الاصداراتالدراسات الاستراتيجية

تحوُّل في مسار الصراع الليبي

مقدمة

 مضى ما يقرب من عام على الحملة العسكرية التي شنّها الجنرال خليفة حفتر نحو العاصمة الليبية طرابلس، ثمَّ تعثّره في حسم الأمور عسكريًا. دخلت الأزمة الليبية منحىً جديدًا أدى إلى تغيرّ في قواعد الاشتباك بين طرفي النزاع المحليّين، وذلك بعد نجاح حكومة الوفاق الليبي المعترف بها دوليًا في  بسط سيطرتها على كامل مناطق الساحل الغربي غرب العاصمة طرابلس الواصلة حتى الحدود التونسية، بعملية عسكرية أطلقها رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فايز السراج في 25 آذار/ مارس الماضي تحت مسمى عاصفة السلام معتبرًا أن العملية جاءت ردًا على الخروقات المتواصلة التي تنفذها قوات الجيش الليبي، إلى جانب اتهامه الجنرال خليفة حفتر بعدم التزامه بالهدن والاتفاقيات المنبثقة عن المجتمع الدولي، وجهود الوساطة الدولية التي رعتها مؤخرًا موسكو وبرلين مطلع العام 2020[1].

ومع هذه التطورات تكون حكومة الوفاق قد أمّنت حدودها الغربية من خلال بسط نفوذها على تلك المناطق التي كانت بمنزلة خزان بشري يمدّ حفتر بالمقاتلين، ونقطة انطلاق لتحرُّك قواته من الجهة الغربية نحو طرابلس، إضافًة إلى إعادة تفعيل المبادرات التجارية والاقتصادية بين طرابلس وتونس، والتي من شأنها أن تُساهم في تخفيف الضغوط الاقتصادية التي تواجهها حكومة الوفاق، لاسيما بعد تراجع صادرات النفط الخام من بعض الموانئ شرق البلاد.

مقابل ذلك لم يبقَ لقوات حفتر في الغرب الليبي إلا منطقة ترهونة وقاعدة الوطية الاستراتيجية كآخر نقاط انطلاق نحو العاصمة وهما الآن محور العمليات العسكرية، وحيال أي خسارة لهما فإن مناطقه وقواعده في وسط وشمال البلاد ستكون مكشوفة أمام قوات حكومة الوفاق الوطني، بالأخص مدينة سِرت والتي سقوطها يعني فتح الطريق أمام منطقة الهلال النفطي، وقاعدة الجفرة وسط البلاد والتي تتمتع بأهمية بسط السيطرة على أجواء البلاد.

واللافت أن هذه التطورات قد جاءت بعد فشل جهود المجتمع الدولي في تثبيت وقف إطلاق النار وإنعاش الحل السياسي، حيث باءت جميع الجهود الدبلوماسية التي قادتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالفشل في وقف إطلاق النار ونتج عنها استقالة مبعوث الأمم المتحدة غسان سلامة في الثاني من  آذار/ مارس 2020، سبقها فشل محاولة موسكو توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين طرفي الصراع في أوائل يناير 2020، كذلك فشلت جهود برلين بنفس الشهر حينما رعت مؤتمرًا لإحياء مسار السلام بالتزامن مع  تبني الدول الأوروبية مبادرة مراقبة حظر توريد السلاح بموجب قرار الأمم المتحدة الصادر في 2011[2].

وبناء على فشل الجهود الدولية ورغم كل الدعوات التي وجّهتها عدة دول لوقف القتال والتركيز على مواجهة وباء كورونا، إلا أن طرفي الصراع أصرا على التمسك بمسألة الحسم العسكري والتي قادت في نهاية المطاف إلى تغيير مواضع السيطرة في الغرب الليبي.

وبالتالي تبقى الإشكالية الليبية مُعلّقة وربما عادت للمربع الأول بعد عملية الموازنة في أشكال القوة العسكرية، وهو الأمر الذي طرح عدة تساؤلات عن الأسباب التي قادت لهذا التحول، وماذا يعني خسارة خليفة حفتر لمدن استراتيجية خلال ساعات قليلة، وما تفسير إعلانه حاكمًا عامًا للبلاد عقب تلقيه تلك الهزائم، فضلًا عن ماهية نوايا حكومة الوفاق من عملية السلام وما هي حدودها الفعلية، وكيف ستساهم المكاسب على مستقبل الصراع ومصالح الداعمين الدوليين.

دوافع عملية عاصفة السلام

لم تكن عملية عاصفة السلام محاولة فردية ومنعزلة عن التطورات التي شهدها جوار ليبيا الحيوي، بل جاءت كضرورة من حكومة الوفاق بهدف تأمين العاصمة طرابلس من الجهة الغربية، وإحباط محاولات الجنرال محاصرتها. مما يعني أن المعركة هدفها الجوهري تأمين جدار دفاعي عازل عن العاصمة وليس كما يُروج أنها ستستمر حتى وصولها لمعاقل حفتر في شرق البلاد. ويمكن حصر دوافع العملية بالآتي:

_ عدم رغبة الجنرال حفتر الالتزام بأي مسار سياسي تمنعه من إيقاف الزحف نهائيًا باتجاه طرابلس، وقد ظهر ذلك واضحًا من خلال إفشاله الجهود الدبلوماسية منذ اتفاق غدامس والصخيرات وجنيف وموسكو وبرلين.

_ رغبة حكومة الوفاق القيام بعملية عسكرية، تستطيع من خلالها استعادة بعض المناطق الاستراتيجية التي خسرتها في المعارك السابقة ضد حفتر خصيصًا بعد نجاح الأخير بسط سيطرته على مدينة سرت الاستراتيجية والعديد من الموانئ النفطية أهمها البريقة ورأس لانوف والحريقة والزويتينة والسدرة شرق البلاد، إثر اقتحامها في كانون الثاني/ يناير 2020،[3] ويأتي اختيار الوفاق لهذا التوقيت نظرًا لقلة الإمدادات العسكرية الخارجية المقدمة له من قبل حلفائه في ظل انشغال هذه الدول بمواجهة أزمة كورونا.

_ الدافع الأهم كان على الصعيد العسكري إثر قيام خليفة حفتر وفي يوم إطلاق عملية عاصفة السلام، التوسع غربًا لبسط نفوذه على كامل الساحل الغربي عبر السيطرة على مدينة زوارة وعلى معبر راس جدير الحدودي مع تونس بعد سيطرتها على مدن العجيلات وزلطن ورقدالين، آخر المدن الليبية باتجاه الغرب، ولكن القوات التابعة لمدينة زوارة قامت بصد الهجوم وهو ما هدَّد بجعل المدينة والمعبر في عزلة عن حكومة الوفاق الوطني وكاد يُسقط معبر راس جدير الحدودي مع تونس بيد قوات حفتر. وكانت قوات حفتر قد حشدت لاقتحام المنطقة والقضاء على آخر جيوب قوات الوفاق على الطريق الساحلي حتى الحدود الإدارية لمدينة الزاوية، وهو ما عجَّل بتحرك قوات الوفاق وإعلانها ساعة الصفر للسيطرة على هذه المدن، حسب ما صرَّح به اللواء أسامة جويلي آمر غرفة العمليات المشتركة[4].

_ ما سرع أيضًا إقدام حكومة الوفاق في شن عملية عسكرية، الخلافات الداخلية التي ظهرت مؤخرًا بين السراج وبعض وزراء حكومته والأزمة التي صاحبت أزمة كورونا حول المطالبات بإقالة وزير الصحة ووكيله، وهو ما هدَّد به علنًا عمداء خمس وعشرين بلدية مجتمعين وأمهلوا السراج ثلاثة أيام للموافقة على مطالبهم أو إيقاف تعاملهم مع الرئاسي، وهو ما تمت معالجته بالفعل، كذلك الخلاف بين السراج ومحافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير، والذي اتهمه بالتدخل في السياسات الاقتصادية للبلاد وعرقلة المتطلبات المالية مما فاقم الوضع الاقتصادي، حسب وصف رئيس المجلس الرئاسي، حيث شكّل ذلك تحديًا أمام السراج من أجل المضي قدمًا لتقديم انتصار جديد يحقق من خلاله مكاسب سياسية يضع من خلالها حدًّا للمشككين في تعامل الرئيس مع إدارته للمعركة[5].

مسار العمليات

سبقت التحركات العسكرية البرية تمهيدًا جويًا من قبل سلاح الجو التابع لحكومة الوفاق والذي أحدث فارقًا كبيرًا في مسار المعركة، وما كان لهذا التحول أن يحدث لولا الإسناد المُقدم من قبل تركيا بموجب الاتفاقية التي تم توقيعها بين الطرفين أواخر العام 2019، وتحديًدا في 5 نيسان/ إبريل، بدأت المسيرات والقاذفات التابعة لحكومة الوفاق باستهداف طرق إمداد حفتر وتقطيع أوصاله خاصة من جهة مدينة ترهونة، حيث قصفت طائرة تابعة للوفاق طائرة شحن إماراتية من نوع انتينوف قادمة من دولة الإمارات باتجاه الغرب الليبي، وأكدت قوات الوفاق أن تلك الذخائر والمعدات كانت بهدف دعم قوات حفتر وعناصر اللواء التاسع (الكانيات) الموالية لقوات الكرامة في منطقة المشروع بين منطقتي ترهونة وسوق الخميس.

 ولعل أهم خطوة قامت بها حكومة الوفاق هي محاولتها تحييد وإفشال فاعلية قاعدة الوطية الاستراتيجية والتي تعتبر مركز رئيس لقوات حفتر باستهداف محيط العاصمة طرابلس، حيث فرض الأخير تهديد كبير على العاصمة انطلاقًا من هذه القاعدة والتي استهدفت أكثر من مرة مطار معيتيقة وعدة مشافي منها الخضراء المخصص لمعالجة مرضى كورونا- 19. وعليه سعت حكومة الوفاق بالتزامن مع انطلاق العمليات البرية في 25 آذار/ مارس الماضي إلى شل حركة عمل القاعدة وقصفتها وأسرت عناصر من قوات حفتر من بينهم رتب رفيعة المستوى وضباط[6].

العمليات البرية

في الوقت الذي كانت فيه قوات خليفة حفتر تحاول فتح ثغرة من عدة جهات نحو العاصمة طرابلس، أعلنت غرفة عمليات بركات الغضب التقدم نحو مدن الساحل الغربي وانطلقت من عدة محاور أهمها “عين زارة جنوب العاصمة والزاوية غرب العاصمة ومحور أبو قرين باتجاه مصراتة شرق العاصمة”.

المصدر: liveuamap

أما جبهة ترهونة، جنوب شرق العاصمة، فبقيت جامدة نسبيا ومعزولة، وفيها تتمركز عناصر اللواء التاسع التي أعلنت ولاءها لقوات حفتر إضافة إلى مرتزقة فاغنر الروس وآخرين من السودان ومصر وتشاد.

واستغرقت العملية ما يقارب سبع ساعات، بحسب وكيل وزارة الدفاع بحكومة الوفاق الوطني صلاح الدين النمروش، مؤكدًا أن العملية تم التخطيط لها في وقت سابق بين القيادات السياسية والعسكرية وغرفة العمليات. وأكد النمروش أن مما أسهم في سقوط المدن بهذه السرعة ترحيب المواطنين الموجودين في هذه المدن بقوات الوفاق وهو ما ترتب عليه انسحاب قوات حفتر بشكل جماعي نحو قاعدة الوطية وانسحاب جزء آخر منهم نحو مدن في الجبل الغربي. وقد تم العثور على أسلحة وذخائر حديثة الصنع، ما يدل على أن هذه الأسلحة تم استجلابها خلال الفترة الأخيرة وهو ما يثبت تورط دول بعينها في تزويد حفتر بالسلاح حسب تقرير لجنة الخبراء الأخير[7].

وقد كانت حصيلة العملية سقوط مدن الساحل الغربي بأيدي قوات حكومة الوفاق حتى معبر راس جدير الحدودي مع تونس لتصبح مواقع السيطرة الحالية لطرفي النزاع  غرب ليبيا كالآتي:

أسباب نجاح الوفاق وتراجع حفتر

توفرت عدة ظروف موضوعية أمام حكومة الوفاق أهلّتها لقلب موازين القوى لصالحها فقد كان تحولها من الدفاع للهجوم خطوة استباقية لأول مرة منذ أن أعلن حفتر عمليته العسكرية نحو طرابلس في نيسان/ إبريل 2019، وبذلك فإنّ أولى إنجازات حكومة الوفاق من عملية السلام إفشال خطة حفتر العسكرية، حيث كان يعتمد في هجومه على ثلاثة محاور المحور الشرقي وينطلق من ترهونة، ومحور غربي ينطلق من صبراتة وصرمان، ومحور جنوبي ينطلق من غريان. وبالتالي، فإن سقوط صرمان وصبراتة وقبلهما غريان، يكون حفتر قد خسر ثلاث ركائز لعمليته العسكرية، ولم يبق له سوى ترهونة التي أصبحت في مرمى قوات الوفاق بعد تحييدها في العمليات السابقة.

وعليه فإن العوامل التي أعطت دافعًا للوفاق لتحقيق هذه الإنجازات وأدت لهزائم حفتر وفقَ الآتي:

_ تغيرت المعادلة منذ دخول الطائرات المسيرة إلى الأجواء الليبية عقب توقيع مذكرتي الاتفاق ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط بين حكومة الوفاق وتركيا، وتضمين مذكرة أمنية أخرى مدّت بموجبها تركيا حكومة الوفاق بسلاح متطور ومنظومة دفاع جوي كانا قد شكلا عاملًا فارقًا في مسار العمليات، ورغم أن حفتر يمتلك بعضًا من طائرات ميغ وسوخوي إلا أن ذلك لم يكن كافيًا في إبقاء الأجواء تحت سيطرته. بسبب فارق التطور النوعي والتكنولوجي المٌقدمان للوفاق كطائرات البير قدار والعنقاء، و منظومة الدفاع الجوي في محيط طرابلس والتي سببّت بسقوط عدة طائرات للأخير وحيدّت طائراته عن سماء العاصمة[8].

_ لم يبدُ أن خطط حفتر الاستراتيجية قد نجحت في تأمين طرق إمداده انطلاقًا من شرق بني وليد وحتى الجفرة، التي كان يعتمد عليها في إيصال المعدات العسكرية والمقاتلين لمحاور القتال المفتوحة من جنوب العاصمة حتى الساحل الغربي، لذا شهدنا سلسلة هجمات جوية سلسة استهدفت هذه الطرق من قبل طيران الوفاق قبل تنفيذ عملية عاصفة السلام، وهو الأمر الذي سهل على قوات الوفاق البرية عمليات الاقتحام لمناطق الساحل الغربي.

_ العقيدة القتالية لحفتر أثرت على مسار العمليات فرغم أن المعسكرين يحويان مليشيات عسكرية مسلحة إلا أن معسكر حفتر غلب عليه وجود مقاتلين أجانب من شركة فاغنر وقوات سوادنية مساندة وأخرى من تشاد، ومن المعروف عن هذه القوات تعدّد ولاءاتها ما دفع بعضها للانسحاب من بعض المناطق، وحتى القوات المحلية المتحالفة مع حفتر من بعض قبائل الجنوب كان لها دور في سقوط بعض المناطق بأيدي قوات الوفاق كمنطقة الزنتان والزارة.

_ لعل الفارق العسكري الأهم الذي قلب كفة الموازين هو تحييد قاعدة الوطية الاستراتيجية، فهذه القاعدة تقع على بعد 140 كم جنوب غرب طرابلس، ومساحتها تقدر بـ 50 كلم مربع وتتسع لـ 7000 مقاتل، وقد أنشأتها أمريكا في أربعينات القرن الماضي كما كانت قاعدة لسرب الميراج الفرنسية، وتحتوي على مخازن أسلحة ومحطة وقود ومهبط للطيران، وكي لا تكون عائقًا أمام أهداف الوفاق نفذت عملية نوعية قبل يوم واحد من انطلاق عاصفة السلام تم بموجبها أسر 27 من عناصر قوات حفتر. وقد تلا ذلك سلسلة متواصلة من غارات طيران الوفاق أدى إلى شلَّ حركتها، مما جعل الشريط الساحلي غرب طرابلس، على طول 170 كلم وعمق أكثر من 30 كلم، بمساحة تُقدر بـ 5000 كيلو متر مربع محرمًا على طيران حفتر.

انعكاس على الفاعلين الدوليين

أحدثت التطورات الراهنة في ليبيا انقسامًا حادًا بين الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الأزمة الليبية، فبعد يومين على عملية عاصفة السلام أعلن الاتحاد الأوروبي إطلاق عملية إيريني التي تهدف إلى مراقبة وتنفيذ حظر تدفق السلاح والمقاتلين إلى ليبيا،[9] كما دعت غالبية دول المجتمع الغربي ببيانات منفردة طرفي الصراع إلى الكف عن الأعمال العسكرية والعودة إلى تهدئة في شهر رمضان والتفرغ لمواجهة وباء كوفيد- 19، لكن هذه المواقف أثارت عدة شكوك عن نوايا داعمي معسكر الصراع، خصوصًا أنها جاءت بعد تغّير في خطاب المتحدث باسم حفتر أحمد المسماري من نبرة التصعيد والوعيد إلى التهدئة والسلام، بالإضافة إلى رصد بعض التحركات الدبلوماسية لداعمي حفتر من بعض الدول العربية والتي طالبت الأمم المتحدة بالتدخل العاجل لفرض هدنة بين طرفي النزاع، وهو ما يشير إلى أن التحولات الأخيرة حققت فعالية عالية على الدول الداعمة والمؤثرة في الصراع.[10]

والجدير ذكره أن ليبيا واقعة في صراع محاور منذ 2011، بعد قيام حلف الناتو بإسقاط نظام معمر القذافي مما فتح البلاد أمام عودة التدخلات الخارجية المباشرة وعاد الزخم بين دول أوروبا المتنافسة على خيرات البلاد كفرنسا وإيطاليا وبين بريطانيا والولايات المتحدة، لكن هذه المعادلة تغيرت في أواخر 2019، على خلفية صعود قوى جديدة في ليبيا كتركيا وروسيا، مما أدى إلى ظهور تفاعلات جديدة قادت إلى توسيع دائرة المحاور الداعمة لطرفي النزاع المحليين.

وبناء عليه فإن دول أوروبا بدأت تستشعر مخاطر فعالية تنامي الدور التركي الداعم لحكومة الوفاق وبدأت تخشى على مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، مقابل ذلك تتوجّس الولايات المتحدة من دور روسيا في المنطقة، بالأخص بعدما نجحت في تثبيت موطئ قدم لها في المياه الدافئة السورية.

وانطلاقًا من هذه الحقائق تتضح أكثر مواقف الفاعلين أمام التحولات الأخيرة التي فرضتها حكومة الوفاق مع حليفها الاستراتيجي تركيا، فالقوى الداعمة لمعسكر الجنرال حفتر أصبحت أكثر انقسامًا من ذي قبل على وقع فشل الجنرال في ساحة المعارك، رغم كل الدعم المُقدم له لإخضاع العاصمة طرابلس، كما أن الهاجس الأكبر لبعض دول أوروبا هو الخشية من زيادة فعالية الدور التركي مستقبلًا مما يعني رفع المخاطر على مصالحهم وسحب البساط من تحتهم وربما إخراج بعضهم من أي دور في تحديد مستقبل ليبيا، ما دفع بعض الدول كفرنسا وألمانيا في الإسراع للإعلان عن خطة “إيريني” بعد يومين فقط من عملية عاصفة السلام، وهذه العملية التي تهدف لمراقبة حظر السلاح إلى ليبيا أصبحت مسار جدل وشك بين جميع الأطراف، كونها لا تحظى حتى الآن بقرار من مجلس الأمن، لذا يخشى البعض أن تكون عبارة عن محاولة التفاف وانحياز لطرف على حساب طرف آخر، ولعل هذا ما يفسر ترحيب حفتر بها كونها لا تُشير إلى فرض رقابة على المجالين الجوي والبري واللذين يتم عبرهما توريد السلاح[11].

وإذا ما سلمنا بصحة هذه النظرية والمواقف يتضح أن الدول الداعمة لحفتر لا ترغب في الاستسلام أو الانحياز عن مسألة الحسم العسكري، بل ترغب في الرد على عاصفة السلام وتقويض جهود حكومة الوفاق وداعميها عبر عملية إيريني من جهة، إلى جانب تأمين هدنة عاجلة يستطيع من خلالها حفتر إعادة ترتيب صفوفه لشن عمليات مضادة واستعادة زمام المبادرة.

أما الموقف الأمريكي فهو لا يزال موقف موارب حتى في ظل تغير خارطة السيطرة العسكرية على الأرض، فمن جهة لم تبدِ الولايات المتحدة لهجة تصعيدية ضد تركيا أو حكومة الوفاق التي تعترف بها كحكومة شرعية في البلاد، خلال تنفيذ عمليات الزحف في الساحل الغربي، ويعكس ذلك مدى رغبة الولايات المتحدة في تحقيق توازن بين أطراف الصراع على الأرض وعدم السماح لطرف بحسم الأمور عسكريًا على حساب الآخر.

كما أن الولايات المتحدة لا يغيب عنها منع تنامي الدور الروسي في ليبيا ومحاولة تضييق الخناق عليها في أكثر من طرف، بحيث لا يتعدّى حدود نطاق المناورة، سواء لها أو حتى للحلفاء الأوربيين، وربما هذا ما يفسر غض الطرف الأمريكي عن التغيرات الجديدة في الساحل الغربي الليبي لصالح حكومة الوفاق وتركيا.

خيارات حفتر وموقف الوفاق الوطني

مع تعرض حفتر لهذه الخسائر وفقدانه ثلاث ركائز أساسية في عملياته العسكرية المتواصلة منذ عام نحو العاصمة طرابلس، تكون فرصه قد تضاءلت كثيرًا في هدف حصار طرابلس تمهيدًا لإخضاعها، بالمقابل فإن حكومة الوفاق الوطني ستعمل جاهدة على توظيف هذه المكاسب في كافة الأصعدة عسكريًا وسياسيًا بما يدعم موقفها أمام حاضنتها الشعبية أولًا ومن ثم أمام المجتمع الدولي في تقوية موقفها بمسار المفاوضات ورفع سقف مطالبها بعد امتلاكها أوراق قوة جديدة ضد خصومها.

وعلى الصعيد العملي ستعمل على تأمين خطوط الدفاع عن غرب وجنوب العاصمة لتفادي أي هجوم مضاد، لكن لتحقيق ذلك ينبغي عليها السيطرة على مدينة ترهونة الاستراتيجية وقاعدة الوطية وهما آخر مناطق تهديد لها في غرب ليبيا ولا تزال العمليات تدور حولهما مع فرض حصار جزئي.

على صعيد آخر ورغم تواتر التصريحات من شخصيات وازنة في حكومة الوفاق في أن العمليات لعاصفة السلام لن تقف عند حدود طرابلس بل ستنتقل لمعقل معسكر حفتر في شرق ليبيا والهلال النفطي وبنغازي، إلا أن ذلك يدخل في إطار الحرب النفسية لتحقيق مزيد من انهيارات في صفوف حفتر، في حين يبدو أن حدود العمليات الحالية قد لا تتعدى عملية تأمين العاصمة طرابلس تمهيدًا لمرحلة سياسية قد تكون التمهيد لتقسيم ليبيا بين شرق وغرب على غرار السيناريو اليمني[12].

وبالنسبة لخيارات حفتر فهي محدودة لحد ما على خليفة الأزمات التي يمر بها، فإلى جانب خساراته العسكرية الأخيرة يُعاني من أزمات مالية واقتصادية بسبب شبه التوقف عن تصدير النفط من الموانئ التي تحت سيطرته في الشرق الليبي، حيث فرضت جائحة كوفيد- 19، شلل في حركة النفط العالمي وأصبحت الدول المنتجة للنفط هي الأكثر تضررًا من المستهلكين.

يُعاني حفتر أيضًا من ضعف إسناد من قبل الحلفاء مؤخرًا على وقع انشغال بعض داعميه في مواجهة أزمة الوباء، ويضاف لذلك الانقسامات الداخلية التي يعاني منها فظهرت أزمة ثقة متعلقة بموضوع الولاءات من قبل بعض القبائل التي كانت متحالفة معه، والأهم من ذلك أن مجلس طبرق الذي يُعد حليف قوي له بدأ يتململ من سلوكه وسياساته الاعتباطية إذ حمله المسؤولية مؤخرًا عن مسألة انقطاع الكهرباء والمياه وهي وسائل لجأ إليها حفتر للضغط على حكومة الوفاق إلى جانب استخدامه سلاح الاقتصاد والنفط بحسب خبراء أمنيين في ليبيا[13].

بناء عليه ومع أخذ بالاعتبار أزمات حفتر يمكن التكهن بخيارين اثنين كما يلي:

الخيار الأول:

شنُّ هجوم معاكس واستعادة كامل المناطق التي خسرها في الساحل الغربي، ويستند هذا الخيار إلى محاولة حفتر الاستفادة من هدنة شهر رمضان، حيث أعلن في 29- نيسان/ إبريل إيقاف كامل العمليات العسكرية نزولًا عند رغبات المجتمع الدولي، وما يُفسر رغبته في طلب الهدنة أن يقوم المجتمع الدولي بالضغط على حكومة الوفاق كي تعلن إنهاء عملية عاصفة السلام وبالتالي يقوم هو بإعادة ترتيب قواته بهدف شن عمليات معاكسة يسترد المناطق التي خسرها.

ويعتمد حفتر في هذا الخيار على عاملين رئيسين، أولهما: تكثيف تواصله مع الداعمين الرئيسين والطلب منهم رفع الدعم المالي والعسكري واللوجستي له والإسراع في تفعيل عملية إيريني لتقويض عمليات الإسناد لحكومة الوفاق في المجال البحري، والثاني محاولته تعزيز روابط الولاء مع بعض القبائل وإعادة ترميم الثقة، سيما أنه كثّف تواصله مع بعض القبائل التي تشغل المناطق المطلة على كامل الحدود الغربية، من بينها قبائل الأمازيغ التي تؤمّن منفذي راس جدير وذهبية مع تونس، تزامنًا مع تسليح قبائل ذات تاريخ عدائي مع الأمازيغ، كالنوائل والحميدات، لتكون عامل تهديد لها.

الخيار الثاني:

أثار إعلان حفتر في 27- نيسان/ إبريل حاكمًا شرعيًا للبلاد خطوة استباقية قد تمهد لجنوحه وقبوله نحو خيار التقسيم والتربع على عرش شرق البلاد وفصله عن غرب ليبيا، لكن قد يكون هذا الإعلان ليس هدف رئيسي لدى حفتر بل ثانوي قد يلجأ إليه إذا ما فشلت جميع جهوده العسكرية في السيطرة على طرابلس وهو ما بدا الآن خيارًا صعبًا أمامه مع فرض الوفاق قواعد الاشتباك الجديد. وقد يكون إعلانه حاكمًا للبلاد خطوة مدفوعًا إليها من قبل بعض الحلفاء على اعتبار أنَّ مثل هذه الخطوة تعني انقلاب تام على كامل المسار الديمقراطي في البلاد ونسف المرجعية السياسية للحل السياسي الليبي الممثل في اتفاق الصخيرات منذ 2016، وهو أمر قد يكون فوق إمكانيات حفتر للقفز عليها بشكل فردي ودون إيعاز من حلفائه، رغم أن خطوته هذه لاقت رفضًا أمميًا وإجماع دوليين وانهالت بيانات الاستنكار حتى من أقرب حلفائه كروسيا وفرنسا في الإشارة إلى رغبة ضمنية دولية خلط الأوراق، مع ذلك فإن خيار التقسيم لم يكن بالأصل مستبعدًا منذ مرحلة انتشار الفوضى الليبية وقد يقترب اليوم أكثر في ظل غياب أي إرادة دولية في إنتاج حل سياسي للأزمة.

خاتمة قلبت التطورات الجديدة في ليبيا كامل المعادلات ودخلت البلاد مرحلة جديدة على وقع تعديل موازين القوة، ومن شأن ذلك أن يعيد حسابات الفاعلين الدوليين الداعمين للمعسكرين الشرقي والغربي، لكن مهما اختلفت المعادلات يبدو واضحًا أن مسار العملية السياسية لا يزال معطل مع استمرار تضارب المصالح والانقسامات بين دول أوروبا ومحور أنقرة موسكو إذ لا يزال توريد السلاح لطرفي النزاع متواصل والمعارك مستمرة بحدة حول محيط طرابلس وترهونة وقاعدة الوطية، مما يعني أن الأرض غير مستقرة وقد ترتفع وتيرة المعارك وتتّسع إلى أبعد من الغرب الليبي طالما أن جميع الأطراف لاتزال متمسكة بالخيار العسكري.

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020 


[1] https://bit.ly/2LbHiDD

الأناضول، السراج يعلن انطلاق عملية “عاصفة السلام” ردا على اعتداءات حفتر، ن- 26- 3- 2020.

[2] https://bit.ly/2WeD704

DW، غسان سلامة يعلن استقالته من منصبه لـ”أسباب صحية، ن- 2-3- 2020.

[3] https://bit.ly/2A6KWfD

الأناضول، “النفط الليبية” تطالب بفتح موانئ وحقول النفط شرقي البلاد، ن- 18-1- 2020.

[4] https://bit.ly/2Le3WeM

ليبيا نيوز، الجويلي: قد نطلق عملية عسكرية في بعض مدن المنطقة الغربية، ن- شوهد 8- مايو 2020.

[5] https://bit.ly/2YL5x3u

ليبيا: حرب بين حكومة الوفاق والبنك المركزي، ن- 10- إبريل- 2020.

[6] https://bit.ly/2yIzBlN

الشبكة العربية، تعرف على كبار جنرالات حفتر الذين قتلوا في عملية “عاصفة السلام، ن- 30-3- 2020.

[7] https://bit.ly/3dx4HvA

رويترز، تقرير للأمم المتحدة: مجموعة فاجنر الروسية نشرت زهاء 1200 فرد في ليبيا، ن- 6- مايو- 2020.

[8] https://bit.ly/2yFdKf0

مركز الشرق العربي، “بيرقدار”.. طائرة تركية قلبت موازين الحرب في سوريا وليبيا، ن- 26-4- 2020.

[9] https://bit.ly/35LpMzm

الاناضول، أوروبا تخنق الحكومة الليبية تحت غطاء السلام، ن- 8- 4- 2020.

[10] https://bit.ly/3duJK46

العربي الجديد، عملية “عاصفة السلام”… تحوّل كبير في معركة طرابلس، ن- 6- إبريل- 2020.

[11] https://bit.ly/2LevOiM

الجزيرة للدراسات، عملية عاصفة السلام في ليبيا: الوقائع والتوقعات، ن- 27- 4- 2020.

[12] https://bit.ly/2WEpWV9

صحيفة الاستقلال، طرد حفتر من الساحل الغربي.. ما تأثيره على مسار الصراع الليبي، شوهد 8- مايو- 2020.

[13] https://bit.ly/3fqqtTg

عربي 21، برلمان “طبرق” يهاجم “حفتر” بسبب قطع المياه.. صدام أم تنصل، ن- 13- إبريل- 2020.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى