الاصداراتترجمات

تفكّك النِّظام السّياسي الفرنسي

يزدادُ الوضعُ الفرنسي تمرّدًا كلّما مرّ الوقت، وفي مواجهة هذا الوضع، يُكافح حزب (الجمهورية إلى الأمام /الحاكم) ليفرض نفسه في ظلّ هذا الاضطراب الكبير.

كلّ هذا يحصل بعد فوز إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠١٧، حيث كان وصوله إلى الرئاسة نتاجًا ومحصّلةً وكذلك تسريعًا لتفكّك النظام السياسي الفرنسي، إذ تمّ انتخابه رئيسًا فقط؛ لأن النظام السياسي الفرنسي ينهار، فمنذ أن تولى ماكرون منصبه، ورغم ما كان يبدو عليه من جرأةٍ وحبٍّ للمغامرة، وبدل أن يُعيد بناء النظام الفرنسي، كان أداة تفكيكٍ لهذا النظام.

في الوقت نفسه، يتّسم المجتمع الفرنسي اليوم بأنه مجتمع هشّ، ومعرضٌ للغرق، وبالتالي ضعيفٌ وعُرضةٌ أيضًا لموجة مدٍّ شديدة، أو ربّما عاصفة، بدأ هذا الشكل المجتمعي بالظهور منذ عام ٢٠١٧، بعد الأزمة والصعوبات الاقتصادية والسياسية، هذه الأزمة التي أثرت كذلك وبشدّةٍ على الحزبين اللذين تناوبا على السلطة لمدة أربعين سنة، الحزب (الاشتراكي /ps) وحزب (الجمهوريون /LR) وهو الاسم الجديد لحزب (الاتحاد من أجل حركةٍ شعبية UMP/ ).

تلقّى هذان الحزبان عِقابًا شديدًا في الانتخابات التشريعية، وكذلك في الانتخابات الأوروبية، ثمّ انتظروا بعد ذلك التعافي عن طريق الانتخابات البلدية، لكن انتظارهم كان وهمًا وسرابًا، لأنهم -كأحزابٍ تقليديةٍ في الحكومة- يَعتبرون أنفسهم أكثر رسوخًا، ذلك رغم علمهم بوجود رؤساء بلدياتٍ جددٍ ذوي سيرةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ رفيعة المستوى.

الآن تقترب انتخابات ٢٠٢٢ الرئاسية بسرعةٍ، ولا يزال الحزبان (الحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريون) بدون مرشحين طبيعيين، ولا حلفاء ولا حتى مساحات عمل. فالحزب الاشتراكي في استراحة عملٍ حاليًّا، أما حزب الجمهوريون فقد وقع بين فكّي حزب الجمهورية إلى الأمام /الحاكم، والتجمع الوطني اليميني الذي ترأسه ماري لوبان، وبين هؤلاء جميعًا فَقَدَ النظام السياسي الفرنسي دعامتيه الرئيسيتين.

من هنا، وضع الحزب الحاكم رسالته ومنطقه المستقبلي، أن يصبح بدوره الدعامة المركزية للنظام السياسي في البلاد، لكن ما لبث أن بدأ يتلاشى هذا الأمل مع اختفاء العالم القديم دون أن يَظهر عالمٌ جديد بدلًا عنه.

في ظلّ هذه الفوضى العارمة، وبآمال شبه منعدمة، كان على حزب الجمهورية إلى الأمام /الحاكم أن يخوض انتخابات حزيران/يونيو ٢٠٢٠ البلدية، كما كان عليه في ذات الوقت أن يُجابه وضعًا مؤلمًا وصعبًا للغاية في مواجهة حملة السترات الصفراء، التي أشارت إلى أنّ انتخابات ٢٠١٧ كانت -ربّما- عمليةً ديمقراطيةً نمطيةً وشكليةً أكثر من كونها ديمقراطيةً حقيقية.

بعد ذلك، يسعى الحزب الحاكم إلى قياس مقدار انحدار شعبيته أو حتى عدمها، وبالمقياس ذاته يقيس ماضيه السيء للغاية تجاه أولئك الذين يسعون إلى إصلاح نظام التقاعد. فوق ذلك، حضوره المحلي ضعيفٌ جدًا، وتمثيله النيابي يكافح للعثور على مكانته ودوره، ذلك أنه وبالنسبة للجزء الأكبر لا يزال الجهاز التنفيذي لماكرون (الرئاسة والحكومة) يمثّل قوّةً شرعيةً وفعالة، لكنّها باريسية معزولة في مواجهة عموم فرنسا المتمردة والمضطربة.

في خضمّ المصاعب التي واجهها ماكرون، شغَل المتمردون دور الخصم الرئيس له لمدّة عامٍ كامل، كان هؤلاء موهوبين في عرض تمردهم في الجمعية الوطنية، وكذلك في نشاطهم العالي في الميدان، فاستفادوا إلى جانب اليساري زعيم (حزب فرنسا الأبية)جان لوك ميلانشون، من زعيم المعارضة.

لكنّهم، مع بعض الأخطاء العبثية، ومع خيبة الأمل بسبب فشلهم في حشد الشارع كما كانوا يتأملون، عاد المتمردون إلى الحضيض، مع ذلك، تتيح لهم معركة التقاعد فرصة استعادة زمام المبادرة السياسية، بعد أن تأكدوا أن رصيدهم في الانتخابات البلدية كان لا شيء، بعد كلّ هذا، يسيطرون الآن على اليسار، ولكن في ذات الوقت هناك من يسيطر على اليسار نفسه.

بعد أن ظهرت قضايا البيئة كأولوية في أذهان الفرنسيين، خرج في وجه المتمردين خصمٌ أساسي، هم الخُضر، حيث أصبح واضحًا أن يانيك جادوت -زعيم حزب الخضر- يعتزّ بأمل الظهور في عام 2022، كمرشّحٍ مزعجٍ جديد يجتاح التوقعات.

هذا ما جعل كلّ الأحزاب الأخرى على عجلةٍ من أمرها لصبغ نفسها باللون الأخضر، حتى رئيس الدولة بدأ يلوّح بفرشاته بالفعل، السؤال الآن هو ما إذا كان لدى الفرنسيين رغبةٌ في علم البيئة وعلمائها، حيث يمثل الخُضر فكرةً أكثر منها قوّة، لكن بطبيعة الحال مجتمع هشّ كالمجتمع الفرنسي  يناسبهم كثيرًا.

القلعة الخرسانية الوحيدة في هذا النظام الكرتوني، هو (التجمع الوطني) الذي ترأسه ماري لوبان اليمينية، والذي رغم كونه حزبًا صغيرًا، إلا أن الكثير يخدمونه في تعزيز ومدّ نفوذه، مناضلوه قليلون ولكن ناخبيه عنيدون يكتسبون عندهم هذا من الأفكار الموجزة لماري لوبان، يتميزون بعزيمةٍ تفوق عزيمة غيرهم من الناخبين، ويحملون في قلوبهم غضبًا ورغبةً في الانتقام.

لسوء الحظ أن هذا اليمين المتطرف هو الجزيرة الوحيدة الصلبة في البحر الهائج للسياسة الفرنسية، لقد استفاد التجمع الوطني في حشد الشبكات الاجتماعية من الكتل الأخرى، ذلك عن طريق بث الجدل والمؤامرات والافتراءات والأوهام في هذه الشبكات، وبالنتيجة، فالكراهية التي تعتمدها في الوسائل الاجتماعية عن طريق أسماءٍ وهمية تناسب كثيرًا مبادئه كيمينٍ متطرف.

لذلك تبدو ما تمرّ به فرنسا من مشكلاتِ ديمقراطية الرأي، وديمقراطية المشاعر، وديمقراطية الاستياء، تبدو فرصةً سانحةً بالنسبة له كحزبٍ متطرف ليُثبّت أركانه، هذا لا يعني أنه لا يُقاوم، أو أنّ أطروحاته يمكن أن تُقنع ما وراء مؤيّديه، إنّما الاستراتيجية المبنيّة على المشاعر السلبيّة يمكن أن تَنجح في مجتمعٍ فرنسي دائم الاستياء والقابلية للاشتعال.

هذا الغضب ينتقل كالعدوى خاصّةً في عالَمٍ سياسي غير منظّم كما في فرنسا، فالمجتمع السياسي الفرنسي الهشّ يفتقد إلى السدود، وإلى الحواجز المضادة للأمواج، والسبب دائمًا، ضعف ماكرون دون أن يصبح خصومه أقوى.

مع ذلك لا يزال ماكرون يتعمّد اللعب بالعقل، في الوقت الذي يستخدم فيه خصومه الرئيسيون /الخُضر، التجمع الوطني، المتمردون/ المشاعر، وبذلك، إن كان جرأةً أو تهوّرًا، تراجعت حركة الإصلاح في مواجهة العواصف المعادية.

آلان دوهامل، ليبراسيون، شباط/فبراير 2020

الرابط الأصلي من هنا

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى