعيد بين العلماء الذين يفهمون العلاقة بين السياسة والأوساط الأكاديمية باعتبارها متشابكة وأولئك الذين يعتقدون أنه يمكن فصلها. فالعديد ممن فوجئوا بنتيجة التصويت قد بالغوا في تقدير بروز المنظورات التقدمية في (اجتماع العمل) باعتبارها تمثل حقل الأنثروبولوجيا ككل.
تجسد الممارسة المهنية والديموغرافية للأنثروبولوجيا كلًا من التحول في السياسة المحلية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية نحو التركيز على الحقوق المدنية والاحتفاء بمنظور المرأة والأقليات، بالإضافة عن رد الفعل العنيف ضد هذه التحولات وإعادة إنتاج بُنى التمييز وعدم المساواة. يعتقد العديد من علماء الأنثروبولوجيا أن حقلهم يُناصر (أو يجب أن يُناصر) ووجهات نظر المهمشين وأصواتهم، ولكن بعضهم قد تواطأ مع الاستعمار وسلطة الدولة. أصبحت الأنثروبولوجيا حقلًا أكثر ميًلا للنسوية بشكل كبير منذ الموجة الثانية للحركة النسوية وجذبت العديد من الباحثين خارج دائرة النخبة، إلا أنه يبقى حقلًا ذا تحيز للبيض على نطاق واسع كما هو الحال مع الأكاديميا بشكل عام.  يبدو أن الأنثروبولوجيا بشكل واضح هي إحدى أكثر العلوم الاجتماعية انتشارًا من حيث مواقعها البحثية وتميز عملها الميداني في “كل مكان” على مستوى العالم، ومع ذلك يستشهد ويستند باحثوا الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة بشكلٍ رئيسي إلى زملائهم العاملين في مؤسسات الولايات المتحدة، كما أن هؤلاء الباحثين كثيرًا ما يُعرفون سياسيًا بانتمائهم لليسار ونقدهم للرأسمالية، إلا أنهم يستمرون في العمل في بيئات جامعية تزداد ميلًا نحو نمط الشركات.
ثمة مكون ديموغرافي لهذه التوترات. إذ أن معظم الباحثين الذين تخصصوا بالأنثروبولوجيا قبل التسعينيات كانوا من النساء اللواتي يعتقدن أن الحقل يُفضي إلى مشاركة أكاديمية سياسية عن وحول الشرق الأوسط أو كانوا ينتمون إلى عائلات تعود جذورها إليه أو يربطهم به إرث ما. مع وجود بعض الاستثناءات الملحوظة، يميل الرجال البيض الممتهنون لهذا الحقل قبل عقد التسعينيات إلى التمسك بمفاهيم الأنثروبولوجيا بوصفه علم موضوعي والنظر إلى النشاط الاجتماعي (activism) باعتباره يُخل بالنزاهة الأكاديمية. يُفَصحُ عن هذه الاتجاهات أحيانًا بشكل علني أو في صورة تمييز جنسي أو أحكام عرقية تجاه زملائهم من النساء أو الملونين. هذه الأنماط الديموغرافية للربط أو القطع ما بين الأكاديميا والالتزامات السياسية تجلت بشدة خلال المناقشات حول المقاطعة داخل الجمعية.
وبالتالي فإن نتيجة التصويت الكامل لأعضاء الجمعية يُمكن أن تُفسر على أفضل وجه من خلال مجموعة من الضغوط الخارجية المنظمة، التي تقودها إسرائيل في كثير من الأحيان، لمعارضة المقاطعة بالإضافة إلى الأساطير الراسخة في الدراسة الأنثروبولوجية -وهو ما ينعكس على علماء الأنثروبولوجيا وجمعياتهم العلمية مثل الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا- حول إمكانية وضرورة أن يكون العلم “موضوعيًا” وغير سياسي. هذان المصدران لمعارضة المقاطعة يسير بحذوهما عادة نمطان تتشكل الاعتراضات من خلالهما؛ فالضغوط المنظمة ضد المقاطعة كثيرًا ما تستند إلى اتهامات زائفة بأن انتقاد إسرائيل يُمثل معاداة للسامية أو يجري تحويل النقاش بعيدًا عن حقوق الفلسطينيين لصالح التركيز على الكيفية التي ستتأثر بها الحرية الأكاديمية لزملائنا الإسرائيليين في محاولة لتحويل النقاش حول “باحثين مثلنا”.  كما دعمت وناصرت الأصوات المعارضة للمقاطعة التأكيدات على كون الأنثروبولوجيا بوصفها حقلًا علميًا فلا شأن لها باتخاذ مواقف أو إجراءات سياسية. ومع ذلك، مررت الجمعية العديد من البيانات السياسية حول قضايا وأماكن وأناس آخرين. ولكن عندما تكون القضية هي الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين تنتشر بشدة حينها فحسب تلك الحجة، كما حدث في الاستجابة للعديد من المحاولات المبكرة داخل الجمعية من أجل إصدار بياناتٍ لدعم حقوق الفلسطينيين. إن تلازم وبناء هذه الحجج المناهضة للمقاطعة يذكرنا بأنه يجب علينا فهم نتيجة التصويت على أنها نتيجة للتدخل الخارجي والضغط والتفاعلات طويلة الأمد داخل الأنثروبولوجيا والأكاديميا، وهذا الأخير يمثل ما وصفته صبا محمود ببصيرة “بالوحش الراقِد” بالأنثروبولوجيا.
يوضح هذا المزيج من التفاعلات لِمَ وقع عشرات من مؤيدي المقاطعة عليها مع ضمان عدم الكشف عن هويتهم وتجنب الدعوة لها علنًا في أقسامهم أو مع زملائهم. ويفسر كذلك لِمَ أصر مديرو المواقع الإلكترونية والمنشورات الخاصة بالجمعية على أن تقترن المقالات المؤيدة للمقاطعة بنفس العدد من المقالات المناهضة لها من أجل “التوازن”، على الرغم من أن نفس الشرط لم يُطبق على المواد المناهضة للمقاطعة. كما تفسر لِمَ كانت لقاءات باحثي الأنثروبولوجيا المعارضة للمقاطعة تتضمن متحدثين من الذكور البيض كبار السن على نحو غير متناسب مقارنة بالتنوع الهائل للمتحدثين في لقاءات دعم المقاطعة. وبحلول العام الأخير من المناقشة حول المقاطعة، تحول هؤلاء المتحدثون المناهضون للمقاطعة من ترويج الكذبة البالية الخاصة بمعاداة السامية إلى التساؤل عما إذا كانت المقاطعة ممارسة أكاديمية مقبولة أم لا استنادًا إلى مفاهيم “موضوعية” الأنثروبولوجيا طويلة الأمد أو إعادة توجيه الاهتمام نحو الحرية الأكاديمية على الرغم من أن المقاطعة لا تستهدفهم بصفتهم الشخصية، ورغم تأييد عشرات من باحثي الأنثروبولوجيا الإسرائيليين للمقاطعة.
ولكن أيام ذلك الوحش أصبحت معدودة ربما. في الواقع، ثمة هناك طريقتان للنظر في نتيجة التصويت وهما اعتبارها خسارة مطلقة أو انتصار من حيث المدى الذي وصلت إليه حركة الحقوق الفلسطينية في العقد المنصرم. واليوم نجد الأجيال الشابة من باحثي الأنثروبولوجيا تتحدي هذه الأنواع من السياسة الليبرالية التابعة لأنثروبولوجيا بالية غالبًا ما ترتكز ضمنيًا على أشكال خبيثة من العنصرية والأبوية. هذه الأجيال تناضل ضد الفكرة القائلة بضيق مجال الأنثروبولوجيا وأن النشاط الاجتماعي أو السياسة الحزبية ليس لهما مكان في الأكاديميا. وبفعلهم ذلك، يعكسون تحالفات سياسية جديدة خارج نطاق الأكاديميا، كما يبنون أيضًا تحالفات بين مختلف القضايا التقدمية. هذا هو نصف الجواب على سؤال لِمَ كان هناك مثل هذا التناقض بين انتصار 88٪ لدعم المقاطعة في (اجتماع العمل) بالجمعية عام 2015 وانقسام 50-50 في التصويت الكامل. شهدت قاعة الاجتماع تلك التجمع الأكثر تنوعًا لعلماء الأنثروبولوجيا الذي لم نرَ مثله من قِبل. لقد حمل هؤلاء عزمًا على تحقيق نشاط اجتماعي تقدمي، لقد فهموا قضية الحقوق الفلسطينية باعتبارها قضية حقوق إنسان يجب أن نهتم بها جميعًا، وأن قضية إسرائيل-فلسطين هي الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بالنسبة لهذا الجيل، كما قال البعض. لقد كان تجمعًا شبابياً إلى حد ما أيضًا، حيث أن الباحثين الأصغر سنًا هم الأكثر عرضة لحضور مؤتمرات الجمعية، إذ يتواجدون لإجراء مقابلات للحصول على وظائف أو لتقديم أوراق بحثية لبناء حياتهم المهنية. وكان الاقتراع الإلكتروني للتصويت مفتوحًا لمدة شهر ونصف الشهر، ويمكن للمرء أن يصوت من منزله. وبالتالي يمكن قراءة الفرق في النتيجتين باعتباره تشخيصًا للتحولات الديموغرافية في حقل الأنثروبولوجيا وباعتباره عودة للحظات سابقة من الوعي السياسي المتزايد داخل هذا الحقل. فما يزال الباحثون الأكبر سنًا والبيض والصهاينة والليبراليون يفوقون أولئك الذين هيمنوا على اجتماع العمل عددًا.
الجزء الآخر من الإجابة يكمن بالطبع، كما لاحظ العديد من الزملاء على الفور، في تلك الجهود الاستثنائية التي تبذلها المنظمات المناهضة للمقاطعة لهزيمة القرار في التصويت الكامل داخل الجمعية. ليس من الصعب أن نرى التحدي الذي يمثله الانتصار الساحق في (اجتماع العمل) لأولئك الذين يخشون المقاطعة، بما في ذلك المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية. وحقيقة أن المنظمات الخارجية تبذل مجهودًا وتلقي تمويلًا لإحباط جهود تعبئة مجموعة من باحثي الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة، ناهيك عن الفخر الذي أُعرب عنه زهوًا بتلك الجهود المنظمة بعد هزيمة قرار المقاطعة، يظهر أن هؤلاء يرون في نمو حركة المقاطعة تهديدًا. إن مدى اهتمامهم بالمقاطعة الأكاديمية ومعاملتهم للمناقشات التي أجرتها الجمعية وتصويتها باعتبارهم أمورًا تستحق التعليق والتمويل، لهو أمر يسلط الضوء بالفعل على نجاح حركة المقاطعة في رفع الوعي النقدي بحقوق الفلسطينيين والانتهاكات الإسرائيلية بين أعداد متزايدة من الباحثين الأمريكيين. ربما يجب علينا فهم رد الفعل العنيف ذلك، كدليل على أن حركة المقاطعة تسير في الاتجاه الصحيح. ولعل الخسارة البسيطة في تصويت الجمعية لم تكن خسارة على الإطلاق.
للتحميل من هنا
 
 

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2017

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى