تركيا: إدارة التحالف غير الودي
ترجمة من الانجليزية
تشهد العلاقات التركية – الأميركية تآكلاً مستمرًّا منذ سنوات. وتظل المشاكل المعروفة في العلاقات الثنائية، خاصة شراء تركيا لمنظومة الدفاع الصاروخي S-400 من روسيا، وتعاون الولايات المتحدة مع وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، وهي مجموعة كردية سورية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني (PKK)، دون حلول واضحة في الأفق. كذلك، تتصاعد مشاعر الاستياء التركي من الإجراءات القضائية الأميركية ضد بنك حكومي تركي تتهمه واشنطن بخرق العقوبات على إيران، ومن رفض الولايات المتحدة على مدى طويل تسليم فتح الله غولن الذي توفي مؤخراً، والذي اتهمته أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب في عام 2016. في الوقت ذاته، تواصل تركيا إصرارها المتزايد على تبني سياسة خارجية مستقلة، وكان آخر خطواتها في هذا الاتجاه تقديم طلب للانضمام إلى كتلة البريكس، إلى جانب اهتمامها طويلاً بالانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، حيث تشكل روسيا والصين نواة المنظمتين.
رغم هذه الصعوبات، ما زالت السلطة التنفيذية الأميركية تولي أهمية للعلاقات مع تركيا، ولأسباب وجيهة: إذ تقع تركيا، كما وصفها الراحل ريتشارد هولبروك قبل 30 عامًا، “على مفترق الطريق لكل قضية ذات أهمية بالنسبة للولايات المتحدة في قارة أوراسيا”. وتمتلك تركيا جيشًا قويًّا، هو الثاني حجمًا في حلف الناتو. إضافة إلى ذلك، يعزز قوة تركيا العسكرية صناعات دفاعية متنامية تحتل حاليًّا المرتبة الحادية عشرة عالميًّا في صادرات الأسلحة. وهناك عامل ثالث، نادرًا ما يتم ذكره ولكنه موضع تقدير لدى صانعي القرار، وهو هوية تركيا كدولة ذات أغلبية مسلمة، ما أثبت أهميته كعامل شرعية خلال حقبة “الحرب على الإرهاب”، عندما شاركت تركيا في عمليات الناتو في أفغانستان، وسيظل لهذا العامل دور في أي مشاركة مستقبلية للناتو في العالم الإسلامي. وبمشاركة تركيا، يتم تخفيف التصور السائد بأن الغرب هو مجرد “العالم المسيحي”.
توقعات متراجعة…
بينما لا تزال إدارة بايدن تقدّر الأهمية الجيواستراتيجية لتركيا، إلا أن استجابتها للمشكلات الثنائية المستمرة كانت بتقليل التوقعات. ففي يونيو العام الماضي، صرح مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، لفريد زكريا على شبكة سي إن إن، أن تركيا “ترسم سياسة خارجية مستقلة، لكنها سياسة تتيح لنا إقامة علاقة بناءة معهم”.
وبالتالي، تتمثل السياسة الحالية للولايات المتحدة في الاعتراف باتجاه تركيا نحو سياسة خارجية أكثر استقلالية، وكذلك بالاختلافات الأميركية-التركية، مع التركيز على مجالات جديدة للتعاون المحتمل وتجنب خلق مشكلات جديدة. ويبدو أن الحكومة التركية، المنشغلة بوضعها الاقتصادي، تتبنى هذا النهج في الوقت الراهن، دون الضغط بقوة على قضايا مثل دعم الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب (YPG)
هذا يفسر على الأرجح صمت إدارة بايدن بشأن خطاب تركيا المؤيد لحماس والمعادي لإسرائيل وللولايات المتحدة الذي يتبناه الرئيس رجب طيب أردوغان. وبشأن التفاف تركيا على العقوبات المفروضة على روسيا، فرضت واشنطن عقوبات على بعض الكيانات التي تتخذ من تركيا مقرًّا لها، لكنها لم تتهم أنقرة بشكل مباشر بخرق العقوبات. كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على عدد من ممولي حماس المقيمين في تركيا دون إلقاء اللوم على الحكومة التركية. وفي وقت سابق من هذا العام، ساعدت الولايات المتحدة في إزالة تركيا من “القائمة الرمادية” التابعة لمجموعة العمل المالي (FATF)، وهي ائتلاف دولي يراقب قضايا غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وسط تراجع الدعم للعلاقات…
لقد كانت هذه المقاربة فعّالة في إبطاء الانحدار في العلاقات الثنائية، لكنها قد لا تكون مستدامة. في غياب أي تقدم في القضايا الثنائية الرئيسية، مثل صفقة S-400، ستبقى أساسيات العلاقات هشة، ومن غير المحتمل أن تصمد أمام الأزمة الثنائية التالية، سواء كانت تصرفًا من أنقرة شرقي البحر الأبيض المتوسط، أو تشريعات قاسية ضد تركيا في الكونغرس الأميركي.
وإضافة إلى هشاشة الروابط الثنائية، فإن واقع الدعم المحلي الأميركي للعلاقات مع تركيا أضعف من أي وقت مضى. على سبيل المثال، كانت واحدة من أقوى دعائم الدعم التركية في الماضي، وهي منظمات المجتمع اليهودي الأميركي، اليوم تميل إلى العداء، ردًّا على خطاب أردوغان المناهض لإسرائيل بشكل مستمر واحتضانه لحماس.
وبالمثل، أصبح الكونغرس الأميركي، الذي يمثل منطقة إشكالية بالنسبة لتركيا حتى في أفضل الأوقات، مكانًا أكثر ودًّا لأنقرة في العقد الأول من حكم أردوغان، عندما كان يُنظر إلى حزبه العدالة والتنمية، صوابًا أو خطأً، كمثال على الأثر المهدئ للديمقراطية على الإسلام السياسي وكمفتاح محتمل لحل مشاكل الولايات المتحدة مع الإسلاموية على مستوى العالم. قد يشكل حجم كتلة الكونغرس تقديرًا تقريبيًّا لأهمية دولة معينة في واشنطن، لكنه لا يزال مؤشرًا قاطعاً. بدأت كتلة تركيا في الكونغرس عام 2001، ونمت بشكل مطرد على مدار عدة سنوات. وبحلول الكونغرس الـ114 (2015-2016)، وصل عدد أعضائها إلى 160 عضوًا، مما جعلها ثالث أكبر كتلة برلمانية مخصصة لدولة معينة، بعد الهند وتايوان. ثم بدأ الانحدار.
واليوم، انخفض عدد الأعضاء إلى 81 عضوًا. وليس من قبيل الصدفة أن ما يسمى قرار “الإبادة الجماعية للأرمن”، الذي كان من أولويات تركيا الكبرى في الكونغرس لفترة طويلة، قد تم تمريره في عام 2019 خلال هذه الفترة من الانحدار.
كما أن الروابط العسكرية التاريخية الوثيقة تحت الضغط أيضًا. بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016، بدا أن تطهير صفوف الضباط الأتراك وقع بشكل غير متناسب على أولئك الذين أقاموا علاقات وثيقة مع نظرائهم الأميركيين، ولا تزال عملية بناء العلاقات مع الكوادر الجديدة قيد التقدم. ربما كان الأمر الأكثر ضررًا هو العداء الذي تطور بين الجيش التركي وقيادة العمليات المركزية الأميركية (CENTCOM) بسبب تعاون الأخيرة الوثيق في شمال سوريا مع وحدات حماية الشعب (YPG) المرتبطة بحزب العمال الكردستاني (PKK). يعزز هذا النفور التوترات السابقة التي نشأت بين الجيشين في الأيام الأولى للاحتلال الأميركي للعراق. تركيا نفسها تقع في “منطقة المسؤولية” (AOR) للقيادة الأوروبية الأميركية، ولكن، بعد أن دخلت أجزاء واسعة من شمال سوريا وشمال العراق في السنوات الأخيرة، فإن الجيش التركي موجود أيضًا في منطقة مسؤولية CENTCOM، التي تغطي منطقة الشرق الأوسط.
اليوم، لا يزال صانعو القرار في السلطة التنفيذية – بشكل أساسي، وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي – يدعمون بقوة العلاقات الأميركية مع تركيا لأسباب جيواستراتيجية كما ذُكر أعلاه. ولا تشارك المسؤولين الأمريكيين الدعوات الخارجية للـ “فراق” بين البلدين. لكن لا يوجد حماس تجاه أردوغان الذي يُنظر إليه أنه الزعيم التركي الذي يجب تحمله حتى يأتي يوم أفضل في العلاقات الثنائية. وفي الوقت نفسه، بدأت واشنطن في تنويع رهاناتها الجيواستراتيجية في المنطقة، بما في ذلك، على سبيل المثال، زيادة تعاونها العسكري مع اليونان وتطوير منشآت عسكرية هناك.
التوصيات
تركيا حليف في حلف الناتو، لكنها ليست بالضبط صديقة. فهي فريدة بين حلفاء الناتو في اهتمامها بتطوير علاقاتها مع روسيا والصين ودعمها العلني لحماس. تحتاج الولايات المتحدة إلى بذل قصارى جهدها للحفاظ على تركيا ضمن إطار الناتو، لكنها يجب أيضًا أن تستعد للأسوأ – أي، حدوث انقطاع فعلي. لدى واشنطن كل الأسباب لدعم الاقتصاد التركي مع البقاء بحزم في معارضة شراء تركيا للأسلحة الروسية أو أي نوع من العلاقات الأمنية بين أنقرة وموسكو. يجب على واشنطن أيضًا أن تتعامل بحذر مع طلبات تركيا للحصول على أسلحة متقدمة من الولايات المتحدة ومشاركة التكنولوجيا، ما لم تكن واثقة من وجود تداخل واضح في الأهداف التركية والأميركية. باختصار، يجب على الولايات المتحدة التعاون مع تركيا حيثما أمكن، ودعم اقتصادها، والتحلي بالحذر في مساعدتها على تعزيز قوتها العسكرية.
يتطلب ذلك درجة من التعقيد. لا توجد صيغة مثالية. تحتاج الولايات المتحدة إلى ضبط دعمها الاقتصادي والعسكري لتركيا بعناية. قد يؤدي تقييد مبيعات الأسلحة إلى عواقب خاصة به. فمثلاً، قد يؤدي حجب بيع طائرات F-35 الشبحية إلى تركيا إلى دفع أنقرة لشراء معدات روسية أو صينية، أو خلق فجوة يمكن أن يملأها الموردين الأوربيين، أو تسريع تطوير تركيا لطائرتها المقاتلة الخاصة، قآن، التي هي بالفعل في مرحلة متقدمة. ومع ذلك، في نهاية المطاف، يعتمد مخزون تركيا على المعدات الأميركية، ويجب أن يكون الوصول إلى المواد الأميركية حافزًا لتركيا لتعديل خطابها وسياساتها نحو اتجاه أكثر ملاءمة للولايات المتحدة.
بالطبع، يجب على واشنطن أن تحاول إيجاد حل لمشكلة S-400، ولكن ضمن حدود القانون الأميركي الذي يتطلب من تركيا فعليًا التخلي عن حيازة نظام الدفاع الجوي المصنع في روسيا. إذا كانت تركيا مستعدة للتخلي عن بطاريات S-400 الخاصة بها، فيجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لإعادة طرح بيع أنظمة باتريوت، وهي سلاح دفاعي، بشكل جاد على الطاولة. ومع ذلك، لا ينبغي للولايات المتحدة أن تبيع طائرات F-35 لتركيا في ظل رئاسة أردوغان ما لم تكن مقتنعة تمامًا بأن الطائرات ستُستخدم بطرق تتماشى مع المصالح الأميركية) . من المؤكد أن الأساس المنطقي الأصلي لحجب طائرات F-35 عن تركيا كان القلق من انكشاف تكنولوجيتها أمام منظومة S-400 الروسية. ومع ذلك، فإن التاريخ الحديث لأردوغان يدعو إلى التشكيك في قيمة الصفقة بالنسبة للولايات المتحدة مع غياب أي ضمانات..(
وبالمثل، فإن هناك وضعًا لا يحمل حلاً واضحًا، ولكنه جزء أساسي من الأجندة الثنائية، وهو مسألة الدعم العسكري الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية (SDF)؛ إذ أن العنصر الرئيسي في قواتها هو وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، التي تعتبرها تركيا، بقدر كبير من المبررات، مساوية لحزب العمال الكردستاني (PKK). نظرًا لتعقيدات القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في شمال شرق سوريا، ربما لا تمتلك واشنطن خيارًا سوى الاستمرار في العمل مع وحدات حماية الشعب، مع السعي لجهود الفصل بين تلك المليشيا والجيش التركي. لقد أثارت العملية الأميركية في شمال شرق سوريا غضب الحكومة والشعب التركي. ومع ذلك، فإنها توفر على الأقل درجة معينة من الاستقرار على الحدود التركية وتجنب أنقرة من الاضطرار للتعامل مع الحملة المستمرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من مقاتلي التنظيم وعائلاتهم المحتجزين في شمال شرق سوريا.
قد يوفر احتمال وجود انفتاح جديد من الحكومة التركية، وهو فكرة تم الترويج لها مؤخرًا من قبل حليف أردوغان القومي، دولت باهتشلي، أسبابًا لإيجاد صيغة تعايش بين أنقرة والأكراد السوريين، مما قد يزيل بعض التوترات في العلاقات التركية-الأميركية، بينما تفكر واشنطن في تقليل وجودها العسكري في المنطقة.
ومع ذلك، في غياب حلول لمشكلات S-400 وYPG، سيتعين على الإدارة الجديدة السعي إلى “الاتفاق على الاختلاف” مع أنقرة، كما فعلت إدارة بايدن بنجاح نسبي على مدار العام الماضي. في هذه الحالة، ومع ذلك، ستستمر هاتان المسألتان في تآكل العلاقات الثنائية، سواء على مستوى الحكومة أو الجمهور.
بالطبع، هناك جوانب أخرى في العلاقة الطويلة الأمد بين الولايات المتحدة وتركيا تتجاوز القضايا العسكرية.
يجب أن يتم تسليط الضوء على نظرة واشنطن لـ”قضايا حقوق الإنسان في تركيا”، وخاصة ما تراه بخصوص سجن كل من عثمان كافالا وصلاح الدين دميرتاش؛ وما تعتبره “قيودًا مفروضة على حرية التعبير”، والقوانين المبالغ فيها المتعلقة بالجرائم ضد الدولة.
يجب أن تكون التجارة هي الحدود الجديدة في العلاقة. فقد زاد حجم التجارة بين الولايات المتحدة وتركيا بنسبة 50% خلال السنوات الخمس الماضية، من حوالي 20 مليار دولار إلى ما يقرب من 40 مليار دولار، وأصبحت الولايات المتحدة السوق التصديرية الثانية لتركيا. ينبغي على واشنطن تشجيع هذا الاتجاه، حيث يساعد على ربط تركيا بالغرب. وبالمثل، يجب على الولايات المتحدة أن تكون مرنة قدر الإمكان فيما يتعلق بالرسوم الجمركية على السلع التركية.
في نفس السياق، ينبغي لواشنطن تشجيع تركيا على اتباع توصيات البنك الدولي للسعي لزيادة وجودها في سلاسل التوريد العالمية. (لتحقيق ذلك، يشدد تقرير البنك الدولي لعام 2022 على أن تركيا يجب أن “تحسن الوصول إلى الأسواق على المستوى العالمي وتعزز التكامل الاقتصادي مع الشركاء الرئيسيين مثل الاتحاد الأوروبي، وخاصة من خلال تخفيف الحواجز أمام التجارة في الخدمات.”) مهما كانت صعوبات الولايات المتحدة مع تركيا، تظل تركيا خيارًا أفضل من الصين كحلقة وصل في سلاسل التوريد العالمية.
وأخيرًا، يجب على واشنطن السعي للحفاظ على اتصالات منتظمة مع أردوغان، رغم التحديات هناك. فالزعيم التركي: جزء أيديولوجي، وجزء براغماتي – يتأرجح بين الشخصي والاستراتيجي.
رابط المقال الأصلي من هنا.
بقلم ألان ماكوفسكي – زميل أول – مركز التقدم الأمريكي
مؤسسة بروكينغز – 30 أوكتوبر 2024
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2024