مقدمة:
تشهد الهند أزمةً كبيرةً جراء انتشار سلالة جديدة لفيروس كورونا المسبب لكوفيد-19 عُرِفت باسم “دلتا”، تسبّبت في قفزةٍ جديدة في عدد الوفيات والإصابات، وأجبرت نيودلهي على التوقف عن تصدير اللقاحات التي تُصنعها شركاتٌ دوائيةٌ محليةٌ حصلت على تراخيص عالمية؛ إذ لم يقف الأمر عند هذا الحد من تجهم الوضع الصحي في البلاد، بل إن هذه السلالة تطورت إلى أُخرى أشد فتكًا عُرِفت باسم “دلتا بلس”، وانتقلتا معًا إلى عددٍ من دول العالم، حيث أثارتا هلعًا كبيرًا؛ خاصة بعد الحديث عن مقاومتهما للقاحات المُكتشفة حديثًا، ما يُهدد العالم كله، وليس الهند فحسب باحتمالية العودة إلى المربع الأول في سباق المواجهة مع الجائحة.
انتشار متحور “دلتا” في الهند وتداعياته:
عانت الهند من انهيار القطاع الصحي خلال الربع الثاني من العام الجاري، مع تزايد عدد الوفيات والإصابات بالنسخة المتحورة من فيروس كورونا المعروفة باسم “دلتا”، إذ كان المرضى يقضون نحبهم في مواقف السيارات التابعة للمستشفيات جرّاء نقص الأسرّة والأدوية والأكسجين، فيما أطلق كثيرٌ من المستشفيات نداءاتٍ للحصول بشكلٍ عاجلٍ على إمداداتٍ طبية، ما دفع الحكومة لنشر طائراتٍ عسكريةٍ وقطاراتٍ لتوصيل الأكسجين إلى الولايات الأكثر تضررًا، والتقدم بطلبيةٍ لشراء 300 مليون جرعةٍ من لقاحٍ غير معتمدٍ من منظمة الصحة العالمية ضد فيروس كورونا لمواجهة موجة الوباء الثانية التي اجتاحت البلاد[1]، في حين خصص البنك المركزي الهندي ما مقداره 6.7 مليار دولار تمويلًا لدعم شركاتٍ عاملةٍ في مجال الصحة[2].
أعداد إصابات ووفيات كورونا قفزت في البداية بشكلٍ مخيفٍ بعد احتشاد الآلاف من الهندوس في ولاية أوتار براديش للاحتفال بمهرجان “هولي” – أشهر الاحتفالات الهندوسية المعروفة – في شهر آذار/مارس 2021[3]، وملايين آخرين في مهرجان “كومبه ميلا” الديني – الذي يُقام مرة كل 12 عامًا – في نهر الغانج بمدينة هاريدوار التابعة لإقليم أوتارخاند خلال شهر نيسان/أبريل الفائت[4]، حيث وصلت أعداد المصابين الهنود بالفيروس إلى أكثر من 30 مليونًا، والوفيات تجاوزت 400 ألف، ما جعل الهند في المرتبة الثانية عالميًا في عدد ضحايا الفيروس بعد الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يؤكد كريستوفر موراي مدير معهد القياسات الصحية والتقييم بجامعة واشنطن، أن عدد الوفيات من الهنود تجاوز 1.1 مليون حالة، أي نحو 3 أضعاف العدد المعلن عنه رسميًا؛ وذلك لأن الهند لم تكشف جميع الحالات رسميًا؛ جراء عدم كفاية الفحوص، في حالةٍ مشابهةٍ لما يحدث ببعض البلدان في أميركا اللاتينية والأفريقية[5].
كما أن البلاد دخلت في حالةٍ من الفوضى وعدم القدرة على استيعاب العدد الهائل من حالات الوفيات اليومية، ما دفع كثيرًا من السكان؛ وخاصة في المناطق النائية إلى إلقاء جثث ذويهم في الأنهار، جراء عدم توفر الإمكانيات لحرقها، فيما تحوّل نهر الغانج – أحد أكبر أنهار الهند – إلى مقبرةٍ غير قانونيةٍ إثر تكدس الجثث فيه.[6]
كذلك تسبّبت السلالة الجديدة في إجبار الهند على الخروج من سباق تصدير لقاحات كوفيد-19، بعدما كانت تُعدُّ من أكبر المُصدِّرين للقاح “أسترازينيكا” المُصنّع من قبل معهد سيروم ضمن برنامج “كوفاكس”، الذي يُوزّع لقاحاتٍ لبلدانٍ متوسطة ومنخفضة الدخل؛ إذ اضطرت إلى ذلك لتغطية احتياجاتها الخاصة وتطعيم مواطنيها بسبب تفشي الفيروس وتزايد الطلب المحلي عليه[7]، ما أدى إلى تداعياتٍ سلبيةٍ على عدة دول؛ خاصة تلك التي كانت تعتمد على اللقاح الهندي رخيص الثمن مقارنةً بالأسعار العالية لبقية اللقاحات، كما أن برنامج “كوفاكس” تضرّر بشدّةٍ بسبب توقف الهند عن تصدير اللقاح، إذ لم تُصدر سوى 24 مليون جرعةٍ من أصل 114 مليون، ما دفع الدكتورة كاثرين كيوبوتونجي المديرة التنفيذية في المركز الأفريقي لأبحاث السكان والصحة (APHRC) إلى وصف هذا التوقف بأنه “أمرٌ محبطٌ في الوقت الحالي”[8]، فيما ذكر معهد “سيروم” الهندي أن من المأمول استئناف صادرات اللقاح نهاية العام الجاري[9].
الموجة الثانية من الوباء أثّرت بشكلٍ كبيرٍ على الاقتصاد الهندي؛ وذلك بسبب الإغلاق التام المفروض من الحكومة، مما أدى إلى انهيار سوق العمل وانكماش الاقتصاد خلال الأشهر الفائتة، إذ قفزت معدلات البطالة إلى أعلى مستوًى لها في حوالي عام عند 14.7% خلال شهر أيار/مايو 2021، بحسب مركز مراقبة الاقتصاد الهندي – وهو معهد أبحاث خاص مقره بومباي –[10]، كذلك تضررت قطاعاتٌ كبرى، من بينها النقل والتشييد، فيما توقع البنك الآسيوي للتنمية في تقريره السنوي أن يهدد اتساع نطاق الوباء مؤخرًا في الهند آفاق النمو خلال العام الحالي. [11]
“دلتا”.. أخطر متحورات كورونا:
اكتُشِفَت سلالة “دلتا” لأول مرةٍ في الهند خلال شهر شباط /فبراير 2021، حيث صنفتها منظمة الصحة العالمية بأنها “مثيرةٌ للقلق” على الصحة العامة، وأكدت أن هذه السلالة لديها القدرة على أن تكون أكثر فتكًا مُقارنةً بالسلالات السابقة؛ لأن الفيروس في حالتها يكون أكثر قدرةً على الانتقال والعدوى، أو التسبب في مرضٍ أشد، أو تمكينه من مقاومة اللقاحات المُكتشفة حديثًا[12]، حتى إنها أصبحت السلالة المهيمنة من الفيروس التاجي حول العالم.
مبعث القلق من سلالة “دلتا” يأتي من كونها تثير المخاوف من مقاومتها للقاحات المكتشفة ضد كوفيد-19، وبحسب دراسةٍ أجرتها هيئة الصحة العامة في المملكة المتحدة، فإن جرعةً واحدةً من لقاح “فايزر” أو “أسترازينيكا” قدّمت 33% فقط من الحماية ضد سلالة” دلتا”، مقارنة بـ 50 في المئة ضد سلالة “ألفا”، وبرغم ذلك ارتفعت هذه المعدلات بعد الجرعة الثانية إلى 88% للقاح “فايزر”، و60% للقاح “أسترازينيكا”[13]، فيما ذكرت دراسةٌ أجرتها جامعة أكسفورد أن لقاحي “فايزر” و”أسترازينيكا” كانا فعالين ضد سلالتي “دلتا” و”كابا” اللتين تم رصدهما في الهند[14]، في حين قال رئيس مركز غاماليا الروسي للبيولوجيا المجهرية ألكسندر غينسبورغ: إن السلالة الهندية تعمل على “تقصير الوقت اللازم للانتقال من الأعراض الخفيفة إلى الأشكال الشديدة للمرض، وهذا ما يقلل الظهور المحتمل للأجسام المضادة الخاصة بجسم الشخص المصاب”، وتابع بأن “لقاح “سبوتنيك “v الروسي يقي من هذه السلالة وغيرها من سلالات كورونا”[15].
وما يُميّز سلالة “دلتا” عن بقية طفرات كوفيد-19 أنها غيّرت الأعراض التقليدية المعروفة للجائحة وفق البيانات الصحية للمملكة المتحدة، حيث تسبّبت بإصابة أشخاص بالصداع والتهاب الحلق وسيلان الأنف الذي كان عَرَضًا نادرًا للفيروس منذ بدايته، فيما أصبحت حاسة الشم في المرتبة التاسعة بعدما كانت عرضًا شائعًا في الأصل، وذلك بسبب الخصائص المختلفة لـ “دلتا”[16]، كما تم الإبلاغ عن أعراضٍ لا تظهر في مرضى كوفيد-19 مثل فقدان السمع و”الغرغرينا” بحسب موقع بلومبيرغ[17].
هذه السلالة تطورت بشكلٍ سريع، لتظهر سلالةٌ أخرى أكثر فتكًا منها حملت اسم “دلتا بلس” (Delta Plus)، حيث أُبلِغَ عنها من قبل هيئة الصحة العامة بالمملكة المتحدة في حزيران/يونيو المنصرم[18]، وتم رصد حوالي 200 حالة في 11 دولة، فيما يدرس خبراء الصحة ما إذا كانت السلالة أكثر قابليةً للانتقال من السلالات الأخرى، مثل “ألفا” أو “دلتا”[19].
وما تزال هذه السلالة موضع اهتمام العلماء، وسط قلقٍ من كونها الأكثر قابليةً للانتشار بين البشر، فهي تحتوي على طفرةٍ إضافيةٍ تُسمى “K417N”تُميزها عن متغير “دلتا” العادي[20]، فيما صرحت وزارة الصحة الهندية أن “الطفرة K417N كانت موضع اهتمام؛ لأنها موجودةٌ في سلالة بيتا التي قيل إن لها خاصية التهرب من الجهاز المناعي”، في حين أكدت منظمة الصحة العالمية أنها “تتابع هذا المتحور كجزءٍ من سلالة دلتا”، وأضافت أنه “في الوقت الحالي لا يبدو أن هذا المتحور شائعٌ، ويمثل حاليًا فقط جزءًا صغيرًا من دلتا”.[21]
قلق عالمي من “دلتا”:
بالإضافة لأثر كوفيد-19 وسلالاته المتحورة في الهند على برنامج “كوفاكس”، فإنّ “دلتا” و”دلتا بلس” أثارتا كذلك قلقًا عالميًا كبيرًا بسبب خطورتهما وسرعة انتشارهما كما سبق، ويأتي ذلك برغم تقدم كثيرٍ من الدول في عمليات التطعيم ضد الفيروس، إذ سُجلت إصاباتٌ بسلالة “دلتا” في دولٍ عربيةٍ منها العراق والإمارات وتونس، وكذلك في روسيا ودول أوروبية، فيما حذر الأمين العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس من أن سلالة “دلتا” تنتقل بسهولةٍ أكبر، ورُصدت في 98 دولة على الأقل، مؤكدًا أنها “مستمرة في التحور”[22]، كما حذر الرئيس الأميركي جو بايدن بأنّ كوفيد-19 لم “يُهزم بعد، حتى وإن حقق الأميركيون تقدمًا هائلًا ضد الجائحة”.[23]
كذلك حذرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من أنّ أوروبا في وضعٍ “محفوف بالمخاطر” مع انتشار سلالة “دلتا”، وذلك في الوقت الذي قال فيه مسؤولو الصحة في الاتحاد الأوروبي إنّ حالات الإصابة بـ “دلتا” ستُشكّل 90% من الحالات بحلول آب/أغسطس المقبل، ما يُعيق تنفيذ خطط رفع القيود خلال الصيف[24]، كما حذّر كبير خبراء الأمراض المعدية في الولايات المتحدة أنتوني فاوتشي من أنّ “الولايات المتحدة قد تتبع مسار المملكة المتحدة، حيث أصبحت هذه السلالة هي المهيمنة، بسبب الانتشار السريع وسط الشباب”، واصفًا إياها بـ “الخطر الأعظم”، وقال: إنها تشكل الآن حوالي 20% من جميع الحالات الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية[25]، فيما شكّلت “دلتا” 99% من حالات الإصابة بكوفيد-19 في المملكة المتحدة، وفقًا لبيانات وكالة الصحة العامة في إنجلترا (PHE) منتصف حزيران/يونيو 2021.[26]
وبسبب هذا الانتشار السريع لسلالة “دلتا” في بريطانيا، تسعى الحكومات في إنجلترا وأسكتلندا وأيرلندا الشمالية إلى تقليص الفارق الزمني بين الجرعتين الأولى والثانية من اللقاح للمجموعات الأكبر سنًا من السكان، وأصبح من الممكن لمن تجاوز سن الـ 40 عامًا الحصول على جرعتي لقاح بعد 8 أسابيع فقط، بعكس الفترة السابقة التي كانت تصل إلى 12 أسبوعًا، لكن مثل هذا الخيار لن يكون متاحًا للدول المنخفضة الدخل ومتوسطته.[27]
خاتمة:
برغم التقدم الكبير الذي تم تحقيقه في مواجهة كوفيد-19 في كثيرٍ من دول العالم إثر اكتشاف لقاحاتٍ مضادة وتطعيم مئات الملايين بها، فإنَّ ظهور طفراتٍ جديدةٍ للفيروس مثل “دلتا” و”دلتا بلس” يؤكد أن المواجهة مع الجائحة ما تزال مُحتدمة، خاصةً إن ظهرت مستقبلًا متحوراتٌ أقوى لا تستطيع اللقاحات المكتشفة القضاء عليها، ومما يزيد من سرعة انتشار الفيروس وظهور مزيدٍ من السلالات: التباطؤ الكبير لدى الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل – التي تعتمد على برنامج كوفاكس – في الحصول على اللقاحات، ما يشير إلى أهمية الإسراع في التوزيع العادل لها، وجعل القضاء على الجائحة مسؤوليةً جماعيةً بعيدًا عن الاحتكار الذي كانت له تداعياتٌ سلبيةٌ على العالم أجمع.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021
بي بي سي عربي، فيروس كورونا: الهند تطلب 300 مليون جرعة من لقاح غير معتمد لمواجهة الموجة الثانية.
العربي، الهند تخصص 6.7 مليارات دولار قروضًا ميسرة للقطاع الصحي.
الجزيرة، هندوس يتجاهلون كورونا احتفالا بـ “هولي”.
سكاي نيوز، “النهر المقدس”.. كيف أغرق الهند في أزمة كورونا؟
وول ستريت جورنال، تقول العائلات والخبراء إن الهند قللت من عدد وفيات Covid-19 بمئات الآلاف .
Lacroix، في الهند يتحول نهر الغانج إلى مقبرة غير قانونية لموتى كوفيد- 19 .
بي بي سي عربي، لقاح فيروس كورونا: لماذا علّقت الهند تصدير اللقاح المُنتج فيها إلى العالم؟
دويتشه فيله، دول عربية وأفريقية في أزمة بعد حظر الهند تصدير اللقاحات.
الشرق الأوسط، “سيروم” الهندي يعلّق تصدير لقاحات “كورونا”.
Cnbc عربي، اقتصاد الهند ينمو 1.6% في الربع الأول من 2021 قبل موجة ضخمة من الإصابات بفيروس كورونا
العين الإخبارية، ماذا فعل كورونا المتحور في اقتصاد الهند؟ ضربة قاضية.
بي بي سي عربي، فيروس كورونا: ما هي سلالات الفيروس؟ وما مقدار الحماية التي توفرها اللقاحات ضدها؟
[13] نفس المصدر السابق
آي تي في نيوز، كوفيد: أظهرت الدراسة أن لقاحين من أكسفورد ينتجان مستوى منخفضًا من الأجسام المضادة ضد متغير دلتا.
روسيا اليوم، سلالة كورونا “دلتا” الهندي تكتسح العالم.. ما السبب؟
موقع ويب للعلومScienceAlert، تشير التقارير المبكرة عن أعراض دلتا المتغيرة إلى أنها مختلفة عن المعتاد.
موقع بلومبيرغ، قد تكون الغرغرينا وفقدان السمع متغير دلتا أكثر حدة.
تقرير لهيئة الصحة العامة بالمملكة المتحدة، المتغيرات المثيرة للقلق والمتغيرات قيد التحقيق في إنكلترا (صفحة 49).
سي إن إن صحة، هناك ما لا يقل عن 200 حالة معروفة لمتغير Delta Plus في جميع أنحاء العالم. إليكم ما نعرفه.
سي إن إن عربي، إليك كل ما نعرفه عن متغير “دلتا بلس” لفيروس كورونا.
رويترز، الشرح: ما هو نوع دلتا لفيروس كورونا مع طفرة K417N؟
الأناضول، الصحة العالمية: رصد سلالة “دلتا” في نحو 100 دولة.
فرانس برس بالعربية تغريدة في تويتر.
بي بي سي عربي، فيروس كورونا: أوروبا تتأهب لارتفاع الإصابات بسلالة دلتا.
Cnbc، فوسي يعلن أن صيغة دلتا “أكبر تهديد” لجهود الأمة للقضاء على Covid.
سي إن إن بالعربية، تحذيرات في بريطانيا: متغير “دلتا” يمثل 99٪ من حالات الإصابة بفيروس كورونا حاليًا.
[27] المصدر رقم 12