في المستويات المعرفية، يبرز التفاعل في القاموس اللغوي بأنه: (تفاعل مع الحدث أي تأثرٌ به، وأثارهُ الحدث فدفعه إلى تصرف ما). فالتفاعل ما يجعل الكائن
الحي ينجذب نحو التعامل مع المؤثرات الخارجية وينتج عن ذلك سلوكيات مرتبطة بنوعية الحدث الخارجي وطبيعته وقدرات الكائن وإمكانياته، وقد شكلت مواقع التواصل الاجتماعي منذ ظهورها، وانخراط الناس في عوالم أكبر من المساحات الافتراضية، التي تتوفر على العوامل المثيرة للانتباه بما يوجد فيها من مؤثرات وجواذب، أثبتت الأيام أن هذه المؤثرات قادرة على جلب اهتمام الآخرين، الذين سرعان ما تتكيف سلوكياتهم وتأخذ أشكالاً غير متوقعة، نتيجة تعاطيهم مع هذه المؤثرات.
وباعتبار الصحفي من أكثر الأشخاص الذين يتعاطون التعامل مع المتغيرات، وأسرعهم في التعامل معها، بحكم مهنته فإن الصحفي وجد نفسه المعني الأول بموضوع مواقع التواصل الاجتماعي، كون تكنولوجيا الاتصال الحديثة سهلت بطريقة سلسة انخراط الصحفي في العوالم الافتراضية، التي وفرت له مساحات مرتفعة من الحرية، وأزالت عنه العديد من القيود التقليدية، التي عادةً ما كانت تمنعه من التعبير عن مواقفه، والإعلان عن وجهات نظره تجاه ما يدور حوله من أحداث.
في المستوى النفسي، التفاعل (حالة وجدانية يثيرها مؤثر ما في الكائن الحي، وتصحبها تغيرات فسيولوجية، وتكون الإثارة نتيجة لتعطيل فعل أو سلوك ينزع إليه الفرد أو نتيجة لتحقيق رغبة). إن الارتباط بين المعنى الذي يأخذه التفاعل في المستوى اللغوي، والمسافة التي يجدها في المستوى النفسي، تجعل التفاعل من أهم الظواهر الإنسانية التي لها علاقة مباشرة بالممارسة الصحفية، وبالذات ما نتناوله في هذا المجال، والذي يجعلنا أمام المعنى المقصود والمراد من هدف الموضوع، باعتبار أن التفاعل هو تلك الجهود التي يبذلها الصحفيون، في إنتاج مادة إعلامية تتضمن اهتماماتهم، وتثير انشغالهم، وتعبر عن مواقفهم، فتجسد تلك المادة خلاصة الجهود المبذولة.
سيكون المفهوم الإجرائي الذي نستند إليه، في الاقتراب من الظاهرة التواصلية للنخب الإعلامية، والتعامل مع سلوكياتها، قابل للتدوير كون الأمر يتعلق بالتعاطي مع الظاهرة في خطوة أولية غير مسبوقة، وقد تكون غير مقبولة من أطراف كثيرة، تتحجج بعدم توفر المناخ المناسب لتناولها، وأن الظروف الحالية غير كافية، لقيام الإقناع بدراستها، ومهما كانت المواقف والآراء ووجهات النظر، فإن الاعتراف قائم بصعوبة العمل، لتشعب الموضوع، وظروف الاعتماد على غير منهج واحد في العمل، إلا أن المحاولة الأولية، لا تفقد مقصودها قيمته، ولا تقلل من الأهمية التي تحتلها مثل هذه الأعمال.
إن الانتقال من مستويات التداول والتفاعل، في الممارسة الصحفية، خلفت العديد من التحولات على مختلف المستويات، وتميزت بالعديد من الظواهر، التي سرعان ما تركت أثارها على طبيعة النخب الإعلامية، وخاصة في بنياتها المكونة لها، وخاصياتها الذاتية ونوعية العلاقات القائمة في ديناميكية هذه النخب، التي تستدعي الانتباه لديناميكيتها، وتتبع ملامحها وقراءتها بحذر، التي سرعان ما تميزت في اتجاهات ثلاثة، برزت في المرحلة الحالية، وقد تتسع أو تتقلص في المراحل القادمة، وقد يعرف الاتجاه الأول بالاندفاعي، الذي ترتفع عنده مستويات التفاعل والاشتباك مع المواد الإعلامية المنشورة، في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الاتجاه الذي استفاد من التحسن المتزايد لتدفق الإنترنت، عبر مختلف الصيغ والقوالب.
مع مرور الوقت، وتركم الممارسة وتوسع الحضور، في مواقع التواصل الاجتماعي، ظهرت ملامح من النضج والتحول على هذا الاتجاه، الذي عرف مستوى متقدم من النزعة العقلانية في الخطاب، وارتفاع درجات الاحترافية في التعامل مع الصورة، والمؤثرات البصرية والقضايا المتداولة، والحرص على إضافة الجودة على النقاش، والتراجع عن إبراز الجوانب الضعيفة للذات، وذلك في مختلف مستويات التفاعل.
وأما الاتجاه الثاني، فالذي يعرف بحالة الهدوء وعدم السرعة في التفاعل العام، ولا يملك الكثير من الفاعلية في التجاوب مع المواد الإعلامية المنتجة، في مواقع التواصل الاجتماعي، ويكتفى بالمستوى الأدنى من التفاعل، من خلال التعبير بالإعجاب بهذه المادة، أو مشاركة هذه المادة، اعتراف ضمني بالتفاعل معها، ولكنه اتجاه قليل المساهمة، ولا يملك شبكة واسعة من التواصل مع الآخرين، وحتى خبراته ومهاراته الاتصالية، ذات مستويات متدنية، وتواجده في مواقع التواصل الاجتماعي، موسمي وحسب الظروف المحيطة به، أما الاتجاه الثالث، فهو الذي يعتمد على مجرد المتابعة الظرفية، وقليل التواجد في مواقع التواصل الاجتماعي، وله انطباعات مزاجية من هذه المواقع، وفي الغالب يفضل تقديم ذاته بأسماء مستعارة وصور غامضة.
وبالرغم من تقادم التواجد في مواقع التواصل لاجتماعي، وتعدد الأساليب التفاعلية وتحسن درجات تدفق الإنترنت، بقيت أنماط التفاعل عند الأغلبية متدنية في المساحة، وغير ناضجة في المضمون، وغير محترفة في العرض، وغير دقيقة في التتبع، دون أن تخلو من المضامين العنيفة، أو تلك التي لا تتناسب مع خطاب التفاعل المنتظر من النخب الإعلامية، خاصة تلك المتعلقة بتقديم الذات والقضايا التي تهتم بها هذه النخب، على اعتبار أن الخطاب الصحفي، الذي تنتجه النخب الإعلامية في مواقع التواصل الاجتماعي، تغلب عليه المضامين الانطباعية، التي لم يتخلص منها خطاب النخب، في مختلف المراحل التاريخية، والتي كان لها التأثير في المحطات الحاسمة، والتي كانت مفصلية في تحديد نوعية القرارات الكبرى.
إن الانخراط في مواقع التواصل الاجتماعي، من طرف النخب الإعلامية، بقي في مستويات الترفيه وحب الاطلاع وتحقيق درجات أسهل في الاتصال، دون أن تسبقه أو ترافقه تلك المعاني العميقة، في دلالة هذه الخطوة في حياة الناس، وتأثيرها العميق في الدراسات والأفكار الكبرى لظاهرة الاتصال، كون المؤسسة العلمية بقيت بعيدة عن الظاهرة الاتصالية الحديثة، التي انخرط فيها المجتمع، ولم يرافقها التحول المفاهيمي والسلوكي والقيمي للنخب بصفة عامة والإعلامية منها على وجه الخصوص.
إن البحث يعمل على فهم ملامح صورة الصحفي الجزائري، في زمن التواصل، وهي الصورة التي يرسمها لنفسه، من خلال ما يقدمه من إنتاج إعلامي في فضاءات التواصل الاجتماعي، بعيدا عن تلك الممارسات الصحفية اليومية، وهي المادة الإعلامية، التي يتم إنتاجها بدوافع ذاتية وضغوط واقعية، ومتطلبات تقنية تجعلنا في النهاية، أمام صورة المرحلة لهذا الجيل من الصحفيين، الذي يسعى إلى تحقيق مستوى من التميز عن بقية الأجيال الصحفية الأخرى، من مسيرة الممارسة الصحفية الجزائرية.
إن الصورة التي يتم إنتاجها للصحفي، في فضاءات الإعلام الافتراضي وتحدد ملامحها الثقافية عبر الوسائط الاتصالية، ليست بالضرورة تلك الصورة التي تم التفكير فيها من قبل، وبذلت الجهود في مضامينها الذاتية، وإنما تمت عمليات تصميمها، في ظل ردود الأفعال المتسارعة، وتحت ثقل ضغوط موجات الانخراط في عوالم الإعلام الرقمي، وبدوافع التنافسية الشديدة، وعبر شحنات وجدانية، من أجل تحقيق أهداف الحضور والتميز، والحصول على أكبر قدر من التعبير عن الذات.
يعتبر انخراط الجيل الجديد من الصحفيين، في عوالم الإعلام الرقمي، نتيجة الاكتشاف المبهر والظرفي، دون أن يكون مؤسس على قاعدة ثقافية واسعة واحترافية دقيقة، كون هذا الجيل تصادم مع حضور تكنولوجيات الاتصال، وهو فاقد لتلك المهارات التي تؤهله للتكيف معها، باعتبار أن تكوينيه التعليمي لم يدرج فيه المعارف والعلوم التكنولوجية، التي تجعل منه يكسب المهارة الكافية للتعامل مع التكنولوجيا الاتصالية، مما جعله يكابد ويعاني الكثير، حتى يتمكن من جعل انخراطه في عوالم الإعلام الرقمي، بأقل التكلفة، وقد تجلى ذلك في المادة الإعلامية التي ينتجها، والتي في أغلبها مقلدة أو مشاركة مع غيره من المتفاعلين في الوسائط الاتصالية، كون تلك المادة تملك خاصية الموافقة أو الرضى منه، أو كونها تعبير رغباته ووجهات نظره.
لتحميل المقال أضغط هنا