سيبقى الخطر قائمًا في الاتحاد الأوروبي، حتى وإن هُزم دونالد ترمب في الانتخابات الأمريكية، فهزيمته لا تعني بالضرورة العودة بأوروبا إلى “العمل كالمعتاد”، إنما هناك ما سيبقى عائقًا في وجه المشروع الفرنسي لتطوير الاستقلالية الاستراتيجية لدول الاتحاد.
يمكن القول أنه في أوروبا تمّ خلق شبه إجماع ضدّ ترمب بسبب ما رآه الكثير من الأوروبيين أنه “خيانة” لحلفائه والتعامل معهم بفظاظة شديدة، ثمّ السعي إلى “تفكيك” الشراكة عبر الأطلسي و”تشويه” التعددية عالية القيمة في القارة القديمة.
في مواجهة دونالد ترمب فقدت أنجيلا ميركل أوهامها مبكرًا، بينما استطاع إيمانويل ماكرون الصمود لفترة أطول، معتقدًا أنه يمكن في النهاية أن يؤثّر عليه، واليوم يحبس غالبية أعضاء الاتحاد الأوروبي أنفاسهم على أمل فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن.
وعليه، فإذا كان الأوروبيون قد تجنّبوا الحديث عن رغبتهم هذه علنًا حتى لا يتدخلوا في حملة انتخابية قوية، فإنهم يستعدون لجميع السيناريوهات، وقبل كل شيء “الأخبار السيئة” التي ستشكلها – بالنسبة إليهم- إعادة انتخاب ترمب.
لذلك فأكثر ما يخشاه حلفاء أمريكا هو أن يستمر الرئيس الأمريكي في تفكيك القواعد الدولية في فترة ولاية ثانية، كما يخشى البعض خروجًا وحشيًّا من الناتو الذي يراه ترمب منظمة “عفا عليها الزمن” مليئة بالأوروبيين الذين يستغلون المظلة الأمنية الأمريكية دون دفع الفاتورة.
يمكن أيضًا أن يكون الحلف الأطلسي ضحيةً جانبية للحرب التجارية التي تلوح في الأفق بين الولايات المتحدة وأوروبا، والتي تهدّد بقطع الارتباط عبر الأطلسي وتقسيم أعضاء الاتحاد الأوروبي، وستكون فرنسا الأكثر تأثرًا ومعاناة من الزخم التفكيكي الجديد في إدارة ترمب الجديدة، لأن استمرار اشتباكاتها العسكرية في بعض مناطق أفريقيا لا سيما في منطقة الساحل يعتمد بشكلٍ جزئيّ على الولايات المتحدة.
“إذا أُعيدَ انتخاب دونالد ترمب سيتصرف مع أوروبا مثل كبشٍ، مصمّمٌ على مواصلة عمله في التدمير” الدبلوماسي ميشيل دوكلوس
السيناريو الثاني الذي تزداد احتمالية حدوثه هو فوز المرشّح الديمقراطي جو بايدن في ٣ تشرين الثاني/ نوفمبر، مع أحد سيناريوهين على المحكّ، إمّا أن يقبل دونالد ترمب بالنتيجة، أو أن يظهر أنه لاعبٌ سيء ويقرّر ممارسة سياسة الأرض المحروقة، وقتها ستطول كثيرًا قائمة القرارات التي يمكن أن تضرّ ليس فقط جو بايدن وأمريكا ولكن أيضًا بالأمن الأوروبي، من انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان إلى انسحابها من العراق أو نهاية التحالف المناهض لداعش.
في هذا المجال يشرح الدبلوماسي ميشيل دوكلوس في مذكّرة لمعهد مونتينمن المفترض أن تُنشر في ٢٠ تشرين الأول/أكتوبر “إذا أُعيد انتخاب دونالد ترمب سيتصرف تجاه أوروبا ككبشٍ أصَرَّ على مواصلة عمله في التدمير، بالمقابل يُفضّل جو بايدن أن يُقدّم نفسه على أنه راقص تانغو: مُغرٍ واثقٌ أين يضع خطوته القادمة في رقصته، ويعرف كيف يلفت الانتباه إلى خطوته هذه أو يدفع الآخر إلى تجاهلها”.
مع وجود جو بايدن في البيت الأبيض، يتوقّع الأوروبيون أن تتحسّن العلاقات عبر الأطلسي، فمن الممكن حسبما يتوقعون أن يدخل المرشح الديمقراطي في اتفاقية باريس للمناخ وفي منظمة التجارة العالمية، وكذلك سيُعيد – لكنه احتمال صعب- انضمام الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الإيراني، كما يمكن أن يشير فوزه إلى عودةٍ محتملة للتعددية، ويَعِدُ بوصول إدارة أكثر انتباهًا للأوروبيين.
“ستستمرّ العزلة”
ومع ذلك لا يؤمن الجميع بالعودة إلى “العمل كالمعتاد” إذ ستبقى بعض الأساسيات مثل “التأرجح المستمر والكبير لأمريكا”.
يقول أحد الدبلوماسيين “المشكلة هي أنه لا توجد أو لم تعد توجد قوة أمريكية تضمن النظام الدولي”، فعندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية فإن دونالد ترمب ليس انحرافًا، لأن القطيعة مع أوروبا بدأت منذ عهد باراك أوباما.
ويتابع الدبلوماسي “كنا نأمل أن تزول الأحادية مع جو بايدن، لكن الواقع هو أن العزلة ستستمرّ”، وهذه ليست بشارة سارّة لأوروبا، فالانسحاب الأمريكي المستمر من الشرق الأوسط سيضرّ بمصالحها الأمنية.
أما الخلافات بين ضفّتي الأطلسي فلن تختفي بطريقة سحريّة، ويُذكّر ميشيل دوكلوس أن “سوء التفاهم عبر الأطلسي -على حدّ تعبير هنري كيسنجر في القرن الماضي- سيطر في كثير من الأحيان على الحوار بين ضفتي المحيط” وبالتالي فإنّ ضغط الولايات المتحدة على حلفائها في الناتو سيستمرّ خاصة أن واشنطن لن تتوقف عن الطلب من الأوروبيين أن يدفعوا المزيد من المال للدفاع عنهم.
في ٢٠٠٨، كانت فرنسا واحدة من الدول الأكثر تماهيًا مع سياسات أوباما، لكن اليوم أكثر ما يسود في مواجهة جو بايدن هو الحذر، فمن الأفضل أن يكون هناك رئيس أمريكي ينسحب من الشؤون الدولية بدلًا من رئيس يحاول بالإضافة إلى ذلك تفكيك هذا العالم.
لكن لا ينبغي أن يأمل الأوروبيون بعلاقةٍ مستقبليةٍ مثاليةٍ مع جو بايدن، حيث لم تكن الأمور بين فرنسا والديمقراطيين تسير على ما يرام دائمًا، فالمطلوب إذًا تَذكُّر التوترات بين باراك أوباما والمسؤولين الفرنسيين وقت الاتفاق النووي الإيراني.
أمّا فيما يتعلّق بالعمليات الخارجية، يوضّح دبلوماسي أن “جو بايدن الذي كان نائبًا للرئيس أوباما لديه سياسة متناقضة مثل سياسة دونالد ترمب” ويقول: إنه “على العكس من ذلك، يمكن للفرنسيين أن يتعاونوا بشكلٍ جيد نسبيًّا مع الجمهوريين منه مع الديمقراطيين كما فعلوا مع جورج بوش”.
لكن أكثر ما تخشاه فرنسا قبل كل شيء، بسبب الموقف العدائي لترمب، هو أن يتلاشى الثقل نحو المزيد من الاستقلال الذاتي لأوروبا.
في هذه المسألة يخشى دبلوماسي فرنسي أنه “إذا ما تمّ انتخاب بايدن الذي يشترك في نفس القيم مع الأوروبيين، وقتها سيتنفس الكثير الصعداء، لأنهم يرون أن الحواجز ستزول وسيعودون إلى الحظيرة الأمريكية”.
أي أن البعض قد يندفع إلى واشنطن لاستئناف العلاقات الثنائية خلف ظهر الاتحاد الأوروبي، حينها ستكون الضربة قوية لفكرة أوروبا القوية الغالية على قلب فرنسا والتي وضعها إيمانويل ماكرون في صميم أجندته الدولية.
الصياغة الأخيرة لكل ذلك لم تصدر إلا من باريس في ضِيْقٍ من الممرات الدبلوماسية: بعد الآن لن يأتي خلاص أوروبا أبدًا من الولايات المتحدة أيًّا كان لون الرئيس أو شخصيته السياسية، بل من أوروبا ذاتها.
إيزابيل لاسير لصحيفة لوفيغارو ١٦ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٠
الرابط الأصلي من هنا
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020