ضمُّ الأغوار الفلسطينية طموح قديم متجدّد لإسرائيل
(الدوافع والتداعيات)
مقدمة:
توصّل بنيامين نتنياهو في 17- أيار/ مايو 2020 مع نظيره رئيس تكتل أزرق – أبيض غانتس على شكل حكومته الخامسة، يتجه مؤخرًا ولأسباب أيديولوجية سياسية وشخصية، إلى ضم أجزاء واسعة من الضفة الفلسطينية وفرض القانون والسيادة الإسرائيلية على غور الأردن، مستغلًا ما تبقى من زمن على انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.
ووفقًا لاتفاق 20 نيسان/أبريل الماضي، سيُسمح لنتنياهو بطرح قضية الضم للتصويت أمام مجلس الوزراء أو حتى الكنيست – البرلمان اعتبارًا من الأول من تموز/يوليو 2020، شريطة استيفاء شروط الحصول على موافقة تامة من الولايات المتحدة وإجراء استشارات على الصعيد الدولي.[1]
ويُراهن نتنياهو في عملية الضم على دعم الإدارة الأمريكية التي اعترفت بموجب ما بات يُعرف إعلاميًا بصفقة القرن والتي تمنح إسرائيل حق الاحتفاظ بالقدس عاصمة موحدة تحت سيادتها، والسماح لها بضم منطقة غور الأردن، بالإضافة إلى جميع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، ومناطق أخرى مما يعرف بمناطق “ج” التي احتفظت إسرائيل بالجانب الأمني فيها حسبما نص عليه اتفاق أوسلو أي ما مجموعه حوالي ٣٠٪ من مساحة الضفة الغربية.
وفضلًا عن استغلال إسرائيل دعم الموقف الأمريكي لتنفيذ خطوة جديدة من مشروع قديم مُتجدّد، تحاول استغلال غياب الموقف العربي المتردي تجاه القضية الفلسطينية بحكم انشغال بعض الدول في التعاطي مع واقع أزماتهم الداخلية المتراكمة ومواجهة الأوبئة المُستحدثة كوفيد – 19، إلى جانب ذلك هناك إجماع يميني داخل الأوساط الإسرائيلية يدفع باتجاه توظيف والاستفادة من المتغيرات الجيوسياسية التي عصفت بالمنطقة، أهمها عملية الانكفاء الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط ، وتعزيز العلاقات الأمنية مع روسيا ومقاسمة العرب نظرية العداء مع إيران عبر سلوكيات التطبيع.
الجدير ذكره أن موضوع ضم أو سيطرت إسرائيل على أراضي الضفة الغربية هو جزء من مخطط شامل تعود جذوره لتراث اتفاق أوسلو 1993، الذي نتج عنه تقسيم منطقة الضفة إلى ثلاثة مناطق إدارية (أ- ب – ج) إلى جانب خطة يغال آلون 1967 والتي فتحت شهية الإسرائيليين على استكمال هندسة يهودية الدولة ذات القومية الواحدة والحدود الجغرافية الواحدة على حساب نسف مطالبات الشعب الفلسطيني والذي يسعى لنزع دولته الخاصة من رحم ويلات الاحتلال والحركات الاستيطانية الجاثمة على أرضه.
وانطلاقًا من النظر إلى كلية المشروع الإسرائيلي تجاه فلسطين، يتضح أن إعلان نتنياهو وتعهداته سواء قبل حملته الانتخابية أو خلالها وبعدها ما هي إلا استكمال لرؤية إسرائيلية متكاملة تواترت بشكل دوري مع الحكومات المتعاقبة، لذا فالأمر حتى لو تم توظيفه لهدف انتخابي إلا أنه من حيث الجوهر يتعدّى ذلك إذا ما نظرنا إلى حقيقة الإجراءات الاستيطانية القديمة واللاحقة، آخرها الخرائط التي عرضها نتنياهو عن المناطق التي سيتم ضمها، والتي يتم مناقشتها مع الجانب الأمريكي بهدف تطابقها مع مخططات وخرائط جاريد كوشنر في صفقة القرن بذريعة حل الصراع العربي الفلسطيني مع إسرائيل.
ومن جملة الحقائق التاريخية على أرض فلسطين وحقيقة نوايا إسرائيل، يقودنا هذا الطرح إلى تساؤل عن ما هو الجديد إذًا في عملية الضم الراهنة، وهل فعلًا ما يجري هو عملية ضم تهدف إلى فرض واقع سيادي جديد بحكم أن منطقة الأغوار تتمتع بأهمية استراتيجية واقتصادية، وما الدوافع الإسرائيلية التي تجعلها متمسكة بمنطقة الأغوار، وما تأثير ذلك على عملية مفاوضات السلام الفلسطيني الإسرائيلي، ومشروع حل الدولتين، إضافة إلى التداعيات على دول الجوار خصيصا الأردن الذي تربطه مع إسرائيل حدود مشتركة وسلسلة اتفاقيات كوادي عربة وملفات الطاقة والغاز، وهذا ما سيتم نقاشه في هذه الورقة.
الأغوار الأهمية الاستراتيجية وخلفيات الضّم
تتمتّع الأغوار بأهمية كبيرة انطلاقًا من موقعها الجغرافي وغناها بالموارد الطبيعة والمياه، فهي تمتد على طول 120 كيلو متر من بيسان حتى صفد شمالًا، ومن عين جدي حتى النقب جنوبًا، ومن منتصف نهر الأردن حتى السفوح الشرقية للضفة الغربية غربًا، ويتراوح عرضها من 5 كيلو مترات إلى 25 كيلو متر وتشكل لوحدها ربع مساحة الضفة الغربية،[2] وقد تم احتلال هذه المنطقة كجزء من الضفة الغربية وأنشأت إسرائيل العديد من المواقع العسكرية في الأغوار منذ احتلالها عام 1967، وتبلغ مساحة هذه المنطقة ما يقارب 1600 كيلومتر مربع، أي ما يقارب 29% من مساحة الضفة الغربية، 87% منها تصنف كمناطق “ج”، تخضع لسيطرة إسرائيل أمنيًا وإداريًا وهي المنطقة المستهدفة الآن في عملية الضم وفرض السيادة.
وبالنظر للأهمية التي تتمتّع بها الأغوار فمن الواضح أنها تدخل في صلب التوجهات الإسرائيلية عبر حكوماتها المتعاقبة، وما إعلان نتنياهو الأخير الذي جاء في سياق انتخابي إلا استكمالا لمشروع استيطاني وضعه سابقًا الوزير الإسرائيلي يغال ألون عام 1967، الذي تضمّن تصورًا متكاملًا حول سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية، وقد توافق مشروع آلون مع رؤية شارون الذي كان يدعو لعدم السماح بإنشاء دولة بين الأردن وإسرائيل. وهذا ما تم تطبيقه فعلًا من قبل حكومات إسرائيل المتعاقبة والتي قامت في سبيل تحقيق هذا التصور ببناء شارع 90 الذي ربط مستوطنات الأغوار مع بعضها البعض.[4]
ومنذ مشروع آلون عملت الحكومات الإسرائيلية على إطباق سيطرتها على منطقة غور الأردن انطلاقًا من تبني نظرية مفادها أن تحقيق سلام دائم لإسرائيل يتطلب اعتبار غور الأردن حدود شرقية لدولة إسرائيل، وبالتالي يجب عدم التفريط بها بأية عملية مفاوضات مع الفلسطينيين، ولعل جملة رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين قبل اغتياله 1995القائلة إن الحدود الأمنية لإسرائيل تقع في وادي الأردن، أصبحت ركيزة ثابتة لكل من جاء بعده.[5]
ومنذ عام 1967 بدأت السلطات الإسرائيلية تطبيق خطة ممنهجة استهدفت أراضي الأغوار واستولت على مساحات واسعة من الأراضي زادت أربعة أضعاف عما كانت عليه قبل 1967، كما قامت بمصادرة الأراضي الزراعية منها تابعة لأملاك وقفية إسلامية ومسيحية استنادًا إلى القانون الذي أقرته في 1950، فضلًا عن استحواذها على مصادر المياه في المنطقة واستعمالها بشكل خاص لخدمة المستوطنات.[6]
وفي هذا السياق تُعد مياه الأغوار هدف استراتيجي مائي بالنسبة لإسرائيل إذ تقوم بعمليات تنقيب دائمة عن المياه وتستخرج منها ما يُقارب 32 ميلون متر مكعب سنويًا يستفيد منها أكثر من 9000 مستوطن يقومون بتسخيرها لتطوير الإنتاج الزراعي المخصص للتصدير، وهذا ما يُفسر كيف أن الإجراءات الإسرائيلية أدت بشكل مباشر إلى جفاف الآبار الفلسطينية وقلّصت كميات المياه في الآبار والينابيع المتوفرة في المنطقة، مما اضطر بعض المزارعين إلى خسارة أرزاقهم بسبب الإجراءات الإسرائيلية والتي كرست اهتمامها إلى فصل الأغوار عن باقي مناطق الضفة.
وبالنسبة لبقية موارد الأغوار واستغلالها من قبل السلطات الإسرائيلية فبشكل موجز وحسب تقارير يصدرها مجلس المستوطنات فإن إسرائيل تجني من مستوطنات الأغوار بين 650 – 750 مليون دولار سنويا، ويربح الاحتلال من الأغوار أكثر من كل صادرات السلطة الفلسطينية الى دولة إسرائيل. وبحرمان الفلسطينيين من السيطرة على هذه المنطقة والاستثمار فيها توجه إسرائيل ضربة قاسية للاقتصاد الفلسطيني خاصة وأن الأغوار تعتبر مفتاح التنمية المستدامة للاقتصاد الوطني، وهي سلة غذاء فلسطين، ووفقَ تقارير صادرة عن البنك الدولي فقد كانت خسارة الفلسطينيين نتيجة منعهم من الوصول إلى مواردهم الشرعية في الأغوار والبحر الميت تصل إلى 3،4 مليار دولار سنويًا ناهيك عن حرمان السلطة الفلسطينية من توفير آلاف فرص العمل للفلسطينيين.[7]
خريطة تبين المساحة الأصلية لمنطقة الأغوار قبل توسيعها من قبل إسرائيل [8]
دوافع الضّم من وجهة النظر الإسرائيلية
بصرف النظر عن نوايا نتنياهو الراهنة وسعيه الدؤوب لصناعة إرثه السياسي فإن الرؤية الكلية لإسرائيل تجاه منطقة الأغوار والمُجمع عليها داخل الأوساط الإسرائيلية خصيصًا من قبل أحزاب اليمين، تنطلق في أولى مُحدداتها من اعتبارات أمنية مفادها وجود حدود قابلة للدفاع عنها من أجل الحفاظ على العمق الاستراتيجي، لذا فإن منطقة الأغوار تُشكل سدًا منيعًا أمام أي هجوم من جهة الأردن وتُعد خط دفاع أول عن إسرائيل، بالتالي المبرر الإسرائيلي من السيطرة عليها تنبع من نظرية عدم السماح لتكرار مخاطر سابقة كالتي حدثت في حرب 1948، حينها تم توحيد جبهة شرقية ضد إسرائيل بقوات أردنية عراقية وأخرى عربية.[9]
ورغم هذا الإجماع من منطلق أمني لكنه لم يمنع من ظهور عدة رؤى عند الخبراء الأمنيين في إسرائيل تجاه منطقة الأغوار، فالبعض يرى أنه وعلى الرغم من أن منطق الحروب تغيّر بفعل تعديل فارق القوى والتطور العسكري والتكنولوجي واللذين أسقطا اعتبارات أهمية الجغرافية، إلا أن منطقة الأغوار بنظرهم لا تزال تٌشكل هاجسًا في نظر إسرائيل على اعتبار أنها منطقة عزل جغرافي وزماني بين الأردن من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، مما يعني أن التعامل العسكري والأمني الإسرائيلي مع هذه الجبهة لا يزال يخضع لاعتبارات الحروب التقليدية والتي تتطلب توجيه إنذار مبكر عن أي خطر أو اعتداء وهذا لا يتم إلا من خلال السيطرة على الأغوار ويستندون بذلك إلى وجود خاصرة دفاعية ضيقة، بين حدود الضفة الغربية من ناحية الخط الأخضر، وبين المنطقة الساحلية 12 كيلو متر فقط، والتي تضم مدنًا كبرى كتل أبيب، وفيها الثقل السكاني الأكبر وبموجبه فمن الضروري العمل على حماية هذه الخاصرة.[10]
مقابل ذلك توجد رؤية أخرى مفادها أن فرضية التمسك بالأرض وبسط السيطرة على منطقة الأغوار لم تعد ذات أهمية استراتيجية بعد قلب المعادلة لصالح إسرائيل وزوال المُهددات عنها بفعل التحولات التي جرت في عموم المنطقة وتوقيع معاهدات سلام مع فلسطين وأخرى أمنية مع كل من مصر والأردن، وتفكيك العراق وسورية، ومن هنا فإن المخاطر المستقبلية على إسرائيل إن وجدت ستنحصر في مواجهة تقع خارج الحروب الكلاسيكية النظامية، أي في مجال الفضاء حيث مكان توفر الأسلحة الذكية والصواريخ والطائرات المتطورة التي أسقطت حسابات الجغرافية والأرض من العقيدة الأمنية الإسرائيلية.[11]
إلى جانب المحدد الأمني يوجد عامل اقتصادي داخل الدوافع الكلية لإسرائيل في السيطرة على منطقة الأغوار بهدف إنعاش وتطوير المجال السياحي والصناعي الإسرائيلي، فالمنطقة ترقد على بحيرة من المياه وتُشكل ثلث الاحتياطي للمياه الجوفية في الضفة الغربية، وتسيطر المستوطنات على نصف الأراضي التي يقطنها آلاف الفلسطينيين، مما يعني أن كثافة عدد المستوطنات داخل الأغوار سيقود إلى استحواذ المستوطنين على مزايا جديدة غير التي يحصلون عليها والتي تعادل أكبر بـ 18 مرة مقارنة بحصة المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية، وأكبر بمرتين ونصف مقارنة بباقي مستوطني الضفة.
وتماشيًا مع العامل الاقتصادي تنظر إسرائيل للمنطقة من محدد جيوسياسي نظرًا لما تمثله من ثقل سياسي لأي دولة فلسطينية مستقبلية محاذية للأردن إذا ما طبق مبدأ حل الدولتين، لذا فإن المبرر الإسرائيلي بالسيطرة عليها تكمن في منع إقامة أي كيان فلسطيني ذاتي، كونها تشكل امتدادًا طبيعيًا لتوسع مدينة القدس المحاذية لها هذا يعني أن السيطرة على منطقة الأغوار ستسمح لإسرائيل بتنفيذ مخططاته الاستيطانية الكبرى، أهمها مشروع القدس الكبرى،[12] إضافة إلى نسف مبدأ العودة إلى حدود 1967 وعدم التوقيع على أي حل نهائي مع فلسطين لأن الهدف الجوهري من كل ذلك سيكون فرض واقع جديد وفرضه على كل الأطراف الفلسطينية الرافضة لعملية السلام سواء بمسار المبادرات العربية أو خطة الرئيس دونالد ترامب والذي ترى أن عملية ضم إسرائيل مزيدًا من الأراضي لا تتعارض مع القانون الدولي، علمًا أن ذلك مخالف للقانون ذاته وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة والتي اعتبرت كامل أراضي الضفة الغربية أرضًا مُحتلة من قبل إسرائيل، وتطبق عليها اتفاقية جنيف الرابعة التي أرست قواعد قانونية دولية راسخة لحماية المدنيين أوقات الحرب، وتمنع الدول من تغيير وضع الأراضي المحتلة سواء قانونيًّا أو ديمغرافيًّا بما في ذلك تهجير السكان، وإعادة نقلهم أو مصادرة الأرضي.[13]
مع ذلك لا تعترف إسرائيل بهذه التفسيرات القانونية وتتبنى وجهة نظر تقوم على قاعدة أن أراضي الضفة الغربية، متنازع عليها وليست محتلة، وهو ما يفسر سعي إسرائيل الدائم لإحداث تغييرات ديمغرافية وجغرافية في أراضي الضفة الغربية بهدف السيطرة عليها وضمها مستندة بذلك على إرث أوسلو الذي قسم الضفة لثلاثة مناطق كما تم ذكره آنفًا.
دوافع نتنياهو بين الإرث السياسي والمصلحة الإسرائيلية
بالنظر إلى تاريخ نتنياهو السياسي منذ 2009 ولغاية حصوله على توافق حكومة ائتلاف مع نظيره زعيم حزب أزرق – أبيض وتوصلهما لاتفاق 20 نيسان -إبريل 2020، يتضح أن سلوك نتنياهو تحركه دوافع عامة متعلقة بمصلحة إسرائيل كدولة، وأخرى شخصية متعلقة بإرثه السِّياسي، فملف الأغوار شهد في عهده تطورات متسارعة، فمنذ وصوله للسلطة صادق مجلس الوزراء الإسرائيلي في 12/12/2009 على خريطة جديدة تمثل الأولويات الوطنية لإسرائيل في التعامل مع أراضي الضفة الغربية، وبموجب ذلك تم منح اعتمادات إضافية لمستوطنات الأغوار، وإقرار بناء 32 بؤرة استيطانية جديدة، وفي عام 2012، شهدت مناطق الأغوار بناء ما يقارب 133 موقعًا عسكريًا و لغاية 2017، قامت حكومة نتنياهو بهدم 806 مبنى، وما يقارب 700 منزل، في منطقة الأغوار. [14]
ومع وصول دونالد ترامب للسلطة المعروف بولائه لليمين الإسرائيلي، فُتحت شهية نتنياهو على كسب دعم الأخير لتحقيق مكاسب سياسية لإسرائيل وأخرى شخصية، حيث استطاع نتنياهو أن يتجاوز عائق باراك أوباما بموقفه تجاه المستوطنات، ونجح في إعادة الزخم للمشروع بعد نسج توافقات مع إدارة الرئيس ترامب من خلال تبني موقف اليمين المتطرف الداعم للسلوك والرؤية الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية.[15]
ومن المكاسب التي نتجت عن هذا التوافق اليميني الإسرائيلي الأمريكي هو قرار إدارة ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل، وفرض السيادة على الجولان السوري، ومؤخرًا وبعد عرض إدارة ترامب خطة السلام أواخر يناير 2020،[16] عاد طموح نتنياهو للواجهة المتمثل بضم جميع المستوطنات اليهودية البالغ عددها 130 مستوطنة في الضفة الغربية، فمن وجهة نظره تعد خطة ترامب فرصة تاريخية لتنفيذ عملية ضم بنسبة 30 % من مساحة الضفة الغربية والتي كانت تحتاج لسنوات لتطبيقها، إضافة إلى أنّ الإسراع في مثل هذا الإجراء يعتقد أنه فرصة لحرف أنظار القضاء الإسرائيلي عن محاكمته على تهم الفساد المنسوبة إليه،[17] مع ذلك لا يبدو من السهل تنفيذ كامل رغبات نتنياهو في ظل وجود تباين في المواقف بين خطة ترامب للسلام وبين رغبة اليمين الإسرائيلي بإجراء عمليات ضم أحادية، إذ تشترط الإجراءات الإسرائيلية أخذ الموافقة من قبل إدارة ترامب كي تكون متناسبة مع خطة السلام والتي أقرت أن أي إجراء إسرائيلي بضم مناطق من الضفة الغربية ستكون مشروطة بقبول إسرائيل جميع بنود خطة ترامب لحل الصراع العربي الإسرائيلي ومن أحد أهم بنودها أن تقبل إسرائيل بتحقيق دولة لفلسطين وتجميد توسيع المستوطنات لأربع سنوات، وهو الأمر الذي تحاول الأخيرة التهرب منه والاستعاضة عنه بفرض واقع جديد على الفلسطينيين يحول دون وصولهم لدولة فلسطين حتى لو قبلوا بخطة ترامب.
ومما لا شك فيه أن شهوة البقاء في السلطة وتحقيق إرث نتنياهو السياسي كما يراه البعض هي التي دفعته لخوض معارك انتخابية مع نظيره غانتس، حيث أُجريت ثلاث دورات انتخابية وتم حل الكنيست مرتين إلى أن استطاع بعد تقديمه عدة تنازلات لسلفة غانتس أن يثنيه عن وعوده ويتخلى عنها، وهو ما قاد إلى شكل الحكومة الحالي والتي منحت نتنياهو فترة رئاسية لمدة 18 شهرًا. ولقد كان هدف نتنياهو من إجراء ثلاث انتخابات في غضون عامٍ واحد هو الحصول على أغلبية في الكنيست تُمكِّنه من تشكيل حكومة تقتصر على معسكره، وذلك لسَنِّ قوانين تضمن له حصانةً من أجل منع تقديمه للمحاكمة.
وقد جعل تطبيق السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية ركنًا أساسيًا من أركان سياسة حكومته الجديدة، وهو بذلك يعود مجددا لتأكيد ما ردده في خطابه أمام الكنيست في 16- أيار/ مايو 2011، حينها أعلن عن سعيه ضم جزء من المستوطنات في إطار اتفاق يجري التفاوض بشأنه مع الفلسطينيين، في الإشارة إلى المستوطنات المتاخمة للمناطق الحضرية الإسرائيلية والواقعة ضمن الجدار الأمني الذي تعيش فيه أغلبية كبيرة من المستوطنين.[19]
لكن يبدو اليوم أن نوايا نتنياهو توسعت إلى أكثر من ضم أجزاء صغيرة وصولًا لإعلانه فرض السيادة والقانون الإسرائيلي على غور الأردن، فسابقًا كان يخشى أن مثل هذا القرار قد يجعل من المستحيل فصل الإسرائيليين عن الفلسطينيين وبالتالي تحويل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، تتعارض مع فكرة الدولة اليهودية، بيد أن اتخاذ إجراءات أحادية باستراتيجية فرض واقع سيادي جديد يقضي ربما حسب وجهة نظره إلى ضم مستوطنات وفرض سيادة عليها من دون سكانها الأصليين والذين قد يكون مصيرهم مجهول في حال تم تهجيرهم إلى الأردن. ويتسلح نتنياهو بفائض من الجرأة من خلال اعتماده على خطة ترامب ونيل دعمه في ظل نظرية المنافع المشتركة فحتى الأخير والذي يعاني من أزمات داخلية عاصفة لا يزال يستند في حملاته الانتخابية على نيل وفوز أصوات الإنجيليين البروتستانت واليهود الذين يشكلون قاعدة انتخابية كبيرة له داخل أمريكا.
تداعيات الضّم
في حال أصرّت حكومة نتنياهو على تنفيذ إعلان فرض السيادة على غور الأردن وضم أجزاء جديدة من الضفة الغربية، فإن ذلك سيقود لتداعيات كثيرة قد لا يتسع المجال لذكرها في هذه الورقة، لكن يمكن ذكر أهم التداعيات داخليًا وخارجيًا وفقً الآتي:
_ على الرغم من وجود تباين داخل الأوساط الإسرائيلية من عمليات الضم إلا أن نتنياهو يتبنى ليس فقط ضم الكتل الاستيطانية الكبرى القريبة من الخط الأخضر، بل يسعى لضم كامل المستوطنات بشكل تدريجي، مما يعني أن إسرائيل لم تعد تُفرق بين الكتل الاستيطانية الكبرى وبين المناطق المعزولة الواقعة في عمق الضفة، وهو ما سيقود إلى ضم كامل منطقة “ج” والذي بدوره سيضع السكان الأصليين أمام مصير مجهول ومعادلة صعبة قد تقضي نقلهم إلى مناطق أخرى كجيوب منعزلة أو تهجيرهم إلى الأردن.[20]
_ إن المساحة المستهدفة بعمليات الضم تستهدف من 30 إلى 40 % من مساحة الضفة الغربية، ما يعني حرمان السكان الفلسطينيين من موارد غنية يتم استثمارها في نواحي متعددة كالزراعة والسياحة، وبموجبه ستتضاعف خسارة الأهالي على حساب تحسين مشاريع إسرائيل في السياحة والاقتصاد.
_ إجراءات نتنياهو في حال تطبيقها تدريجيًا أو دفعة واحدة ستنهي أمل حق العودة للاجئين الفلسطينيين، انطلاقًا من اعتبارات خاطئة تدعمها إدارة ترامب وهي أن عمليات الضم لا تعارض القانون الدولي، معنى ذلك أن الأراضي الفلسطينية لن تكون محتلة بل هي أراضٍ تمت استعادتها.
_ يقود الاعتبار السابق إلى إنهاء مبدأ حل الدولتين وحل دور السلطة الفلسطينية وإنهاء عملية السلام، لأن عمليات الضم إذا ما طبقت بإجراء أحادي وفق رؤية نتنياهو فهي تعني إطباق الحصار على ما تبقى من الأراضي المحتلة وعزلها عن بعضها وتقطيع أي تواصل حدودي مع الأردن، فمن الجهة الغربية تمَّ بناء جدار الفصل العنصري، ومن الجهة الشرقية فرض سيادة وسيطرة أمنية على غور الأردن، وبالتالي فإنّ ما تبقى من المناطق الواقعة في الوسط كالخليل ونابلس ستصبح بحكم الساقطة بعد وضعها بين فكي كماشة، وستقود هذا المعطيات في حال طُبقت من الناحية العملية إلى إنهاء قيام دولة فلسطينية بل سينتج عنها قطع جغرافية متناثرة غير متربطة جغرافيا إلا من خلال الأنفاق، مقابل ذلك ستحقق إسرائيل ترابط جغرافي لمستوطناتها تمهيدًا لإنشاء دولة يهودية ذات قومية أحادية.
_ ستطال التداعيات بشكل مباشر الأردن والذي تربطه حدود برية مع فلسطين وقد أعلن الملك عبد الله الثاني ملك الأردن رفضه أكثر من مرة لأي عمليات ضم وهدد بتجميد العمل ببعض بنود اتفاقيات السلام مع إسرائيل وإنهاء العمل باتفاقية أخرى بما فيها اتفاقية وادي عربة والغاز،[21] ويمكن فهم موقف الأردن من خلال مخاوفه من مخاطر مشروع فرض السيادة على غور الأردن والذي يعني تهديد تركيبته السكانية والتي تتكون من 50 إلى 55 % من أصل فلسطيني، والمخطط يحمل في طياته حمل موجة جديدة من اللاجئين للداخل الأردني، تمهيدا لتوطينهم وهذا الأمر سيُشكل عبئا على الأردن ويهدد أمنه القومي فضلًا عن استنزاف إضافي لموارده الاقتصادية، ورغم تعرض الأردن لعدة ضغوط من بعض الأطراف إلا أنه قد لا يُقدم أية تنازلات أمام هذه المشاريع على اعتبار أنها بمثابة ثوابت غير قابلة للمساومة، ولعل الأردن قد أصبح موقفه أقوى تجاه إسرائيل بعد استرداده أراضي الباقورة والغمر بعد تأجيرهما لإسرائيل لمدة 25 عاما، لذا قد نشهد قرارات أكثر جرأة من قبل الأردن إذا ما أصرت حكومة نتنياهو على عملية الضم سواء قام بها الآن أو مستقبلًا.[22]
خاتمة
بناء على ما ذكر يبدو أن إعلان فرض السيادة أو القانون الإسرائيلي على غور الأردن وضم أجزاء واسعة من أراضي الضفة هي خطوات ومشاريع قد تكون أشمل وأعم من طموح نتنياهو الذي فعليًا يستخدم هذا الملف كأداة مناورة سياسية، بهدف تحقيق حزمة مكاسب من بينها تأمين خروج آمن من السلطة بعد 18 شهر دون ملاحقته قضائيًا على تُهم الفساد، إلى جانب ترك إرث سياسي على غرار ما فعل أسلافه من رؤساء الوزراء السابقين، وما يدعم هذه الفرضية الملاحظات التي أدلى بها بعد أدائه اليمين الدستورية لحكومته الجديدة، حيث أدرج عدة قضايا كأولوية عليا قبل عملية الضم وهي: مكافحة موجة جديدة متوقعة من كوفيد-19، والتصدي للتداعيات الاقتصادية العميقة للوباء، والتعامل مع التحديات من إيران، وأشار إلى عملية الضم أنها أولوية أخيرة أدنى من جميع القضايا الأخرى، واصفًا إياها بأنها تفضيل شخصي. مما يعني أن هناك إمكانية لتراجعه عن هذه الوعود إذا ما اقتضت الحاجة لذلك، خصيصًا أنه يستند بكل خطواته على استغلال فترة الرئيس ترامب حيث يسعى جاهدًا لتحقيق عمليات ضم قد تكون جزئية قبل مجيء موعد الانتخابات، لأنه في حال جاء رئيس من الديمقراطيين وأنهى عهد ترامب من المرُجح أن هذا الملف سيدخل في مرحلة أخرى قد تكون شبيهة بحقبة باراك أوباما.
ومما يدفع أيضًا نتنياهو عدم الانزلاق كليًا في هذا الملف إدراكه لأهمية العلاقات الإسرائيلية الأوروبية من ناحية والتي تربطها معها علاقات اقتصادية، وعربية من جهة أخرى، إذ ليس معروفًا بعد كيف ستكون ردة الفعل العربية العملية رغم وجود تكهنات تُشير أن المواقف العربية لن تتجاوز خطابات استنكار وبيانات دون أي تأثير عملي على السياسة الإسرائيلية.
مقابل ذلك قرار نتنياهو ذاته سواء تم تنفيذه على مراحل أو تم إلغاؤه، فلن يغير من واقع السيطرة الفعلية الإسرائيلية على أراضي الشعب الفلسطيني، فقرارات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإعلانها عاصمة أبدية لإسرائيل وبسط السيادة على الجولان السوري، إضافة إلى إرث الحركات الاستيطانية منذ 1967، جميعها منطلقة من حقائق واقعية أهمها أن 60 % من أراضي الضفة الغربية، تسيطر عليها إسرائيل وحتى 40% المتبقية، لا يملك الفلسطينيون السيادة عليها انطلاقًا من اعتبارات الجغرافيا وصولًا إلى الحدود والموارد الطبيعية، بالتالي القضية الفلسطينية ستبقى دون حل في ظل محيط عربي مترهل وانقسام داخلي فلسطيني، بل على العكس المتغيرات الأخيرة التي تسعى حكومة نتنياهو تنفيذها ستبعد عملية السلام وتولد نزاعات جديدة وتوترات في كامل المنطقة.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020
لبنان 24، اتفاق نتنياهو-غانتس من الألف إلى الياء، ن- 12- إبريل- 2020.
وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية، ن- شوهد 9- يونيو- 2020.
إنفوغراف: تعرف على المنطقة التي يرغب نتنياهو بضمها في الضفة الغربية، ن- 12- سبتمبر- 2019.
عمان نت، ما أهمية منطقة الأغوار المُهدّدة بالضم إلى إسرائيل، 12- 12- 2019.
وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية، مشروع ألوان والمشاريع الاستيطانية، شوهد، 6- يونيو- 2020.
المركز العربي للأبحاث، مصير الأغوار بين المقترح الإسرائيلي والامر الواقع الإسرائيلي، 23- يناير- 2014.
موقع عمون، تقرير: اجماع اسرائيلي على ضم غور الأردن والتوسع بدعم امريكي، ن- 7- 12- 2019.
[8] مرجع سابق.
المركز الفلسطيني للإعلام، نقلًا عن مركز رؤية للتنمية، منطقة الأغوار بين الاحتلال وإعلان السيادة، شهد 9 يونيو- 2020.
مركز الهدف، تقرير: الاحتلال يُباشر العمل لبسط سيادته على الأغوار والمستوطنات، ن- 1- فبراير- 2020.
عربي 21، ضم الضفة والأغوار.. التداعيات على فلسطين والأردن، ن- 25- مايو 2020.
المعرفة، مشروع القدس الكبرى، شوهد 10- يونيو – 2020.
مركز الجزيرة للدراسات، صفقة القرن: اقتلاع ركائز حل الدولتين، ن- 3- يناير – 2020.
فراس القواسمي، مصير الأغوار، المركز الفلسطيني للإعلام، شوهد، 10- يونيو- 2020.
معهد واشنطن، اندفاع إسرائيل إلى “تطبيق السيادة” في الضفة الغربية: التوقيت والتداعيات المحتملة، ن- 22- إبريل- 2020.
معهد واشنطن، خطة ترامب للشرق الأوسط تمثّل تحولًا عميقًا في المفهوم العام. ماذا يجب أن تكون خطوة إسرائيل التالية، ن- 12- فبراير- 2020.
المركز العربي للأبحاث، حكمة نتنياهو الخامسة، ن- 21- مايو – 2020.
عربي 48/ بنود صفقة القرن، ن- 29- يناير- 2020.
معهد واشنطن، ضم المستوطنات: على نتنياهو ترك إرث دائم للأجيال القادمة، ن- 5- مايو- 2020.
موقع الوقت، صفقة القرن: ضم الأغوار يكرّس الأردن “الوطن البديل، ن- 8- 2- 2020.
فلسطين الآن، الأردن: ضم الأغوار يعني انتهاء العملية السلمية وقتل لحل الدولتين، ن- 12- ديسمبر، 2019.
برق للسياسات، مستقبل سياسات المملكة الأردنية الهاشمية ما بين الوضع الداخلي والمشاركة في صفقة كوشنر، ن- 23- مارس- 2020.