زيارة الملك سلمان إلى مصر
جاءت زيارة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى مصر في مرحلةٍ متقلبة تظهر فيها العديد من التشكلات والتحالفات الإقليمية والدولية الجديدة التي تسعى إلى رسم سياق خاص بالمنطقة العربية بعد وصول الثورات فيها إلى مرحلة صراعاتٍ داخليةٍ عنيفة أدَّت إلى تشكلات سياسية جديدة مختلفة تماماً عن الواقع الذي عاشته منطقتنا طوال العقود الماضية.
فاستمرار الثورة السورية ودخولها العام السادس مع ما رافقها من تحولات دولية كبيرة ابتداءً من العدوان الروسي المباشر على سوريا ثم انسحابها، مروراً بالانسحاب التدريجي للولايات المتحدة الأمريكية من المشهد، وأخيراً التغول الإيراني المحموم للسيطرة على الدول العربية انطلاقاً من العراق ولبنان فسوريا فاليمن.
هذه الفوضى العامَّة في المشهد العربي والتي أفرزت قوى ثورية شعبية وحزبية، وأخرى مضادة مدعومة من ديكتاتوريات عربية وقوى غربية يهمها المحافظة على ثبات الوضع القائم أو بناء وضع مشابه من أجل المحافظة على مواقعها ومصالحها ثم المحافظة على مصالح الثابت الأهم في المعادلة الغربية وهو أمن “إسرائيل”.
السعودية والتي مرَّت منذ استلام الملك سلمان للحكم بتحولات داخلية عميقة جداً أدت إلى بروز قيادات جديدة شابة وشهدت تحولات في بنية النظام السياسي للمملكة أدى إلى تغير واضح في سياستها التي رسَّخها الملك السابق. من بين هذه التغيرات الأساسية كان التدخل العسكري المباشر في اليمن فيما عُرِفَ بـ”عاصفة الحزم” والتي انطلقت بموجبها في أواخر شهر آذار 2015 حملة عسكرية من تحالف 10 دول ضد الحوثيين وحلفائهم. هذه الحملة وما سبقها ولحقها من أحداث في المنطقة العربية ثم ما تبعها من تصريحات إيرانية حادة تجاه المملكة جعل المملكة أمام خيارات لا تقبل التأجيل تدفعها بالضرورة إلى إقامة حلف مقابل؛ من أجل ردع التغول الإيراني في المنطقة العربية.
التدخل الإيراني الفج في الشؤون العربية الداخلية من سيطرة شبه كاملة على العراق ولبنان ثم التدخل العسكري المباشر في سوريا والدعم الإيراني الواضح للحوثيين وحلفائهم في اليمن، وأخيراً الاتفاق النووي الإيراني الذي وقعته إيران مع الدول الكبرى في نيسان 2015، والذي فتح الباب واسعاً لإيران لإكمال مشروعها في المنطقة العربية على حساب المصالح العربية التي لم تعد – كما يبدو- في موقع مشابه لما كان سابقاً بالنسبة للولايات المتحدة خصوصاً.
هذا الوضع الكارثي في المنطقة العربي والذي وصل إلى شبه سيطرة إيران على أربع عواصم عربية كبرى، ثم توقيعها لاتفاق مع الدول الكبرى اعتبره البعض تسليماً بمكانة إيران ورسوخها في المنطقة كقوة لا يمكن تجاوزها، جعل من الضروري لكل الدول العربية والإسلامية التي تسعى إلى الحفاظ على أمنها التحرك من أجل الحفاظ على ما تبقى لها في ظل حالة الانهيار العربي الشامل.
السعودية – بعد تغييب دور العراق ومصر وبُعْدْ دول المغرب العربي عموماً عن المركز- أصبحت الدولة العربية الوحيدة في المنطقة المؤهلة للعب دور مركزي يساعد – على الأقل – على الحفاظ على شيء من الموقف العربي الإسلامي المناهض للتغول الإيراني من ناحية والمناهض لإعادة رسم حدود المنطقة العربية وفق حاجات الغرب للحفاظ على أمن إسرائيل.
هذه الحاجة التي أدركتها السعودية أخيراً بعد التحولات التي أعقبت رحيل الملك السابق، ووصول النفوذ السياسي الإيراني إلى الحدود الجنوبية والشمالية للملكة، ثم التهديدات الإرهابية التي لم تتوقف من جانب تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية. هذا بالإضافة إلى تغيير المزاج الأمريكي وانعدام حالة اليقين السياسي التي كانت سائدة في السابق تجاه المملكة والمنطقة عموماً، جعل السعودية تتحرك في اتجاه – يبدو- أوضح وأكثر رسوخاً ناحية تشكيل تحالف إسلامي – عربي يضم أكبر عدد من الدول التي تجمعها المصالح المشتركة تجاه المنطقة.
أصبحت باكستان وتركيا اللتان تشكلان حالياً ظهيراً قوياً على الصعيد العسكري والأمني والسياسي بالإضافة إلى مصالحهما المشتركة في الوقوف ضد إيران ومصالحها من الناحية الجيوسياسية. – أصبحت- هاتان الدولتان جناحاً أساسياً لهذا التحالف القائم ولكن هذا كله يحتاج بالضرورة كذلك إلى ظهير عربي يوازي بقوته العسكرية وحاجاته السياسية هاتان الدولتان.
مصر هي الدولة الوحيدة التي يمكنها أن تحقق هذا التوازن ضمن هذه المنظومة الجديدة التي يُراد تعميقها وترسيخ وجودها، مصر – التي يظهر أنها اليوم في أسوأ حالاتها السياسية والاقتصادية- هي الدولة العربية القادرة عسكرياً والمؤهلة جيواستراتيجياً للعب دور الجناح القوي الذي يدعم حلفاً موازياً لحلف إيران وشركائها في ظل تراجع الموقف الأمريكي.
ولكن، هل مصر اليوم بنظامها الحالي قادرة على الاضطلاع بهذه المهمة؟ لا يخفى على أحد أن الحالة المصرية اليوم هي حالة كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فمستوى الانحدار السياسي داخليا وخارجياً ثم الظلم الاجتماعي لم يسبق له مثيل، والأسوأ هو غياب أي أفق للحل في ظل سيطرة أمنية وبنية عسكرية متحكمة في البلد ومقدراته لا تزال منذ انقلاب الجيش على أول رئيس منتخب في البلاد هي المتحكمة، ولا تزال تسعى إلى كسب ولاء أفراد الجيش والشرطة بشكل أعمق على حساب الشعب المصري، الذي تزداد احتمالات الثورة لديه كل يوم في ظل وصول البلاد إلى حالة من الانهيار الاقتصادي والأمني والاستراتيجي، وازدياد عوامل اشتعال الثورة وأسبابها من غياب العدل والتغول الأمني في ظل انعدام أفق لأي حل سياسي.
هذا المشهد المدمَّر للحالة المصرية في ظل مواقف سياسية – في كثير من الحالات – غير مفهومة سواء تجاه الثورة السورية والتصريحات التي تدعو إلى الحفاظ على الدولة. والأسلحة والذخائر المصرية التي تذهب إلى نظام الأسد، واستضافة مصر للحوثيين والعديد من التصريحات المغازلة لإيران وروسيا. هذا كله يدفع باتجاه البحث حول حقيقة دور الجيش المصري في هذه المرحلة في المنطقة العربية، إذا أضفنا إلى هذا – وهو أمر غاية في الأهمية- الموقف الإسرائيلي من النظام المصري والذي تدل تصريحات قادته وتسريبات صحفه أن العلاقات الأمنية والسياسية والاستراتيجية بين إسرائيل ومصر لم تكن يوماً من الأيام أفضل مما هي اليوم، كما تدل – تلك التصريحات- بأن ثبات أركان الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس الحالي السيسي، لم يكن ليكون بهذه القوة خصوصاً على المستوى الدولي لولا دعم إسرائيل الكامل له.
وعليه، فإن المملكة العربية السعودية تخطيء خطأ استراتيجياً في تحالفها مع النظام المصري الحالي، من دون دفعه – على الأقل – إلى إجراء مصالحه مع جماعة الإخوان المسلمين والقوى الثورية الأخرى وإعادة تسيير الملف السياسي الداخلي بشيء من المرونة مع الخصوم السياسيين من أجل فتح أفق للحل السياسي. والسعودية اليوم إذ تضع ثقلها في الساحة المصرية بهذا الحجم الاقتصادي والسياسي أيضاً؛ فهي الدولة الوحيدة المؤهلة لدفع القيادة المصرية إلى تحقيق مصالحه وطنية تعيد تحريك العملية السياسية على أسس مرنة قابلة للتفاوض وفتح أفق سياسي جديد في البلد. هذا إن لم يتم؛ فإن الخسارة سوف تلحق الجميع ولن تكون هذه الزيارة ومحاولة تطبيع العلاقات وبناء الجسور أكثر من فشل يُضاف إلى تجربة فشل سابقة خسرت فيها السعودية ودول الخليج مليارات الدولارات التي لا يعلم أحد أين تم صرفها حسب بعض التصريحات السعودية.
فمصر اليوم بلد منكوب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودماء آلاف الشهداء الذين قُتلوا بعد الانقلاب العسكري لم تجف بعد، وعذابات عشرات آلاف المعتقلين من الرجال والنساء والأطفال لا تزال تتردد الحكايات عنها كل يوم، والانهيار الشامل في الجنية المصري وليس أخيراً قضية سد النهضة الذي سيسلب شريان الحياة عن مصر، التغاضي عن كل هذه المصائب والتطلع فقط إلى قوة الجيش المصري وترسانته البشرية والعسكرية وموقع البلد الجغرافي، يعني أن النظام السعودي قد راهن على حصان خاوٍ وخاسر، سيكون بلا أدنى شك الحبل الذي سينقطع معه في منتصف الطريق. في ظل انعدام الخيارات السياسية أمام النظام المصري وتسليم أوراقه كاملة إلى المصالح الإسرائيلية أولاً وشهوته في الحكم والسيطرة الشاملة أخيراً.
أخيراً، فإن السعودية اليوم أمام فرصه تاريخية تعيد من خلالها الأمل للأمة بعودة مصر إلى الصف العربي وخياراته من خلال استخدام نفوذها الاقتصادي والسياسي، وقد كانت خطوة استقبال مصر لوفد حماس قبل أيام مؤشراً جيداً لإعادة رسم العلاقة بشكل أفضل بعيداً عن الهيمنة الإسرائيلية، ولكن الأهم أن تعيد السعودية التفكير في موقفها من جماعة الإخوان المسلمين – التي يبدو أن المملكة قد أزالتها من قائمة خياراتها- فلا يمكن بحال تجاوز جماعة الإخوان في مصر أو استئصالها. ولن تهدأ الحالة المصرية الداخلية ولن تستعيد الحياة الاجتماعية والسياسية شيئاً من حيويتها إلا بالدفع إلى إجراء مصالحة شاملة ضمن حدٍّ معقول من التفاهمات السياسية التي تضمن خروج المعتقلين وعودة الحراك السياسي السلمي في المجتمع المصري ليتفرغ الجميع خصوصاً الجيش المصري لمواجهة الهجمة المعادية لكيان الأمة العربية – الإسلامية.
للتحميل من هنا
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016