الاصداراتمشاهد

إعلانُ وقفِ إطلاقِ نارٍ صادرٌ عن الأطراف في ليبيا

1. تقديم

أعلن الطرفان السياسيان الرئيسيان في ليبيا حكومة الوفاق ومجلس نواب شرق ليبيا ضمن بيانين منفصلين إيقافهما إطلاق نار، ووقف عمليات عسكرية على الأراضي الليبية، تمهيدًا لصياغة اتفاق يفضي إلى إيقاف النزاع العسكري، وعودة إنتاج النفط بصورة آمنة خصوصًا في منطقتي سرت والجفرة، وتحديد انتخابات جامعة تشارك فيها الأطراف الفاعلة في ليبيا([1]).

جاءَ هذا الإعلان بعد جهود دولية وإقليمية حثيثة لاحتواء النِّزاع، خصوصًا بعد تحقيق قوات حكومة الوفاق تقدمًا عسكريًا باتجاه الهلال النفطي واقترابها من مدينة سرت الاستراتيجية، ما دفع الأطراف الداعمة لمعسكر الجنرال حفتر ومنهم مصر، إلى إطلاق مبادرة لاحتواء الصراع من أجل تحقيق إيقاف إطلاق نار بين الجانبين وفتح المسار الدبلوماسي والسياسي مجددًا في القضية الليبية.

واستنادًا على هذه المبادرة أعربت أطراف أخرى فاعلة دولية وإقليمية، أهمها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تأييدها التحرّك المصري، وبناءً على ذلك تم عقد مباحثات بين الفرقاء.

وأفضت تلك المحادثات إلى إعلان اتفاق وقف إطلاق نار فقط دون التوصل لاتفاق نهائي أو مبدئي، وبالتالي لا يمكن اعتبار هذا الإعلان سوى عامل بناء ثقة بين الفرقاء الليبيين، لكن لن يفضيَ بالضرورة إلى اتفاق شامل أو قد لا يصمد هذا الإعلان كثيرًا من الوقت، وحينها ستعود الأحداث في ليبيا إلى المربع الأول.

وقد ظهرت مؤشرات لذلك حينما قامت قوات الجنرال خليفة حفتر بشن عمليات خاطفة في محيط مدينة سرت لتأمينها بعد أن أعلن المتحدث الرسمي باسم قوات حفتر أن الإعلان “تسويق إعلامي”([2]).

ما يثير التساؤلات حول العقبات التي ستواجه تطبيق هذا الإعلان، عدا عن المضي قدمًا في الوصول إلى تفاهمات وآليات تطبيق ما جاء في البيانين المنفصلين لحكومة الوفاق ومجلس نواب شرق ليبيا حول نزع السلاح من منطقتي سرت والجفرة وتأمين إنتاج النفط وتجنيد قوات شرطة لحماية المنشآت النفطية والوصول إلى عملية انتخابية.

2. مسار تطبيق الاتفاق بين دور عقيلة صالح والجنرال خليفة حفتر

شهدت الفترة الأخيرة صعودًا متزايدًا في الحضور السياسي للمستشار عقيلة صالح، أحد أبرز الزعماء القبليين في شرق ليبيا، ما دفع بعض التحليلات للذهاب باتجاه أنه بات يمثل بديلًا عن الجنرال حفتر خصوصًا بعد فشل الحملة العسكرية التي قادها الأخير للاستيلاء على العاصمة طرابلس قبل أكثر من عام. ما أثار تساؤلات عديدة حول طبيعة العلاقة بين صالح والجنرال حفتر وفق وجهتي نظر رئيسيتين:

الأولى:

يزعم مراقبون أن بوادر انقسام ظهرت بينهما عندما اتخذ صالح موقفًا مغايرًا لحفتر بإطلاقه مبادرة للحل السياسي مع الغرب الليبي، متجاهلًا دعوة حفتر لليبيين لتفويضه لحكم ليبيا، سيما وأن هذا التفويض كان يحمل في طياته إنهاء الحضور السياسي للبرلمان الذي يقوده عقيلة صالح، والذي يشهد هو الآخر انقسامًا بين نوابه.

ما يضعف – بحسب وجهة نظر من يتبنى هذه الرؤية- قدرة عقيلة صالح على أن يشكل بديلًا لحفتر، لأنَّ عدد النواب في برلمان طبرق هو 40 نائبًا فقط، ويوجد برلمان آخر في طرابلس يضم 50 نائبًا([3]).

وقد واجه عقيلة صالح معضلة في جمع النواب لإقرار بعض القوانين المهمة التي تتطلب حضور أغلبية الثلثين لبلوغ النِّصاب القانوني، أي نحو 120 نائبًا على الأقل، الأمر الذي تعذر في غالب الأحيان، مما أدَّى إلى إلغاء عدة جلسات مهمة.

 أي أن هناك في الأساس أزمة تمثيل برلماني تواجهها ليبيا، لكن عقيلة صالح يعتمد على حضوره القبلي القوي بين القبائل الليبية، وقد عزز هذا الحضور لصالحه حينما اجتمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بوجهاء القبائل في ليبيا مؤخرًا([4]).

فيما أرجع محللون صعود دور عقيلة صالح “بسبب تململ الكثير من حلفاء الجنرال حفتر من فشل حملته على طرابلس، وخصوصًا روسيا التي كانت ترى أنها بحاجة للجنرال كشريك وقد كانت موافقة ضمنيًا على هجومه نحو طرابلس، لكن فشله في تحقيق ذلك، وتخوف روسيا من أن يقوم الاتحاد الأوروبي بإضعاف الجنرال الليبي من خلال العقوبات، أضعف من رغبة موسكو وحلفاء الجنرال بشكل عام دعمه مجددًا، وهو ما دفع عقيلة صالح للظهور على حساب الجنرال حفتر”([5]).

الثانية:

أوضح المستشار عقيلة صالح صراحة أنه لا يوجد مع الجنرال حفتر أي خلاف([6])، إنما هناك اختلاف في وجهات النظر لا أكثر. ويبدو أن هذا الموقف هو أقرب للواقعية والترجيح، حيث لا يمكن مقارنة نفوذ عقيلة صالح في ليبيا بنفوذ الجنرال حفتر وقواته العسكرية لعدة أسباب هي:

– الجنرال حفتر الذي يقودُ تشكيلات مسلحة يصفها بِـ “قواتٍ عسكريّة”، ولا يمكن لمجلس نواب شرق ليبيا أن يحتكر التمثيل السياسي لهذه القوات، خصوصًا وأن المجلس لجأ إلى القفز على الإعلان الدستوري، وإقرار “منفردًا” قوانين حساسةً بدون بلوغه النصاب المطلوب لاعتماد قانون الانتخاب.

– لا تزال قوات الجنرال حفتر تسيطر على مساحة واسعة في الأراضي الليبية، وعلى مواقع استراتيجية وهي مصافي النفط في الجنوب والهلال النفطي في الشمال، وعليه فإن ثروات ليبيا النفطية لا تزال بغالبها تحت إدارة قوات حفتر.

– الدول الداعمة للجنرال حفتر تحتاج لضمانات من أجل تمرير مصالحها والحفاظ عليها، لذلك فإن الحفاظ على دعم قوات الجنرال حفتر – وليس بالضرورة خليفة حفتر بشخصه – يعد أكبر ضمانة لها لتحقيق ذلك.

وعليه فإن احتمال أن يكون عقيلة صالح بديلًا للجنرال حفتر قد تعد مقاربة غير منطقية إلى حد ما، وقد يكون هذا الدافع الرئيسي لتصريحات المسماري بأن إعلان وقف إطلاق النار “تسويق إعلامي”([7]). لكن التكامل بين طرف سياسي بقيادة صالح وطرف عسكري وهو قوات الجنرال حفتر سيكون المعول عليه لتنفيذ أي اتفاق مستقبلي قد يتم التوصل إليه بين الفرقاء الليبيين.

3. قراءة في تفاصيل الإعلان بما يخص وضع سرت والجفرة وسبل حفظ الأمن فيها

لم ترد تفصيلات حول مشروع نزع السلاح من منطقتي سرت والجفرة الاستراتيجيتين، بل إن مجرد الإعلان عن سعي طرفي الصراع الليبي إلى مناقشة هذا النموذج للوصول إلى اتفاق، طرح العديد من التساؤلات حول إمكانية تطبيقه.

فقوات الشرطة المحلية التي ستكون معنية بحفظ الأمن فيها ليس من المعروف كيف يمكن تشكيلها وعلى أي أساس أو مبدأ لكن من المحتمل أن المقصود هو إنشاء جهاز شرطة خاص لا يكون قوامه من معسكر السراج أو معسكر الجنرال حفتر.

وربما يكون قوامه من القبائل الليبية في الوسط أو الجنوب التي اختارت الحياد أو عدم المشاركة الفعالة في الصراع الليبي. ومن المحتمل أيضًا -إن تم التوصل لشيء في هذا الصدد- أن تكون قوات الشرطة هذه محايدة بشكل تام وتوكل إليها حماية المنشآت النفطية في سرت والجفرة وضمان آلية تسليم المنتجات النفطية إلى الموانئ الليبية لتصديرها.

ولا يقتصر الأمر فقط على موضوع الشرطة المحايدة، بل إن عوائد النفط من المنشآت في سرت والجفرة لن ترجع إلى أي من معسكر السراج أو معسكر الجنرال حفتر، بل ستذهب إلى حساب خاص يتم إنشاؤه باسم المؤسسة الوطنية للنفط الليبي في إحدى البنوك الأوروبية([8]).

وعليه سيكون عمل هذه المؤسسة غير مرتبط بالدولة الليبية (الغائبة) وهو يثير الشكوك حول مستقبل عمل هذه المؤسسة وتبعيتها للدولة في مستقبل ليبيا، أي أنه سيصبح عملها أقرب إلى الشركة الخاصة منه إلى الشركة العمومية.

ومن الناحية العسكرية، فإن قوات الجنرال حفتر لا تزال تُحكم سيطرتها على المنطقتين وإن أي تفاهمات تحاول استبعاد دور لقوات حفتر في هذه المنطقة لن يكون مقبولًا لدى الأخير، وحينها يمكن العودة للمربع الأول بأن تتجدد الأعمال العسكرية. وعليه فإن الوضع لا يزال معقدًا ولا يمكن التنبؤ بأحداث جذرية قد تغير من مسار الأحداث بشكل كلي.

4. تقييم المواقف الدولية حول إعلان وقف إطلاق النار

المناخ السائد حاليًا في أروقة السياسة الدولية إزاء ليبيا يشهد تحركات حثيثة للحفاظ على ما تمّ الإعلان عنه من وقف إطلاق نارٍ بغية الدفع باتجاه الوصول إلى اتفاق، و”حين الوصول إليه سيتعين على المجتمع الدولي الاضطلاع بدور مهم في مراقبته وتنفيذه. ويعني ذلك مشاركة نشطة من قبل الولايات المتحدة المترددة والاتحاد الأوروبي المنقسم تقليديًا. وعلى وجه الخصوص، سيتعيّن على الجيش الأمريكي توسيع نطاق الصور التي تنشرها القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا عن النشاط الروسي في ليبيا، بينما سيتعيّن على الأوروبيين إنشاء آلية لرصد الانتهاكات المحتملة. بالإضافة إلى ذلك، تتطلب بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا موارد إضافية للإشراف على بعثة المراقبة على النحو الذي وافقت عليه اللجنة العسكرية المشتركة 5 + 5، ويجب تعديل ولايتها وفقًا لذلك عند تجديدها في أيلول/سبتمبر”([9]).

ولا يزال المجتمع الدولي ومجلس الأمن الدولي منقسمين بشأن السياسة المتعلقة بليبيا، لذا يجب أن تبدأ المفاوضات حاليًا حول كيفية معالجة الانتهاكات المحتملة للمنطقة منزوعة السلاح. ولن تقبل موسكو إلا أن تكون جزءًا من هذه المحادثات، على الرغم من استمرارها في إنكار مصالحها العسكرية في ليبيا وعلاقاتها بعمليات مجموعة فاغنر هناك.

وبالنسبة لتركيا فقد استطاعت أن تثبت نفسها كطرف فاعل رئيسي في الأحداث وعليه لا يمكن بناء أي اتفاق إذا لم تتم استمالة الأتراك فيه، ورعاية مصالحها بعيدة المدى في مياه المتوسط.

أما حول التأثير العربي في مسار الأحداث، فقد كان (إعلان القاهرة) حجر الزاوية في بناء توافقات عربية (سعودية-إماراتية-مصرية) ومن المتوقع أن تتحرك الجامعة العربية بإطلاق مبادرة للاتفاق تكون إما برعاية الدول المجاورة لليبيا (مصر، تونس، الجزائر، والمغرب) من أجل مواكبة الرغبة الدولية في احتواء الصراع حاليًا.

5. إلى أين يتجه مسار الأحداث وما هو مستقبل القضية الليبية؟

بالنتيجة فإن مسار الأحداث في ليبيا لا يزال مضطربًا ولا يمكن التعويل على استدامة إعلان وقف إطلاق النار الأخير، إذا لم يتطور بشكل سريع إلى اتفاق يشمل كافة الفرقاء الليبيين.

لأن انهيار الإعلان سيدفع قوات حكومة الوفاق بدعم من حلفائها إلى التقدم نحو سرت وفرض السيطرة عليها بالقوة، وبالمقابل لن تتوانى قوات الجنرال حفتر في الدفاع المستميت عنها، أو على الأقل إن لم يحدث ذلك فستعود عمليات الاستنزاف في طرابلس إلى الواجهة.

بالمقابل فإن الدول الأوروبية تعول على أمر رئيسي وهو ضمان واستقرار إنتاج النفط في ليبيا، بينما تسعى تركيا إلى تأمين سواحل المتوسط والمياه الإقليمية التابعة لحكومة الوفاق، أما روسيا والولايات المتحدة تنظران إلى ليبيا كجزء من استراتيجية طويلة الأمد للتمدد في إفريقيا، وإزاء هذه التوجهات فإن مصير الوضع في البلاد وفق المدى المنظور هو التهدئة حتى وإن تم انهيار الإعلان الأخير إلا أن من مصلحة الأطراف جميعًا إعادة تفعيله والبناء عليه نحو اتفاق مستدام.

6. ملحقات

وقف فوري لجميع العمليات العسكرية.. النص الكامل لبيان حكومة الوفاق الليبية
ملحق رقم (1) بيان إعلان وقف إطلاق نار حكومة الوفاق

ملحق رقم (2) بيان مجلس نواب شرق ليبيا

([1]) “اتفاق على وقف إطلاق النار في ليبيا: سرت والجفرة منزوعتا السلاح ودعوة لانتخابات رئاسية وبرلمانية”. القدس العربي، 21-8-2020. https://bit.ly/32R4Eqt

([2]) “ليبيا.. قوات حفتر ترفض وقف إطلاق النار وحكومة الوفاق تتهمها بالعودة إلى مربع الحرب”. الجزيرة نت، 23-8-2020. https://bit.ly/32RR9qL

([3]) “ليبيا.. هل ينجح عقيلة صالح في إزاحة حفتر؟”. الجزيرة مباشر، 18-6-2020. https://bit.ly/2YWUJP9

([4]) “ماذا قال السيسي لمشايخ القبائل الليبية خلال لقاء ««مصر وليبيا مصير واحد»؟”. المصري اليوم، 16-7-2020. https://bit.ly/31YRokF

([5]) “عقيلة صالح.. بديل حفتر أم حليفه السياسي؟ (تحليل)”. مصر العربية، 18-6-2020. https://bit.ly/34Z70WX

([6]) “عقيلة صالح ينفي وجود خلافات بينه وبين حفتر”. روسيا اليوم، 2-5-2020. https://bit.ly/2DoNLe4

([7]) “ليبيا.. قوات حفتر ترفض وقف إطلاق النار وحكومة الوفاق تتهمها بالعودة إلى مربع الحرب”. الجزيرة نت، 23-8-2020. https://bit.ly/32RR9qL

([8]) “الصراع على قطاع الطاقة الليبي.. منشآت مغلقة وخسائر ترتفع ودول تتحكم”. الجزيرة نت، 10-7-2020. https://bit.ly/3bpVDsd

([9]) “ما يتخطى وقف إطلاق النار في ليبيا”. معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، 25-8-2020. https://bit.ly/2Z4Lc8y

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى