ما بين طفرة التونسي “محمد بوعزيزي” الذي أحرق نفسه تمرداً، ورفضاً لواقع اجتماعي تونسي مُعايش وبغيض. وطفرة “أطفال مدينة درعا السورية” الذين بعفويتهم وبراءتهم اقتلعت أظافرهم ونُكل بهم من أجهزة القمع الأمنية لنظام الأسد الابن. ثمة خيط درامي عربي مديد ومؤلم بجميع تجلياته، وثمة ما يُحكى ويُقال، ومُتسع لقراءة استطلاعية من وجهة نظر شخصية موصولة بثقافة التغيير للتثوير. ندخل من خلالها واحة التاريخ العربي وبنى المجتمع وعاداته وثقافته الموروثة، والمحملة بخواء الوعي حيناً والتجهيل المقصود حيناً آخر والموصولة بالاستبداد والإقصاء والدكتاتورية والفساد بشكل أو بآخر وبثقافة الرعاع والعبيد في كثير من الأحوال. ونسبر من خلال يومياته أبرز الحوادث المؤلمة في حاضرنا الراهن كامتداد طبيعي لتربية عقيمة توارثناها جيلاً بعد جيل. وأوصلتنا في مدارات الربيع العربي المثخن بالأزمات والهجرات العربية القسرية والقهرية، وإلى دروب القتل والدماء وفقدان الأوطان والمجتمع والثقافة والوجود، واستباحة قيم وقيمة الإنسان في عالمنا العربي عموماً ودول الربيع العربي خصوصاً.
لا بدّ لنا قبل الدخول في تجليات الموضوع وتفاصيله توضيح مفهومي (الطفرة والثورة) ليستقيم فهم المعنى من العنوان ومحتواه من أجل الوصول إلى نتائج واقعية، تُمكننا من التمييز ما بين كلا المفهومين وما بينهما من تعارض وتناقض مفهومي، ندرجهما وفق ما يأتي:
الطفرة التي نعنيها هي حالة سلوكية حركية موصولة بوعي الإنسان العربي لذاته المقهورة والمقموعة في لحظة مواجهة الذات الفردية مع الحقيقة المرّة والقاسية والمُعايشة، يقوم بها مجموعة من الأفراد المتشابهين بالمعاناة والمظلومية، أشبه ما يكون بحالة الغريق الذي يتمسك بقشة متوهماً بها أنها سبيل النجاة والخلاص من الغرق، والموت المحتم له في نهاية المطاف. وهي أقرب لحالة تمرد اجتماعية سلوكية طارئة وخارجة من رحم المعاناة والفقر والاضطهاد، والحرمان لشرائح اجتماعية عريضة مقموعة ومتأزمة في ظلال وطن، وحكام طغاة وبطانة فاسدة. يقوم بها مجموعة من البشر المظلومين والمكلومين والمحرومين، الذين يسعون سلمياً لتحسين شروط حياتهم ومعيشتهم وفق مطالب بسيطة، ومشروعة من أجل خروجهم من واقعهم الاجتماعي المتردي. غايتهم فيها تحسين شروط حياتهم والاحتجاج ومحاولة لتحقيق أقل المكاسب، وهي ليست الثورة أو التغيير الجذري لاستلام سلطة سياسية أو سواها، وهي أقرب للتمرد أو الانتفاضة العفوية الجماهيرية المحدود.
أما الثورة فهي شيء مغاير للطفرة أو حركة التمرد أو الانتفاضة الشعبية، ولها في متن اللغة السياسية سابقاً وآنياً ولاحقاً أكثر من مدلول ومعنى، وقد مرّت مفاهيمها لدى الساسة والمفكرين بترجمات عديدة ومتنوعة لها عبر متواليات العصور. شكلت الثورة الفرنسية حلقة البداية بما رافقها من ثورة دامية مروراً بأيديولوجيات عصور القوميات الأوربية والماركسية وحركات التحرر الوطني العالمي والحداثة وما بعدها، وصولاً لعصر العولمة الأمريكية ومظاهر الاستعمار الغربي المعاصر الموصول بعجلة التغيير الحاصلة في يوميات الربيع العربي. عنوانها الرئيس: التخلص من النظام الدكتاتوري الحاكم والفاسد والظالم والانقلاب عليه بما هو مُتاح لعموم الشعب المتسلحة بالفئات النخبوية المثقفة والطبقات البرجوازية الوطنية والعسكرية المساندة لإرادة الشعب في التغيير، كضمانات متاحة لنجاحها كثورات في استلام السلطة، والبدء بمرحلة انتقالية تُؤسس لعودة الحرية والديمقراطية والنظام السياسي والاجتماعي المُحقق للعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والحقوقية والمتساوية لجميع أفراده كل حسب عمله ومساهمته والتزامه القانوني والأخلاقي في لعب دوره في تحصين مبررات وجوده ونيل حقوقه بالانتماء والمواطنة في وطن معافى بجميع أبنائه.
وحسب اعتقادنا أن مفهوم الثورة يدل على: “التغيير الذي يحدثه الشّعب من خلال أدواته “كالقوّات المسلحة” أو من خلال شخصيّاتٍ تاريخيّة؛ لتحقيق طموحاته، وتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات، ولتنفيذ برنامج من المنجزات الثّوريّة غير الاعتياديّة. وهي حركة سياسية مجتمعية اجتماعية جماعية ذات طبيعة خاصة، تشمل قطاع كبير من الجماهير والشعب من مختلف قواه وطبقاته ومكوناته وفلسفته وخياراته. جماهير تنتقل في وسائطها وأدواتها العفوية إلى حالة ثورية منظمة وليست وقتية ولا مرهونة بمطالب خدمية عابرة وترتقي مع عامل الوقت والوعي الذاتي بقدراتها على التغيير ولها برامجها وأساليبها التكتيكية والاستراتيجية ومبررات وجودها وقيامها، وتطوير وسائل حركتها الثورية المدروسة ضد النظام السائد بوسائط كفاحية ونضالية متعددة، وهي المسلحة بأيديولوجيات وفكر ثوري قادر على تحقيق النصر والتغيير الجذري والثورة الكاملة على النظام الاستبدادي السابق وتضم في متنها وثورتها جميع فعاليات المجتمع ومكوناته كافة. وهي المسلحة بضرورات نجاحها أيضاً القائمة على مفاعيل الوعي الفردي والجمعي والمجتمعي، والساعية لحسم المعركة مع عدوها الطبقي والأيديولوجي لمصلحتها، وصولاً لتحقيق أهدافها بالتغيير التام والانقلاب الجذري، والبديل الثوري المؤتلف من جميع قواه الفكرية والتربوية والثقافية والاقتصادية والسياسة والعسكرية، ومشبعة بمفاهيم العنف الثوري الذي لا يُبقي من النظام الفاسد والفئة المتحكمة والحاكم الطاغية والديكتاتور الذي يسلب جميع خيرات البلاد المادية والبشرية لمصلحته الشخصية وبطانته المتماهية مع منافعه أي أثر. موصولة بالطبع بإرادة الشعب في نيل حريته وكرامته ومصلحته في وطن الجميع من أجل منافع الجميع.
لتحميل المقال من هنا