التَيَّارَاتُ الشَّعبَوِيَّة وَجَائِحَةُ كُورُونَا
المقدمــــة:
يلجأ السياسيون إلى أساليب مختلفة، في سبيل الحصول على أصوات الناخبين. وتعتبر الشعبويّة جزءًا من هذه الأساليب، التي تنطوي على خطاب وممارسة سياسية لها خصائصها وميزاتها. وإذا كانت ظاهرة الشعبوية تُقدَّمُ بأنّها خِلاَفُ النخبويّة، فإنّ هذه الظاهرة ترتبط مع ذلك في المجال السياسي بوجود نخبة سياسية تتبنّى هذا المفهوم في أدائها السياسي.
هناك من الباحثين من يربط ظهور الشعبوية بالنظام الديمقراطي- الليبرالي، حيث تستغل الشعبوية مكامن الضعف في هذا النموذج الديمقراطي، الذي يحاول إيجاد توازن وانسجام بين قاعدة الأغلبية وحماية حقوق الأقليات. ينتقد الشعبويون انتهاك مبدأ قاعدة الأغلبية باعتباره انتهاكا للديمقراطية في حدّ ذاتها، بحجة أن السلطة السياسية التامة إنّما تعود للشعب وليس للمؤسسات غير المنتخبة. وهنا تطرح الشعبوية نقطة مهمة تتعلّق بمن سيمارس الرقابة على المراقبين في الأنظمة الديمقراطية، لأنها لا تثق في أية مؤسسة غير منتخبة تحدّ من سلطة الشعب. وهذا المنطق يمكن أن يؤدي بالشعبوية إلى أن تصبح نوعًا من التطرف الديمقراطي أو الديمقراطية غير الليبرالية (Illiberal democracy).[1] ولا شك أن النموذج الديمقراطي الليبرالي ليس نموذجًا كاملًا، وخاليا من أية سلبيات أو مكامن للضعف، لكن يبقى مع ذلك النموذج الأقل سوءًا، وهناك إجماع عالمي في الوقت الراهن حول شرعية الديمقراطية الليبرالية، على الأقل من حيث المبدأ.[2]
ويحتلّ مفهوم الشعبوية مكانة هامة في النقاشات الأكاديمية، فنقطة الاختلاف الرئيسية في هذه النقاشات تتمحور بشكل أساسي حول تعريف هذا المفهوم. إنّ الشعبوية من المفاهيم التي واجه الباحثون، بخصوص تعريفها، صعوبات هامة؛ وكما يقول الأستاذ إرنستو لاكلوErnesto LACLAU، فنحن نَعرِفُ، بشكل حدسي، على ماذا نستند عندما نصف حركة أو إيديولوجية ما بأنّها شعبوية، لكنّنا نجد صعوبات كبيرة في ترجمة هذا الحدس إلى مفاهيم.[3] وبعبارة أخرى، فاستعمال مصطلح الشعبوية يفترض معنى فعليا من خلال استعمالاتنا اللسانية له، إلا أنّه لا يمكن ترجمة هذا المعنى إلى مدلول محدد.[4]
بخصوص تعريف الشعبوية، يمكن التمييز بين ثلاث مقاربات رئيسية؛ بالنسبة للمقاربة الأولى وهي المقاربة الإيديولوجية للشعبوية، فإنّ الأستاذ Cas Mudde، الذي يعتبر من أهمّ روّاد هذه المقاربة، يعرّف الشعبوية بأنّها إيديولوجية مركزية رقيقة (Thin-centered ideology) تعتبر المجتمع منقسما إلى معسكرين هما “الشعب النقي” مقابل “النخبة الفاسدة”، وترى الشعبوية بأن السياسة يجب أن تكون تعبيرا عن الإرادة العامة للشعب (volonté générale (general will)).[5] المقاربة الثانية هي مقاربة الإستراتيجية السياسية للشعبوية، التي ترى في الشعبوية استراتيجية سياسية يستخدمها نوع محدد من الزعماء الذين يسعون إلى الحكم على أساس الدعم المباشر من أتباعهم، وبدون وساطة من أي طرف. وترتبط هذه المقاربة بوجود شخصية قوية كاريزيمية، تركز القوة وتحافظ على اتصال مباشر مع الجماهير. وانطلاقا من هذا المنظور، لا يمكن للشعبوية أن تستمر على مر الزمن، حيث أن القائد عاجلا أو آجلا سيموت، ولا بد من عملية تعصف بها الصراعات.[6] المقاربة الثالثة والأخيرة هي الشعبوية كخطاب، حيث يرى الأستاذ Carlos De La Torre أن الشعبوية هي ذلك الخطاب الذي يبني السياسة باعتبارها النضال الأخلاقي والأدبي بين الشعب والأوليغارشية.[7]
ومن الناحية التاريخية، كانت فترة الأزمات هي الفترة الملائمة التي تنتعش فيها التيّارات الشعبوية. ويعود هذا الأمر إلى كون الأزمات تؤجّجُ مشاعر الخوف والقلق، وهو ما تستغّله الحركات الشعبوية، بخطابها العاطفي والاحتجاجي، من أجل كسب المؤيدين.
وبما أنّ جائحة كورونا تعتبر من أكبر الأزمات التي عرفها العالم، في فترة ما بعد الحرب الباردة، فإنّ السؤالَ يُطرح حول كيفية تعامل التيّارات الشعبوية مع هذه الأزمة، خصوصا وأنّها قامت بتدبير هذه الأزمة من موقع السلطة، بعد أن تمكنت من الوصول إلى قيادة العديد من دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بعد سنة 2008؟
من أجل معالجة هذا الموضوع، سنتناول بداية كيف تُشَكِّلُ الأزمات أرضًا خصبةً للتيّارات الشعبويّة، من خلال نموذج الأزمة المالية لسنة 2008، ثمّ سنتطرّق إلى خصائص أزمة جائحة كورونا وكيف تعاملت معها هذه التيّارات السياسية.
—
أولًا: الأزمات أرض خصبة للتيّارات الشعبوية
في فترة الأزمات، التي تتميّزُ بطغيان مشاعر الخوف والقلق، يجد الخطاب الشعبوي، بنبرته الاحتجاجية وهجومه على مختلف المؤسسات التقليدية، فرصته للانتشار وكسب المؤيدين. وتعتبر الأزمة المالية لسنة 2008، بنتائجها السلبية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، نموذجًا من هذه الأزمات، التي استغلّتها التيّارات الشعبويّة من أجل الوصول إلى السلطة.
فكيف حملت هذه الأزمة التيّارات الشعبوية إلى كرسي السلطة؟ (1) وما هي وصفات هذه التيّارات السياسية، التي تجذب المؤيدين، لحلّ مثل هذه الأزمات (2).
- كيف حملت الأزمة المالية لسنة 2008 التيّارات الشعبوية إلى كرسي السلطة؟
حسب بعض الباحثين، تعتبر الأزمةُ المالية لسنة 2008 ثاني أكبر أزمة يعرفها العالم في فترة ما بعد الحرب الباردة، بعد الأزمة الناجمة عن هجمات 11 سبتمبر 2001.[8] وبالتالي، فإنّ الأمر يتعلّقُ بحدثٍ مهمٍّ، سواء من الناحية الاقتصادية أو من حيث انعكاساته السياسية.
في أسباب أزمة 2008، حدَّدَ التقريرُ الرسمي، الصادر عن اللجنة الوطنية حول أسباب الأزمة المالية والاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية، الفقاعةَ العقارية بأنّها السبب المباشر لهذه الأزمة. وقد كانت هذه الفقاعة نتيجةً مباشرةً لأسعار الفائدة المنخفضة والقروض السهلة واللوائح الحكومية المتراخية.[9] كما أكّدَ التقريرُ أنّ ممارسات الإقراض غير المسؤولة، والتحويل المشكوك فيه للرهون العقارية إلى أوراق مالية (questionable mortgage securitization) وسوق الأوراق المالية غير المُدرجة كلها عوامل ساهمت في الأزمة المالية لسنة 2008.[10]
وكان من نتائج هذه الأزمة، بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، أنّها أدّت إلى تفاقم عدم التوازن الضريبي بسبب تراجع الإيرادات كنتيجة للتخفيضات الضريبية التي أقرّتها إدارة بوش وزيادة الإنفاق لدعم الحروب في العراق وأفغانستان. وبالإضافة إلى ذلك، أدى انهيار المؤسسات المالية وتشديد إجراءات النظام المالي إلى انكماش الاقتصاد الوطني، مع خسائر في الأجور والدخل والوظائف والثروة. وتبلغ تقديرات التكلفة المالية للأزمة المالية ما قدره 648 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة غير المحقق بسبب تباطؤ النمو، وخفض 3.4 تريليون دولار من ثروة العقارات في الولايات المتحدة مع نصف مليون حالة حجز إضافية بسبب انهيار الفقاعة العقارية، وانخفاض قدره 7.4 تريليون دولار من الثروة المالية نتيجة للأزمة، وفقدان أكثر من خمسة مليون وظيفة أمريكية إضافية.[11] كما امتدّت هذه الأزمة وهذه النتائج السلبية إلى العديد من دول العالم، خصوصا دول أوروبا الغربية.
وهذه النتائج السلبية للأزمة زعزعت ثقة الكثير من المواطنين في النخب، السياسية والاقتصادية، وفي النموذج الحالي للديمقراطية الليبرالية والاقتصاد الليبرالي. وتلقّفت التيّارات الشعبويّة هذا التأثير لنشر دعايتها، وزيادة أعداد المؤيدين. غير أنّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ليست هي العامل الوحيد، بل هي مرتبطة بجملة عوامل أخرى؛ مثل العولمة، والسلطات المتنامية لبعض المؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية: صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، مؤسسات الاتحاد الأوروبي، على حساب السيادة الوطنية، وأزمة الهوية. كلّ هذه العوامل عزّزت مشاعر التهميش والتخلّي عند الكثير من شعوب الدول الأوروبية والأمريكية.[12]
وقد وجد العديد من المواطنين _في الديمقراطيات الغربية_ في التيّارات الشعبوية ملاذًا وجوابًا عن الأزمة الاقتصادية وأزمة الديمقراطية الليبرالية، وتجلّى ذلك في صعود هذه التيّارات عقب الأزمة المالية لسنة 2008، في العديد من الدول؛ مثل الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، هولاندا، فرنسا، هنغاريا بولندا. وتراوح هذا الصعود بين تسلّم السلطة أو تسلّق سلّم المراتب في الاستحقاقات الانتخابية.
وتكمن الوصفة السحرية للشعبويّة، من أجل إقناع النّاخبين، في تبسيطها للأسباب، الأمرُ الذي يؤدي بدوره إلى وضع حلول تبسيطية. وحسب الباحثة منى خويص، فهذه إحدى خصائص ظاهرة الشعبويّة، التي تتميّزُ بعمقها العاطفي وليس الاجتماعي، وفي محاكاتها للعواطف والغرائز على حساب القدرات الفكرية.[13]
- وصفة الشعوبيّين لحلّ الأزمات: تبسيط الأسباب لتبسيط الحلول أو منطق كبش الفداء
تقوم الشعبوية على وضع تقابلات أو ثنائيات، بين الذات والآخر، بين الشعب والنخب. وباختصار، بين نحن “الأخيار” وهم “الأشرار”. ومن منطلق هذه التقابلات يقوم تفسير مختلف الأزمات، التي تعود بالضرورة إلى الآخر، الذي يمكن أن يكون نخبةً أو مؤسسات الدولة (Establishment) أو مهاجرين أو دولاً معاديةً أو دينًا أو مؤسسات دولية أو إقليمية أو عرقًا.
وبناءً على هذه الثنائيات، فإنّ التفسير الشعبوي ليس تفسيرًا علميًا أو تفسيرًا موضوعيًا، بل يقوم على إسقاط أفكار مسبّقة على أزمات معيّنة، من أجل إيجاد كبش الفداء، الذي يجب أن يكون بالضرورة هو الآخر. وهنا يبرز تهميش هذا التيّار لفئة الخبراء، من أجل تفسير الأزمات وإيجاد الحلول، ويعتمد بدلًا من ذلك على إثارة حماسة المشاعر والعواطف عند المواطنين بحلول زائفة. ويعودُ هذا التهميش للخبراء، من طرف القادة الشعبويين، إلى معاداتهم للمؤسسات، التي تضمّ هؤلاء الخبراء، من قانونيين وأكاديميين ومثقفين وصحفيين، الذين يصفهم دونالد ترامب، أحد أبرز القادة الشعبويين، بأنّهم “أعداء الشعوب” ويجب قمعهم.[14] وحسب الكاتب الألماني رالف شولر، مؤلف كتاب “لنكن شعبويين”، فالشعبوية ليست حركة سياسية مثل الحركات الليبرالية أو الاشتراكية أو المحافظة، بل هي أسلوب سياسي متزايد الأهمية، يقدم إجابات بسيطة للأسئلة المعقدة، لأنّها السبيل لجذب أكبر عدد ممكن من المقترعين.[15]
إنّ الخِطَابَ التبسيطي حول أسباب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية يفتح الطريق إلى أصوات فئات عريضة من الناخبين، لأنّه يخلو من التعقيد، ولأنّه يعطي انطباعا بالقطيعة مع النخبة السياسية التقليدية، التي غالبًا ما تحاول مراعاة مختلف التوازنات الداخلية والخارجية في خطابها السياسي، الأمر الذي يجعل هذا الخطاب مكبّلاً وغير مستجيب لتطلعات الكثير من الناخبين. وفي هذا الإطار، يمكن إعطاء نموذج خطاب دونالد ترامب في حملته الانتخابية سنة 2016، والتي قَدَّمَ فيها وعودًا بإطلاق حرب تجارية ضد كل منافسي أميركا، وضد الاتفاقيات التجارية الدولية، ووعد باستثمارات هائلة في مشاريع تجديد البنية التحتية، وهدَّدَ بترحيل الملايين من المهاجرين غير الشرعيين من البلاد، وبناء حائط على الحدود الأميركية-المكسيكية، ومنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة.[16] ومن خلال هذه الوعود، تبرز الملامح “الصدامية” مع الدول الأجنبية وكراهية الأجانب باعتبارهم أسبابًا للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها الولايات المتحدة.
لقد حملت الأزمة المالية لسنة 2008، والخطاب السياسي الشعبوي، بخصائصه التبسيطية والعنصرية، التيّار الشعبوي إلى سدّة الحكم في الكثير من الديمقراطيات الغربية. وإذا كانت الأزمات تمثّلُ أرضية خصبة لمثل هذه التيّارات، عندما تكون في موقع المعارضة، فإنّ السؤال الذي يُطرح هو: ما وقع أزمة فيروس كورونا على التيّارات الشعبوية وهي في سدّة الحكم؟
ثانيا: خصائص أزمة جائحة كورونا والتيّارات الشعبوية
بالنظر إلى كونها جائحة طبيعية، وغير مرتبطة بالعوامل التي اعتادت التيّارات الشعبوية إثارتها، مثل الهجرة والعولمة، فإنّ أزمة كورونا مثّلت تحديًّا لهذه التيّارات، خصوصًا تلك التي وصلت إلى سدّة الحكم. فكيف قام التيّار الشعبوي بتدبير أزمة كورونا؟ (1) وما هي النتائج المحتملة على شعبيته جراء هذا التدبير؟ (2)
- تدبير أزمة كورونا من موقع السلطة ومأزق التيّارات الشعبويّة
وجدت التيّارات الشعبوية، سواء تلك التي وصلت إلى السلطة أو تلك التي ما زالت في المعارضة في الديمقراطيات الغربية، نفسها في مواجهة أزمة غير معتادة، لأنّ الأمرَ يَتَعَلَّقُ بَجَائِحَةٍ طبيعية، وبالتالي يصعب إيجاد كبش فداء في هذه الحالة، لتحميله تبعات هذه الأزمة. إذا كانت هذه التيّارات معتادةً على تفسير مختلف الأزمات بالهجرة والعولمة والمؤامرة؛ فإنّها أظهرت ارتباكًا واضحًا، لأنّ مختلف هذه الأسباب “التقليدية” في أدبيات هذا التيّار السياسي كانت قاصرةً وغير مستساغة لتفسير أزمةٍ مثل أزمة كورونا.
وبطبيعة الحال، فإنَّ الارتباكَ كان أكبر بالنسبة للتيَّارَات الشعبويّة التي تقوم بتدبير جائحة كورونا من موقع السلطة. ومن أجل إبراز هذا الأمر، سوف نركّزُ على نموذج الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الذي قام بتدبير هذه الجائحة تدبيرًا مرتبكًا إلى حدٍّ كبير، ويظهر هذا الأمر في تصريحاته المتضاربة، كما هو مُبَيَّنٌ في الجدول أدناه، والذي اعتمدنا في وضعه على مقالة منشورة بموقع The Atlantic.[17]
تاريخ التصريح | موضوع التصريح | محتوى التصريح | ملاحظات |
07 فبراير 2020 | طبيعة تفشي وباء كورونا | الطقس الحارّ يضعف هذا النوع من الفيروسات. | يمثّلُ هذا التصريح نموذجًا من التصريحات التي لا تحترم رأي الخبراء في الموضوع. |
04 مارس 2020 | إلقاء اللوم على إدارة أوباما | ألغى ترامب قوانين أقرّتها إدارة أوباما حول الغذاء والدواء، والتي حدت من نوع الاختبارات المعملية التي يمكن للولايات إجراؤها وكيفية إجرائها. وقال ترامب: “اتخذت إدارة أوباما قرارًا بشأن الاختبار اتضح أنه ضار جدًا بما نقوم به”. | حاولت إدارة ترامب تحميل إدارة أوباما السابقة بعض تبعات جائحة كورونا، بسبب بعض القوانين التي أقرّتها هذه الإدارة في فترة ولايتها. |
06 مارس 2020 | اختبار فيروس كورونا | أي شخص يحتاج إلى اختبار، يحصل على اختبار. | رغم عجز الولايات المتحدة بخصوص الاختبارات، استمرّ الرئيس في إطلاق تصريحات غير مطابقة للواقع. |
17 مارس 2020 | تناول الجائحة على محمل الجد | لقد علمت دائمًا أن هذا حقيقي وأنّ هذه جائحة. شعرت أنها كانت جائحة قبل وقت طويل من أن يطلق عليها جائحة … لطالما رأيت أنها أمر خطير للغاية. | قلل ترامب بشكل متكرر من خطورة COVID-19 عندما بدأ تفشي المرض في الولايات المتحدة. واستخدم ترامب تصريحاته لإرسال رسائل مختلطة وزرع الشك حول خطورة التفشي، فمرة يصف الفيروس بأنه “خدعة”، ومرة يقارنه بالأنفلونزا الشائعة. |
23 أبريل 2020 | العلاجات واللقاحات | اقترح في إحاطة في 23 أبريل أن خبراءه الطبيين يجب أن يبحثوا في استخدام الضوء القوي والمطهرات المحقونة لعلاج COVID-19. | حاول ترامب تبرير هذا التصريح بأنه كان يسخر فقط، لكن الحقيقة أنه لم تكن نبرة ترامب ساخرة عندما قدم اقتراحًا واضحًا بحقن المطهرات. |
ومن خلال هذه التصريحات، نلاحظ الحضور الطاغي للهاجس الانتخابي في تدبير أزمة كورونا، من خلال محاولة تحميل تبعات جائحة كورونا لأطراف داخلية وخارجية، والدخول في صراعات مع هذه الأطراف المختلفة. ويعود هذا الأمر إلى كون القادة الشعبويين يفهمون الحكم كحملة انتخابية دائمة ومستمرة،[18] لأنّ هذه البيئة، التي تتميّزُ بالانقسام المجتمعي وبالصراعات، هي التي توفّرُ لهم الشروط الملائمة لتفعيل مختلف أدوات الخطاب الشعبوي، مثل المؤامرة والوقوف في مواجهة أعداء الشعب. وبالتالي، فإنّ القادة الشعبويّين، عندما يتمّ انتخابهم على رأس الدولة، يستمرّون في التصرّف كمرشحين أو كرؤساء لقطاع من الشعب وليس كلّ الشعب.
وقد مرَّ تدبيرُ الرئيس ترامب لجائحة كورونا، من ثلاث مراحل رئيسية؛ ففي المرحلة الأولى، حاول الاستخفاف بالفيروس والتقليل من خطورته؛ لكن، وعندما بدأ الفيروس بالانتشار بشكل كبير في البلاد، مرّ ترامب إلى المرحلة الثانية، من خلال الادعاء بالسيطرة على الفيروس وفعالية الإجراءات المتخذة؛ وعندما تفاقم الوضع أكثر، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية البلد الأول عالميا من حيث عدد الإصابات وعدد القتلى جراء الفيروس، انتقل ترامب إلى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الهجوم على الصين ومنظمة الصحة العالمية، واتخاذ إجراءات ضدّهما.
وقد أظهر تعامل ترامب مع أزمة كورونا محدودية النموذج الشعبوي كوسيلة في التدبير، لأنّ الخبرة مهمة، والمؤسسات مهمّة، وتعاون المجتمع العالمي مهمٌّ أيضا من أجل مواجهة هذه الجائحة،[19] وهي العناصر الثلاثة التي تمّ إهمالها في تدبير أزمة كورونا من طرف ترامب. وربّما يؤكّد هذا الفشل الحكمة التقليدية التي تقول أنّ الأحزاب الشعبوية هي في الأساس أحزاب احتجاجية وأن الاحتجاج لا يمكن أن يحكم، حيث لا يمكن للمرء أن يحتج على نفسه، فبمجرد أن يصبح الفاعلون السياسيون نخبة في السلطة، سيكون من الصّعب عليهم أن يستمرّوا في الموقف المناهض للنخب.[20]
إنّ التيّارات الشعبويّة هي في الأساس حركات احتجاجية، وصعودها لتسلّم السلطة يفقدها بطريقة أو بأخرى روحها. كما أنّ ممارسة السلطة يشكل امتحانا لهذه التيّارات ومحكًّا للحلول التي كانت تقترحها عندما كانت في المعارضة، لأنّ الوصفات التبسيطية ستظهر بسرعة على أنّها غير قابلة للتطبيق، ولأنّ مناهضة السياسة (Antipolitics) لا تستطيع تقديم سياسات حقيقية.[21]
كما حَرَمَ الوصولُ إلى السلطة التيّارات الشعبوية من أحدِ أَهَمِّ أسلحتها التضليلية، وهي ادّعَاؤُهَا أنَّ النّخَب السياسية في البلاد تحكم ضد الإرادة السياسية للشعب، فهي تخسر موقع المتحدث باسم “الأغلبية الصامتة”.[22] وبالتالي، فإنّ تدبيرَ أزمة كورونا من موقع السلطة وضع الكثير من مقولات هذه التيّارات تحت المحكّ، وهو الأمرُ الذي أبرز محدودية هذا النموذج التدبيري وضعف الحلول والإجراءات التي يقترحها، في فترة أزمة خطيرة مثل أزمة كورونا.
- النتائج المحتملة لأزمة كورونا على التيّارات الشعبوية:
ينعكس فشل نموذج ترامب في التعامل مع أزمة كورونا، بالإضافة إلى الوزير الأول البريطاني بورييس جونسون، الذي لم يأخذ الأزمة على محمل الجد إلاّ بعد أن أصيب بوباء كورونا، بشكل سلبي على شعبية الكثير من التيّارات الشعبوية في العديد من الدول الأوروبية؛ مثل فرنسا، حيث لم تستطع رئيسة التجمع الوطني مارين لوبين من التقدّم في استطلاعات الرأي، رغم انتقاداتها المتكررة لأداء الرئيس ماكرون وحكومته بخصوص أزمة كورونا.[23]
وفي هذا الإطار، أبرز استطلاع للرأي، أجرته رويترز/إبسوس ونُشِرَ يوم الثلاثاء 12 أيار/ماي 2020، أنّ المرشح الديمقراطي المحتمل للرئاسة الأميركية جو بايدن، يتقدم على الرئيس الأميركي دونالد ترامب في استطلاعات الرأي العام بفارق ثماني نقاط مئوية بين الناخبين المسجلين. كما كشف نفس استطلاع الرأي عن تزايد عدد الأميركيين المنتقدين لترامب على مدى الشهر الماضي، في وقت يرتفع فيه عدد الوفيات بسبب جائحة فيروس كورونا.[24] وفي فرنسا، أظهر استطلاع للرأي أنّ مارين لوبين، رئيسة حزب التجمع الوطني الشعبوي، ليست ضمن الـ(25) شخصية سياسية الأكثر تقديرًا من طرف الفرنسيين، ولم تظهر إلاّ في المرتبة (28)، وهو الأمر الذي يعني أن المرشحة المحتملة للانتخابات الرئاسية الفرنسية لم تتمكن من أن تقنع الكثير من الفرنسيين، في فترة أزمة كورونا، التي يمكن اعتبارها فترة في صالح الحركات السياسية المعارضة.[25] وفي ألمانيا، أظهر استطلاع للرأي تراجع شعبية حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني الشعبوي بين الناخبين الألمان إلى أدنى مستوى له منذ الانتخابات العامة، التي أجريت في ألمانيا سنة 2017. وبحسب الاستطلاع، الذي أجراه معهد كانتار/أمنيد لصالح صحيفة “بيلد أم زونتاغ” الأسبوعية، والتي نشرت نتائجه في عددها الصادر يوم الأحد 19 نيسان/ أبريل 2020، تراجعت شعبية “البديل” نقطة مئوية واحدة ليحصل الحزب على 9 %، وهي أسوأ نتيجة تأييد له منذ عامين ونصف العام.[26]
من خلال هذه النماذج، يبدو أنّ جائحة كورونا عطّلت فعالية الخطاب الشعبوي، وحدّت من قدرته على استقطاب المزيد من المؤيدين. لكن، من الصعب تعميم مثل هذا الرأي على كلّ التيّارات الشعبويّة في أوروبا وأمريكا، خصوصًا وأنّ أزمة كورونا ما زالت متفاعلة ونتائجها الاقتصادية والاجتماعية لم تتّضح بعد.
خاتمــــــــــــة:
تصلُ التيّارات الشعبويّة إلى السلطة، ليس بسبب كفاءة برامجها، ولكن بسبب الجرعة الزائدة من الاحتجاج في خطابها ومن الراديكالية في مواقفها. وبالتالي، فالتصويت لهذه التيّارات هو بالدرجة الأولى تعبيرٌ عن الاحتجاج على النخب التقليدية وعلى نقائص الديمقراطية الليبرالية وعلى النتائج السلبية للعولمة.
ووصول حركات سياسية، كلّ رأسمالها هو الخطاب الاحتجاجي، يضعها أمام تحديّات كبيرة، وهو ما برز في أزمة كورونا، التي فشل بعض القادة الشعبويين في إدارتها (ترامب، جونسون …)، الأمر الذي كان ثمنه حياة آلاف المواطنات والمواطنين. وحتى قبل أزمة كورونا، أشار العديد من الباحثين إلى أنّ الأحزاب الشعبوية تواجه مشاكل حقيقية بفعل “عدم خبرتها في صياغة السياسات”، و”نقص الكوادر البشرية المؤهلة”، وللضغط الذي تتعرّضُ له من أجل “الحفاظ على راديكالية برامجها وتمثيلها السياسي”.[27]
إنّ مختلف هذه العوامل، ساهمت في ضعف أداء الحكومات الشعبوية في فترة جائحة كورونا، الأمر الذي أدّى إلى تراجع شعبية هذه التيّارات السياسية في استطلاعات الرأي، في الكثير من دول أوروبا وأمريكا، فهل ستسقط جائحة كورونا التيّارات الشعبويّة من كرسي السلطة؟
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020
[1] Cas Mudde and Cristóbal Rovira Kaltwasser, Populism: A Very Short Introduction, Oxford; New York, NY, Oxford University Press, 2017, p. 82.
[2] Francis Fukuyama, Can Liberal Democracy Survive the Decline of the Middle Class?, Foreign Affairs, January/February 2012 Issue, Available on this Website (Accessed 03/06/2020).
https://www.foreignaffairs.com/articles/2012-01-01/future-history
[3] Ernesto LACLAU, Vers une théorie du populisme, traduit par C. Bonnarens, Civilisations, Vol. 31, No. 1/4 (1981), p. 53.
[4] Ernesto LACLAU, Populism: What’s in a Name? In Francisco Panizza (Edited by), Populism and the Mirror of Democracy, London – New York, VERSO, 2005, pp. 2-4.
[5]Cas Mudde and Cristóbal Rovira Kaltwasser, Op. Cit., p. 6.
[6] Cas Mudde and Cristóbal Rovira Kaltwasser, Op. Cit., p. 4.
[7] Carlos De La Torre, Populist Seduction in Latin America, Athens, Ohio University Press, Second Edition, 2005, p. 4.
[8] Thomas Wright and Kurt M. Campbell, The Coronavirus Is Exposing the Limits of Populism, The Atlantic Website (Accessed on 30/05/2020)
https://www.theatlantic.com/ideas/archive/2020/03/geopolitics-coronavirus/607414/
[9] The Financial Crisis Inquiry Commission, Final Report of the National Commission on the Causes of the Financial and Economic Crisis in the United States, (Government Printing Office: Washington, February 25, 2011), p. xvi, Govinfo Website (Accessed on 30/05/2020)
https://www.govinfo.gov/content/pkg/GPO-FCIC/pdf/GPO-FCIC.pdf
[10] Ibid, pp. xvii-xxvii.
[11] Phillip Swagel, The Cost of the Financial Crisis: The Impact of the September 2008 Collapse, Website of The Pew Charitable Trusts (Accessed 30/05/2020)
http://www.pewtrusts.com/~/media/assets/2010/04/28/costofthecrisisfinal.pdf
[12] Entrtien d’Ian Buruma avec Le Monde, Samedi 3 mai 2014, p. 17.
[13] منى خويص، رجال الشرفات: دراسة تحليلية للظاهرة الشعبوية، بيروت، دار الفارابي، الطبعة الأولى، 2012، ص. 71.
[14] بسمة المومني، من ترامب إلى أردوغان، حذار من التوجهات الشعبوية، مقال منشور بالموقع الرسمي لمعهد بروكنجز (تاريخ الولوج 01/06/2020)
[15] حوار موقع Swissinfo مع رالف شولر، سويسرا.. “بلد شعبوي بأفضل معنى للكلمة“، تاريخ الولوج 01/06/2020
[16] لغز ترامب: ملامح السياسة الأميركية الجديدة، موقع مركز الجزيرة للدراسات (تاريخ الولوج 01/06/2020)
https://studies.aljazeera.net/ar/article/584
[17] CHRISTIAN PAZ, All the President’s Lies About the Coronavirus, The Atlantic Website (Accessed on 02/06/2020)
https://www.theatlantic.com/politics/archive/2020/05/trumps-lies-about-coronavirus/608647/
[18] Jan-Werner Müller, What Is Populism ? Philadelphia, University of Pennsylvania Press, 2016, p. 43.
[19] Thomas Wright and Kurt M. Campbell, Op. Cit.
[20] Jan-Werner Müller, Op. Cit., p. 41.
[21] Ibid.
[22] عزمي بشارة، صعود اليمين واستيراد صراع الحضارات إلى الداخل: حينما تنجب الديمقراطية نقائض الليبرالية، دورية سياسات عربية، العدد 23، تشرين الثاني/نوفمبر 2016، ص. 19.
[23] Olivier Bost, Coronavirus : Marine Le Pen est-elle en panne ?, Site de RTL (Date de consultation 02/06/2020)
https://www.rtl.fr/actu/politique/coronavirus-marine-le-pen-est-elle-en-panne-7800460134
[24] وسط تزايد وفيات كورونا.. بايدن يتقدم على ترامب في استطلاعات الرأي، موقع الجزيرة (تاريخ الولوج 02/06/2020)
https://www.aljazeera.net/news/politics/2020/5/13/بايدن-استطلاع-ترامب-كورونا-شعبية
[25] Jean-Philippe Moinet, Pourquoi la crise du coronavirus ne profite pas autant que prévu à Marine Le Pen, Site de Huffingtonpost.fr (Date de Consultation 02/06/2020)
[26] استطلاع: إلى هذا الحد هوَت كورونا بشعبية حزب “البديل” الشعبوي!، موقع DW (تاريخ الولوج 03/06/2020)
https://www.dw.com/ar/استطلاع-إلى-هذا-الحد-هوَت-كورونا-بشعبية-حزب-البديل-الشعبوي/a-53178338
[27] Reinhard Heinisch, Success in Opposition – Failure in Government: Explaining the Performance of Right-Wing Populist Parties in Public Offce, West European Politics, Vol.26, No.3 (July 2003), p. 101.