مقال

لماذا قصفت الولايات المتحدة الحوثيين؟ وبماذا؟

د. صبحي ناظم توفيق: خبير استراتيجي وعسكري، دكتوراه في التأريخ

في ليلة 16/17 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 فوجئ الحوثيون في جبال صعدة وعمران بقصف أمريكي ثقيل طال مواقع صواريخهم البالستية بعيدة المدى، من تلك التي بلغت أجواء الاحتلال الإسرائيلي خلال الأشهر المنصرمة.

فما الأسباب الكامنة وراء هذه الضربة؟ وما الأداة التي استُخدمت لتحقيقها؟

سؤالان نحاول تسليط بعض الضوء عليهما في هذه المقالة الموجزة.

لماذا القصف؟

لا بد وأن إسرائيل هي الدولة الأهم في العالم لدى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي انزعجت وعوتِبَت وقتما بلغت صواريخ الحوثيين البالستية ذات المدى البعيد، بما فيها ذات السُرَع فرط الصوتية من أصول إيرانية أجواءها عدة مرات، رغم عدم سقوطها على هدف ذي أهمية، بل وقعت إما في أرض براح أو قوطعت في الجو بتأثير الدفاعات الأسرائيلية وتشَظّت من دون أن توقع أضرارًا تُذكر في الأرواح والممتلكات، حسب الادعاء الإسرائيلي.

ولكن هذه الخطوة الحوثية لم تأتِ في الحسبان، لكون المسافة الأفقية بين المناطق التي استولوا عليها منذ انقلابهم على الحكومة الشرعية في العاصمة صنعاء سنة 2014 وبين أجواء الاحتلال الإسرائيلي تبعد 1800 كلم على خط أفقي مستقيم، وأكثر من ذلك إن كانت هناك انحرافات في مسار الصاروخ أو المُسَيّرات التي امتلكوها.

نحن نعلم أن العشرات من الطائرات المقاتلة/ هجوم أرضي (FIGHTER GROUND ATTACK) الأمريكية والبريطانية ومن دول أخرى أعضاء في تحالف “حارس الازدهار”، أجرت ضربات جوية ليلية عديدة على أهداف حوثية، وكذلك تابعنا الهَجمَتَين الجويتين الإسرائيليتين لميناء الحُدَيدة ومطارها الدولي وأهدافًا في صنعاء باستخدام العشرات من مقاتلات ها هجوم أرضي، إلاّ أن الحوثيين لم يُردَعوا بعدهما سوى بضعة أيام قبل أن يعودوا لاستهداف إسرائيل مجددًا سواءً بالطائرات المًسَيَّرة أو بالصواريخ أرض- أرض البالستية بعيدة المدى.

وتبدو أن الاستخبارات والمعلومات الفضائية والجوية الاختصاصية المُستحدثة قد رصدت الحوثيين وهم ينقلون صواريخم البالستية بعيدة المدى المحمولة على منصاتها الضخمة من مواضعها السابقة وسط هضاب ومرتفعات محافظتَي صنعاء وذمار إلى أماكن أوعر وسط وديان ووِهاد وشقوق بين الجبال الشاهقة في أعماق محافظتَي صعدة وعمران، وقد بدأت تستقر  في مواقعها البديلة استعدادًا لإطلاقها نحو إسرائيل على وجه الخصوص، وكذلك ينقلون خزين مقذوفاتهم المضادة للسفن من مناطق متفرقة في اليمن إلى مغارات وكهوف طبيعية صخرية يصعب استهدافها وتدميرها.

ولذلك كان لا بد من إجراء سريع قبل أن تستقر المنصات والصواريخ المحمولة على ظهرها وتستعد للانطلاق من مواقعها البديلة، ولما كانت إسرائيل بعيدة جغرافيًّا، ومديات مقاتلاتها هجوم أرضي لا تبلغ أجواء اليمن إلا باستخدام عملية إرضاع جوي للوقود لبلوغ أجواء اليمن وعند العودة، وذلك من الطائرات الصهريج الأمريكية المُفرَزة لخدمة إسرائيل، وأن هذه العملية تتطلّب خطة معقدة نوعًا ما، رغم ممارسة طياري القوة الجوية الإسرائيلية في ضربتَي الحُديدة، ناهيك عن أن المقاتلات الإسرائيلية لا تستطيع حمل قنابل خارقة للأعماق ثقيلة للغاية من تلك المسمّاة “أم القنابل”، لذلك فقد أُنيطت هذه المهمة على عجل للقوات الجوية الأمريكية الداعمة لإسرائيل.

استثمار القاصفة الشبح الأحدث

تمتلك القوات الجوية الأمريكية ثلاثة أنواع رئيسة من الطائرات القاصفة الثقيلة (BOMBERS  HEAVY) العملاقة، والتي بإمكان كل منها بلوغ مناطق نائية تقرب من حوالي ثُلث وحتى نصف محيط الكرة الأرضية، وتقطع -من دون حاجة إلى هبوط في مطار أو تزوّد جوي بالوقود أثناء التحليق- آلاف الكيلومترات انطلاقًا من قواعدها في الوطن الأم وصولاً إلى أهداف محددة، أمثال القاصفة (سِتْراتوفورتْرِس (B-52 النفاثة العملاقة الأضخم في العالم من ذوات 8 محركات المُستحدَثة.

القاصفة الأمريكية العملاقة الأقدم “B-52 ستراتوفورترس” الأضخم في العالم والوحيدة المزودة بـ8 محركات نفاثة

والقاصفة الثانية العملاقة ذات 4 محركات نفاثة (لانسَر B-1) الأسرع من الصوت، وأخيرًا القاصفة العملاقة الثالثة الأحدث (سبيريت B-2) المتميزة بكونها من الطراز “الشبح” الخفية على الرادارات.

القاصفة الأمريكية العملاقة “B-1 لانسر”  الأسرع من الصوت

في هذه العملية انتقت القوة الجوية الأمريكية القاصفة الأحدث (B-2) الشبح لتحقيق هذه المهمة لأسباب لم تعلنها، ولكنها في تصورنا قد تكون:

  • الخشية في أسوأ الاحتمالات من امتلاك الحوثيين رادارات ومقذوفات قادرة على كشف واستهداف طائرات استراتيجية باهظة الثمن على ارتفاعات عالية، لذلك فالقاصفة الشبح (B-2) التي لا ترصدها الرادارات ولا بالإمكان تعقّبها، هي الأبعد عن المخاطرة والأفضل والأنجع في الأداء.
  • زجّ هذه القاصفة الشبح الحديثة في خِضَمّ هذه المهمة الدقيقة، سيبعث أكثر من رسالة ردع وتهديد إلى الأعداء والخصوم في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص إيران وأذرعها وأتباعها من جهة، ورسالة أوضح للحلفاء والأصدقاء بأن الولايات المتحدة داعمة لها وتسند ظهرها من جهة ثانية.

شيء عن واقع الشبح B-2

مصانع شركة “نورث روب كرومان NORTHROP GRUMMAN” هي من أنتجت عام 1989 النموذج التجريبي للقاصفة الشبح “B-2 سبيريت” وفقًا لشروط مثالية أقرب إلى الخيال العلمي، ولما رضيت القوة الجوية الأمريكية عن أدائها فقد اقتنت 20 منها بتكلفة 737 مليون دولار للقاصفة الواحدة، ودخلت تأريخ الطيران الحربي الحديث بشكلها الأشبه لجناحَي طائرة من دون بَدَن واضح ومحركات مُعَلّقة ودَفّة (RUDDER) عمودية ضمن مجموعة الذيل، فأضحت “القاصفة الشبح البِكر”، والتي لم تولَد شقيقتها أو شبيهتها لتدخل الخدمة الفعلية لغاية يومنا الراهن، في حين أن محاولات دؤوبة لإنتاج قاصفة شبح شبيهة أفضل وأرصن من طراز (B-21 رَيدَر) بمواصفات أرقى ما زالت تحت التجارب العملية، ولم يُتّخَذ قرار نهائي لإقتنائها.

المُستجلِب للانتباه في الـ(B-2 سبيريت) موضوعة بحثنا، وعلى العكس من القاصفات العملاقة من الطرازَين الأقدَمَين، ورغم ضخامتها ومداها البعيد وثقل حمولاتها من أنواع القنابل والمقذوفات النووية والاعتيادية، أن طيارَين اثنين فقط في مقصورة القيادة لا ثالث لهما، هما من يقودانها بمفردهما، ويتحكمان في ملاحتها واتصالاتها وإسقاط قنابلها ومقذوفاتها وتسيير كل الأمور فيها، وذلك من عِظَم ما جُهِّزَت بها من عقول إلكترونية وتكنولوجيات قيادة وملاحة فائقة تحدّد الإتجاهات والمواقع والأهداف، وتثبت نوعية وكمية وأعداد القنابل والمقذوفات المطلوب إسقاطها من جوف القاصفة، قبل أن تتوجه المقذوفات أوتوماتيكيًّا باستثمار منظومات التسيير نحو الأهداف بالارتباط مع أقمار صناعية تحوم في الفضاء لهذا الغرض تحديدًا.

المدى الأقصى لهذه القاصفة 12,225 كلم، أي ما يزيد على المسافة الجوية بين واشنطن وطهران من دون إرضاع جوي، ويتضاعف حوالي مرتين بعملية إرضاع جوي واحدة عند الحاجة، وبحمولة قصوى تبلغ 22.5 طن من القنابل الذكية ومقذوفات “كروز” المُسَيّرة والقنابل النووية المختلفة، وبإمكانها أن تعمل على ارتفاع 53،000 قدم (17 كلم) من سطح البحر، وسرعتها القصوى 960 كلم/ ساعة -أي أدنى من سرعة الصوت التي لا تحتاجها القاصفات (BOMBERS) الضخمة وجوباً.

لقد تعاقدت القوة الجوية الأمريكية في التسعينيات لاقتناء العشرات من هذا الطراز خلال 20 سنة قادمة، شريطة الاستمرار في تطوير إمكاناتها التكنولوجية وتحسين أدائها تباعًا نحو الأفضل، وذلك كي تحلّ محلّ عدد مماثل من القاصفات العملاقة الأقدم “B-52 ستراتوفورترس” ذات الطرز القديمة، والتي آنَ أوانها أن تُخرَج من الخدمة وتُنقل باحترام إلى مقابر الطائرات الأمريكية تمجيدًا خدمتها، ولكن تلك القيادة عادت واكتفت بـ21 قاصفة فقط، ريثما يتم إنتاج أعداد مُجدِية من القاصفة الشبح الأجدد (B-21) على ما ذكرناه.

تمتاز الـ(B-2 سبيريت) بكون جميع حمولاتها من القنابل ذات الإسقاط الحر والقنابل الذكية ومقذوفات الـ”كروز”، تُرَكّب داخل جوفها بشكل مطلق، وذلك على عكس القاصفات الأقدم، إذْ لم تُثبّت تحت جناحَيها وأسفل بَدَنِها أية نقطة تعليق أو كتلة بارزة، وذلك لكونها مصممة من الأساس أن لا يتوفر في عموم القاصفة أي جسم ظاهر ولو كان صغيرًا أو ضئيلاً يحتكّ مع الهواء ويعكس إشعاعات الرادار فيكون سببًا في رصد الطائرة على شاشته.

كامل القنابل والمقذوفات التي يمكن أن تُحَمَّل في جوف القاصفة الشبح B-2 سبيريت

أين أستُخدمت الـB-2 من قبل؟

القاصفة الشبح “B-2” جُرِّبت ميدانيًّا للمرة الأولى خلال حرب “كوسوفو” (1994)، وعلى رؤوس العراقيين وممتلكاتهم عند الغزو الأمريكي المدمّر سنة 2003 لأرض الرافدين، والتي أمست حقل تجارب حقيقية بالعتاد الحي لأحدث أسلحتهم غير المجرّبة في حروبهم المتواصلة.

فمن قاعدة “دييغو غارسيا” الأمريكية- البريطانية المستأجرة وسط المحيط الهندي، أقلعت بضع قاصفات “سبيريت/B-2” لتهمر العراق المنكوب بشتى حمولاتها الأحدث والأنكى والأمَرّ والأثقل خلال غزوهم غير المُبرّر واحتلاله (2003)، قبل أن يتبعوها -إلى جانب قاصفاتهم العملاقة الأقدم والمئات من مقاتلات الهجوم الأرضي بصحبة طرز أخرَيات خصّصتها القوة الجوية الأمريكية للقصف العشوائي الثقيل وغير الدقيق وغير المسبوق على الأحياء المكتظة بالمدنيين الأبرياء وسط مدن “الرَمادي، الفلوجة” وسواها، قبل أن ينهالوا بجام أحقادهم وبالتنسيق مع القيادات العسكرية الأرضية العراقية والأجنبية الحاقدة على مدينة الموصل وسواها أيام الحرب التدميرية على تنظيم “داعش” -المزعوم- في غضون الأعوام (2015- 2017).

الحوثيون يتلقّون القصف الأمريكي الثقيل

من المُعتاد لدى كل من قيادة القاصفات ووزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أن لا تعلنا تفاصيل دقيقة عن مثل هذه المهمات، ولكن الذي يخصنا أن هناك من أشار إلى أن هذه القاصفات قد أقلعت من إحدى القواعد الجوية التي تتمركز بالجانب الشرقي من الولايات المتحدة، فيما أتى آخرون على انطلاقها من قاعدة “دييغو غارسيا” وسط المحيط الهندي لاختصار المسافة والوقت.

وأينما كان موقع القاعدة الجوية التي أقلعت منها القاصفات (B-2) مساء يوم 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، فإن عددها لم يُعلَن، ولكن المنطق يشير أنها حلقت بخط طيران شبه مستقيم وبسرعة اقتصادية على إرتفاع عالٍ لتوفير الوقود، قاصدة الأجواء اليمنية التي اخترقتها بالعديد من القنابل المركبة في جوف كل منها، وكلّها من طراز “أم القنابل” ولكنها متنوعة الأوزان.

وبالتنسيق بين الطيارَين القائدَين مع الأقمار الصناعية الاستطلاعية التي شخّصت لهما المواقع التي نُقِلَت إليها صواريخ الحوثيين البالستية المحمّلة على منصاتها الضخمة، والتي استقرت وسط الوديان بين شقوق الجبال، وخُزِنت في مغاراتها وكهوفها مختلف أنواع الأعتدة والذخائر والمقذوفات الصاروخية المستخدمة للعديد من الأغراض، وبالأخص الأنواع المصممة لمقارعة القطع البحرية، حين أسقطت القاصفات المتتابعة من جوفها قنابل خارقة للأعماق تُوَجّه بدقة متناهية باستثمار منظومة GPS نحو منصات الصواريخ ومستودعات الذخائر وتدمّر الطرق العامة والترابية وسط تلكم الجبال الصخرية الشاهقة، وخلال بضع دقائق كانت العشرات من محتويات الخزين الحوثي وسط 5 مواقع مستهدفة قد انفلقت وتصاعدت نيرانها نحو السماء، وذلك قبل أن تعود القاصفات خلال الساعات العديدة التالية إلى قاعدتها سالمة، بعد أن ظلّت محلّقة في الجو طيلة 26 ساعة طيران بشكل مستمر، كان الطياران خلالها يتبادلان القيادة في كل قاصفة.

القاصفة الأمريكية الأحدث “B-2 سبيريت” الشبح وقد أسقطت من جوفها “أم القنابل” الثقيلة والخارقة للأعماق
القاصفة الأمريكية العملاقة الأحدث “B-2 سبيريت” الشبح وقد قذفت من جوفها عشرات القنابل الإعتيادية ذات الإنفجار العالي لمعالجة الأهداف الهشّة
القاصفة الأمريكية العملاقة الأحدث “B-2 سبيريت” الشبح وهي تتقرب من طائرة الصهريج للتزود بالوقود جواً

الردّ الحوثي المحتمل

الجانب الأمريكي على يقين أن قاصفاته الشبحية المتطورة قد أنهت مهمّتها بنجاح لا شكّ في نتائجها ومن دون أية خسائر، ولكن الحوثيين تحدّوه كعادتهم في كل مرة، حين لم يتعدّ أسبوع واحد حتى أطلقوا صواريخ أرض- بحر تجاه سفن تجارية كانت تبحر في جنوبيّ البحر الأحمر، وهذا يعني أن الضربة الأمريكية ولو كانت ناجحة ومؤثرة، إلاّ أنها لم تكن ناجعة 100% من حيث عدم تحقيقها محوًا كاملاً لجميع ممتلكات الحوثيين من هذه الصواريخ بنوعَيها.

أما إذا لم يطلقوا خلال شهر أو أكثر صواريخ بالستية بعيدة أو متوسطة المدى، فمعناه أنهم فقدوا هذا السلاح، إلاّ في حالة إنتاجه في مصانعهم المزعومة، أو تهريبه من إيران بطريقة ما إليهم ولو بصعوبة بالغة، وتنطبق الاحتمالات ذاتها بحق المقذوفات سطح- بحر التي استثمروها مرات عديدة واستهدفوا سفنًا حربية أو تجارية في جنوبيّ البحر الأحمر ومضيق باب المندب وكذلك في خليج عدن مرات عديدة متتالية، وإن غدًا لناظره قريب.

زر الذهاب إلى الأعلى