(1) = أهمية الإفادة من الأزمات، وتطويعها لخدمة أهدافنا.
“وأَسْرَعَهُم إِفَاقَةٍ بَعْدَ مُصِيبَةٍ ..” تنقل لنا كتب التاريخ العربي هذه المقولة لعمرو بن العاص، داهية العرب، واصفا بني الأصفر، الروم آنذاك. ورغم أن هذه صفة “إنسانية” لا تتبع أمة معينة، إلا أن خبرة الأمم منها تختلف اختلافا كبيرا.
في عصرنا الحاضر، نعبر عن هذه الإفاقة بتعبير ألطف: “الإفادة من الأزمات”. ذلك أن الإفادة من الأزمات وحسن إدارتها تجعل الإفاقة أسرع، دوما. ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أن المجتمعات/الحكومات الغربية/الإنسانية المتحضرة وصلت إلى مستوى من الوعي يمكنها من التعامل مع الأزمات بمرونة عالية. فمهما كانت طبيعة المستجدات فلا يزال بإمكانها المحافظة على إيقاعها “المصلحي” فوق كل اعتبار. ومن هنا تتجلى قدرتها على البقاء.
حسن التعامل مع “المحدثات” أو “إدارة الأزمات” وتطويعها لخدمة أهدافنا جانب مهم من جوانب إدارة الحياة. وليس سرا القول بأننا كشعوب/دول عربية لا نزال في أول الطريق.
(2) = الاستعمار الحديث، مثال لأزمة لم نحسن إدارتها.
من أهم الصدمات التي تحتاج منا إلى “سرعة إفاقة” و”حسن تدبير” ما يمكن تسميته بالصدمة الحضارية. أو تلك الأزمات المركبة التي تتوجه لتغيير جملة من المكونات والأوضاع التي استقر عليها حالُ أمة من الأمم.
في القرنين الماضيي، كان ما اصطلح على تسميته بـ”الاستعمار” أهم صدمة حضارية عاشتها المجتمعات العربية. فبين استعمار مباشر أو انتداب، رزحت غالبية الدول العربية تحت قيود الحكومات الغربية، ولا يزال بعضها يعيش نتائج هذه التجربة المريرة إلى الآن.
هذه التجربة، الاستعمار، غالبا ما يتعذر التعاطي معها بعيدا عن العاطفة، وهو أمر مُتَفَهَّمٌ تماما، غير أنه لا يمنع من محاولات البحث عن جانب “إيجابي” في تفاعلنا مع هذه الظاهرة. كيف كانت لظاهرة “الاستعمار” آثار “حسنة” على الدول المستعمرة؟ وكيف تمكن “المستعمَرون” من الإفادة من “الاستعمار” لتحقيق أهدافهم المشروعة؟ هذه النظرة الإيجابية لحسن الإفادة من الأزمات هو ما دفعني لإطلاق وصف “الخضراء” على تجربة “داعش”. فـ”داعش الخضراء” هي كيفية استفادتنا من ظاهرة “داعش” لتحقيق أهدافنا ومبادئنا ورؤانا في الحياة.
(3) = داعش، الأزمة الحالية التي ينبغي علينا أن نحسن إدارتها.
مثال “الموجة الاستعمارية” مثال سقته لا لأتوقف عنده بل لأنفذ لما بعده. ذلك أنني أرى ضرورة إفادتنا – نحن العرب – من الأزمات، لكثرتها، ومالم نطور منهجا لحسن إدارتها والتعامل معها، ونظل نكتفي بالرضوخ إليها وتحمل آثارها فلن نقدم شيئا ذا قيمة، سواء لنا أو للإنسانية.
ثم إنني أعتقد أن ظاهرة “داعش” أو “التطرف المستند إلى مرجعية إسلامية، الساعي لإقامة كيان سياسي على هذه الأرض” هي الصدمة الحضارية الثانية، الأشد عنفا منذ الاستعمار، التي تمر بها المجتمعات العربية. إن “داعش” كظاهرة مركبة قد توجهت إلى “أعمدة” كثيرة في الموروث الديني، والعلوم الإنسانية، بالهدم وإعادة البناء، ما جعل منها لغزا مبهما يصعب الإحاطة بجوانبه.
ولأننا لا نزال نتعامل مع “داعش” بمنطق العاطفة والدفاع والتبرير، ولقلة خبرتنا في “توظيف” الأزمات بما يخدف مصالحنا/أهدافنا/رؤانا/مبادئنا، فإن هذا الكلام الذي نملأ به الدنيا لن يكون (وهو الواقع الآن) ذا فائدة في فهم/تحليل/مقاومة هذا المستوى من التطرف. علينا أن نكون أكثر وعيا في التعاطي مع نموذج “داعش”. علينا أن نغادر مساحة “لهم مغانمها وعلينا مغارمها” إلى “لنا مغانمها وعلى أصحابها مغارمها”.
(4) = الإفادة من داعش. الغرب بمخبر العلوم الإنسانية. نحن بعصر تدوين جديد. وشهود حضاري قيمي.
وكيف نستفيد من ظاهرة “داعش”؟ كيف نتمكن من تحويل صدمتنا من الخطاب “الداعشي” وهروبنا منه بعودتنا إلى أصوله أو نظرية المؤامرة. كيف يمكننا تحويل هذه الصدمة إلى مشاريع/أفكار مؤثرة؟
لا أزعم أن هذا المقال يحاول الإجابة عن هذا السؤال، بقدر ما يحاول طرحه، والتأسيس لأهميته، وهو ما سبق من المنشور، غير أني أجد من الحسن أن أشارك بطرف من الرأي محاولا الإجابة عن هذا السؤال.
نموذج “داعش” نموذج يقوم – كما أفهم – على محاربة الإنسان في هذه الأرض. موظفا في ذلك جملة من الآراء الدينية “الإسلامية”، وأفكارا سياسية/اقتصادية/اجتماعية مختلفة. فهو يتوجه لهدم الدين والدنيا معا. إلى هدم الإنسان، خليفة الله في أرضه.
ومن هنا، فإن علينا أن نفيد من هذه الظاهرة بإعادة تفعيل هذه الثلاثية: الدين/الدنيا/الإنسان. إنني أعتقد أن الدعوة إلى “عصر تدوين جديد” دعوة واقعية ومؤسسة الآن.
“عصر تدوين جديد” يقوم – في مستوى الدين- على قراءة النص وفهمه وفق مخرجات العلوم الإنسانية، وفق متطلبات العصر، بعيدا كل البعد عن الفهم الذي يستند إليه –في التبرير- المنتسبون لداعش.
كثيرون هم أولئك الذين بدؤوا يلحظون موجة من “اللاأدريى” تجتاح الشباب العربي، بعد رؤيتهم للفكر المتطرف، وأصوله. ومالم نؤسس لخطاب “ديني” يقوم على التحرر من كل أشكال “اللاإنسانية” و”التطرف” فإن هذه الدائرة تكبر، والشرخ المجتمعي يزداد.
“عصر تدوين جديد” يقوم – في مستوى الدنيا- على بعث العلوم الإنسانية، وكتابة البحوث والمؤلفات فيما كان ينبغي لها أن تكتب. مواضيع كـ”طبيعة الدولة” و”سؤال الهويات” و”الطائفية/العرقية” و”النظرية الاقتصادية” التي تصلح لنا، و”الجغرافيا السياسية” وإعادة قراءة “التاريخ” وكتابة “فلسفة له”، والاهتمام بعالم الأفكار … كل هذه من أولويات عصر التدوين الجديد الذي ينبغي الإعداد له/الشروع فيه. (يحسن هنا التذكير على أن الخلافات بين الشباب العربي في التأصيل للدنيا وجدواه أكثر منه بمراحل خلافهم/نقاشهم في التأصيل للدين. والمؤكد أننا كشعوب عربية لا نملك تجربة سياسية طويلة الأمد، ولا حتى تراثا للعلوم الإنسانية يمكن الاستناد عليه).
“عصر تدوين جديد” يقوم – في مستوى الإنسان- على إعادة الاعتبار للقيم الإنسانية، والإيمان بها والتبشير بها بين شعوب العالم، وتأسيس خطاب أخلاقي يسعى للحياة. بل ربما خطاب إنساني جديد يحاول تجاوز مشكلة البشرية في ارتفاع مدنيتها وانخفاض إنسانيتها.
عصر التدوين الجديد، العودة إلى تأسيس “كل” المعارف، الدينية، والإنسانية، على أسس حديثة تهتم بالواقع أكثر مما تهتم بالتاريخ (وهذه مهمة الأفراد)، ثم تفعيل كل ذلك في مؤسسات/دول حديثة (وهذه مهمة الأحزاب). هذه هي الفكرة التي أعرضها كاستثمار لزلزال “داعش”، والإفادة منه بما يخدم نهضتنا وشهودنا الحضاري.
وأنت أيها القارئ الكريم، كيف ترى إمكانية الإفادة من نموذج “داعش”؟
عبد الوهاب عجروم
للتحميل من هنا
“الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات”
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016