أشرت في مقال سابق (تقي الدين النبهاني.. سيرته السياسية قبل تأسيس “التحرير”) إلى سعي مؤسس حزب التحرير تقي الدين النبهاني إلى المشاركة في الحياة السياسية من بوابة الانتخابات؛ حين شارك في الترشح لثالث مجلس نواب أردني في 29آب/أغسطس 1951 ولم يستطع حينها الحصول على المقعد.
وقد استمرت هذه المحاولات -بعد تأسيس النبهاني لحزب التحرير عام 1953- حين شارك الحزب في البرلمان الأردني الرابع عام 1954 حيث ترشح في هذا المجلس -عن الحزب- كل من: داود حمدان (القدس) عبد القديم زلوم (الخليل) أسعد بيوض التميمي (الخليل) عبد الغفار كاتبة (الخليل) أحمد الداعور (طولكرم) محمد موسى عبد الهادي (جنين).
وشارك الحزب كذلك في البرلمان الخامس حيث ترشح عنه: عبد العزيز الخياط (مرشح أربد) أسعد بيوض التميمي (مرشح الخليل) عبد القديم زلوم (مرشح الخليل) غانم عبده (مرشح عمان) أحمد الداعور (مرشح طولكرم) يوسف الزغير (مرشح الخليل) فارس ادريس (مرشح القدس وأريحا) محمد موسى عبد الهادي (مرشح جنين). وفاز في الحالتين أحمد الداعور فقط، والذي استمر عضواً صاحب صوتٍ عالٍ عن حزب التحرير في البرلمان حتى أُسقِطت عضويته في المجلس يوم 13 أيار/ مايو 1958 بعد موافقة جميع النواب باستثناء 6 نواب أبرزهم نواب جماعة الإخوان المسلمين. بعد أن حكِم عليه بالسجن لعرقلة ومقاومة موظف أثناء عمله، ونشْر وإذاعة أنباء يقصد منها زعزعة الثقة بالدولة كما جاء في قرار الفصل.
بعد ذلك شارك الحزب في الانتخابات النيابية اللبنانية من خلال مرشح في بيروت يوسف بعدراني، ومرة ثانية في طرابلس من خلال عثمان صافي. وفي الحالتين لم يصل أحد إلى البرلمان وثارت حول الحزب الكثير من الإشكاليات حينها.
هذه المشاركات التي كانت خلال فترة الخمسينات والستينات لم تكن أمراً غريباً على من يقرأ فكر النبهاني؛ المؤسس القاضي الصارم الذي قاد الحزب بحكمه ورأيه وفكره، وأخرج من الحزب كل من سعى في معارضته أو مشاركته في إدارة الحزب حتى رفيقا دربه داود حمدان ونمر المصري وغيرهم. فلقد قاد الرجل الحراك السياسي والفكري داخل الحزب دون منازعة ووضع الأسس التي لم يحد عنها الأمراء الذين جاؤوا بعده.
ولكن الرجل كما يبدو قد اصطدم بعقبةٍ كان يحاول تجاهلها في البداية وهي التعارض المطلق بين ما يدعو إليه ويسعى فيه من هدم الدول الوطنية وإقامة دولة خلافة واحدة، وقد جاء سعيه ذلك في مرحلة حاسمة من مراحل نشوء الدول العربية بعد خروج الاستعمار ومحاولة هذه الدول تثبيت أوضاعها السياسية.
استقر أمر النبهاني بعد تلك المحاولات على عدم المشاركة مطلقاً في الانتخابات بكل مستوياتها حتى الطلابية منها وفي كل الدول ومهما تبدلت الظروف. وصار سعي الرجل الوحيد طوال حياته؛ انقلابٌ عسكري يسلِّم القائمون به السلطة للرجل! ليقيم مشروعه الذي أعدَّ دستوره ورايته وأجهزة الدولة فيه واختصاصاتها. ولنا أن نذكر أن المرحلة التي عاش فيها الرجل كانت تعج بالانقلابات في الدول العربية المحيطة به ما أعطاه أملاً –كما يبدو-في تحقيق مشروعه.
توفي النبهاني وتوفي معه الاجتهاد السياسي داخل الحزب، وسار خليفته عبد القديم زلوم على خطاه بلا أي تغيير في واقع الحزب حتى وفاته عام 2004. وقد عُرِف عهده بالجمود التام وهو ما أدَّى إلى صراعات داخلية أدَّت إلى انقسام الحزب في الأردن والضفة الغربية -بشكل خاص- عام 1997 بعد خروج عدد كبير من قيادات الحزب الوازنة وتأسيسهم لحزب تحرير جديد بعد أن اتهموا حزبهم وأميرهم باتهامات كثيرة لا مجال لذكرها هنا ولكنها تدور في مجملها حول تجمد وضعف أداء الحزب.
بعد استلام الأمير الحالي عطاء أبو الرشتة، أمِل البعض في حصول تغييرات حقيقية في مسيرة الحزب وتعاطيه مع الواقع بشكل مختلف بدل حالة الجمود التي تعتري الحزب منذ وفاة المؤسس، ولكن التغييرات كلها جاءت في سياقات دعائية، هدفها ضم المزيد من الأعضاء فقط؛ فصار الحزب ينظِّم مسيرات في بعض الدول كفلسطين المحتلة أو يقيم مهرجانات حاشدة في دول إسلامية كإندونيسيا أو يعقد مؤتمرات في فنادق وقاعات فخمة في دول أوروبية. كل ذلك والحزب لا يغيِّر في تعاطيه العملي مع الواقع شيئاً ويكرر أطروحاته حول القضايا السياسية نفسها منذ نشأته ويقدِّم للأمة تحليلات سياسية انطباعية أدنى مستوىً من تحليلات مراكز الأبحاث الناشئة.
جاءت ثورات الربيع العربي لتصفع الحزب وأطروحاته وتضعها ضمن سياق الأطروحات النظرية الرومانسية التي ليس لها أي امتداد في الواقع، حين حصلت تغييرات جذرية على صعيد الأمة من خلال ثورات شعبية عارمة؛ فوقف الحزب منها موقف المتفرج، لا هو استطاع تأييدها والمشاركة فيها لأنها تناقض أطروحاته وطريقته الشرعية الملزمة المتعلقة بطلب النصرة خصوصاً، ولا هو استطاع أن يتهم القائمين عليها بالعمالة لطرفي الصراع السياسي المهيمن على العالم حسب فهم وخطابات الحزب (بريطانيا وأمريكا) فانسحب الحزب أثناء انفجار الثورات، وبدت تحليلاته ركيكة لا علاقة لها بحراك الشارع، ثم ما لبث أن أعاد ظهوره بكل قوة حين استلم خصم الحزب التاريخي (جماعة الإخوان المسلمين) مقاليد الحكم في مصر وتونس وقبلها حركة حماس في فلسطين.
كان واضحاً للمراقب -في تلك المرحلة- أن الحزب قد انشغل انشغالاً بالغاً بإضافة تعليقاته أو نقده أو هجومه الكبير على مواقف وتوجهات الجماعة باعتبارها الحاكم بغير ما أنزل الله!
والغريب أن أجهزة إعلام (الدولة العميقة) حاولت إبراز صوت الحزب؛ لأنه كان يمثل صوت نقدٍ وعداء صارخٍ يخرج من نفس الدائرة الإسلامية التي خرجت منها جماعة الإخوان التي أصبحت على رأس السلطة. فاستضاف الإعلامي المصري المعروف وائل الأبراشي الناطقَ باسم حزب التحرير في مصر محمد عبد القوي. ومجموعة من أعضاء الحزب بعد الثورة المصرية عام 2012. على الرغم من محدودية وجود الحزب في مصر وأثره بشكل تام.
كما صار الناطق باسم الحزب في تونس رضا بلحاج ضيفاً دائماً على القنوات المختلفة في تونس، وكذلك حصل الأمر مع الناطق باسم الحزب في فلسطين ماهر الجعبري حين استضافه الإعلامي ناصر اللحام على قناة معاً الفضائية.
وقد تبدو استضافة أعضاء حزب التحرير أمراً عادياً ضمن المشهد الإعلامي القائم حينها ولكن الإعلاميين والقنوات التي تستضيفهم وحساسية الوقت وضعف التأثير والوجود الذي يمثله الحزب في الواقع تفتح الكثير من الأسئلة حول استخدام الحزب من تلك الأذرع الإعلامية وتماهي الحزب مع هذه الاستخدام.
في المقابل كان موقف الحزب هزيلاً تجاه كل الحركات والأحزاب الحاكمة التي انقلبت على الثورات والتي قتلت واعتقلت وتعاونت مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وارتكبت الجرائم ضد شعوبها! فالحزب اليوم منشغل انشغالاً تاريخياً بتخوين وفضح عمالة الرئيس التركي أردوغان بينما لا يذكر الرئيس المصري مثلاً!
هذه المواقف تعطينا تصوراً عمَّا يعانيه الحزب من انفصام وانفصال عن الواقع وعدم مراعاته لموازين القوى الدولية القائمة وتشابكات الواقع العربي المعقدة وبقائه أسيراً لأطروحات دينية مبنية على تفسيرات غير صالحة لهذا الزمان وتغيراته؛ بل إن المتابع لخطاب الحزب يتأكد من أنه لا يدرك الواقع الذي يعيشه من أساسه، حين تراه مثلاً يجعل من مسألة لون الراية وشكلها في سوريا سبباً من أسباب الصراع بين الفصائل المقاتلة في نفس الوقت الذي يمنع أفراده من المشاركة في القتال! فالحزب كما أسلفت لا يزال يعيش بتحليلات مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها التي خلَّفها مؤسسه النبهاني وحفظها الأمير الثاني عبد القديم زلوم والتي أصبحت تشكِّل ثقلاً تاريخياً كبيراً على الحزب وتصوراته للواقع ولحركة التاريخ.
السؤال الذي يمكن أن نسأله اليوم للحزب؛ لماذا لا يعيد الحزب قراءة تجربته وتقييمها، ولماذا لا يعيد الحزب مقاربة الواقع الحالي في بعض الدول العربية للواقع الذي انطلق منه وشارك حينها فيه في الحياة السياسية واشتبك فيها مع الواقع وتفاعل بجدية وإيجابية. ولماذا يظل الحزب أسيراً لأطروحات عفا عليها الزمن وفنَّدها العلماء طويلاً كفكرة طلب النصرة التي يسجن الحزب نفسه داخلها. وغيرها من الأفكار البالية التي لا تزال آثارها تشكل إرثاً ثقيلاً يضع الحزب في خانة أعداء المشاريع الإسلامية التي لا يرى الحزب فيها إلا أداة غربية موضوعةً لإجهاض مشروعه، في نفس الوقت الذي نرى الحروب تشنُّ والانقلابات تدبَّر والمؤامرات تحاك والصواريخ تدك تلك المشاريع وأصحابها بينما يعيش الحزب وأفراده في العديد من البلاد العربية وعلى رأسها بلاد الثورات في أمان؟!
لتحميل المقال من هنا