التأسيس للفكرة:
من حسنات العلوم الاجتماعية الحديثة اهتمامها بالمضطرد والثابت في حركة المجتمعات البشرية، أو ما يمكن أن ندعوه بالقوانين والنواميس الاجتماعية، وبقدر ما اتسعت مساحة عمل هذه العلوم في الجامعات والمعاهد العلمية في العالم العربي استقرت وراجت معها فكرة الاضطراد والثبات هذه.
إلا أن ثمة ثلاث مشكلات أساسية تصادفنا في معالجة العلوم الاجتماعية الحديثة لهذه المسألة، وهي مشكلات ليست مصنوعة في عالمنا العربي، بل هي أجزاء من بنية هذه العلوم كما أنتجها العقل الغربي ووظفها على العموم؛ وهي:
- الاختلاف الكبير حول هذه القوانين، وأيها يمثل المنطلق الأول للتغير والتحول الاجتماعي؛ هل هو الفعل الاجتماعي، أو طبيعة العلاقات الاجتماعية، أو أن ظاهرة اجتماعية ما تتطور في علاقة جدلية بين مجموعة ظواهر متداخلة، أو غيرها.
- أن اتساع مساحة القول والحدس في تحديد هذه القوانين قد دفع بعض الدول إلى استغلال العلوم الاجتماعية لأغراض سياسية غير مستقيمة، والدعوة إلى بقاء الحال على ما هو عليه تحت مظلة علمية مزعومة، حتى كانت أقسام العلوم الاجتماعية في بعض الجامعات الكبرى في العالم شريكًا في الترتيب لغزو دول لأخرى، كما هو شأن الولايات المتحدة مع بعض دول أمريكا الجنوبية.
- وأما المشكلة الثالثة، فهي ميل كثير من علماء الاجتماع إلى القول بجبرية اجتماعية تنشأ عن اضطراد هذه القوانين وقهرها للفرد الذي يخضع لها، وإن كان ثمة رافضون لهذا التوجه؛ مثل الفيلسوف الاجتماعي الألماني الشهير ماكس فيبر.
على أي حال، فإننا لا نجد هذه المشكلات في إشارة المصادر الإسلامية إلى النواميس والسنن الاجتماعية، مع أنها لم تُعن باستقصاء هذه النواميس وتفصيل القول فيها باعتبار أنها ليست المهمة الأساسية لها، فإذا جمعنا مثلًا قول الله تعالى: ﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ… ١٣٧﴾ [آل عمران]، إلى الحرية الفردية التي تثبتها الشريعة للإنسان، بدا هذا التوازن الذي يدعو الإنسان إلى توجيه هذه السنن في تحقيق أهدافه المستقيمة، لا أن يخالفها ويغالبها، ولا أن يترك نفسه ضحية لها.
ونريد بهذه التقدمة أن نؤسس لفكرة “الجماعة الوطنية”، وأنها نوع من الانبعاث الاجتماعي الإنساني الذي تفرضه حاجة اجتماعية ما لحماية بُعد من أبعاد المجتمع أو حق من حقوقه، وربما يضاف إلى ذلك تمثيله على المستوى الخارجي وإدارته في الأزمات، ثم ولادة الحكومة ومراقبتها من خلال إطار أعم من إطار المؤسسات الرسمية.
ويتلوّن الانبعاث الاجتماعي الذي تُولد عنه هذه “الجماعة” في كل عصر بلون حسب الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة، وما دمنا في عصر الدولة الوطنية والقومية فقد اتصفت هذه الجماعة – التي نحن بصدد الحديث عنها – بصفة أنها “وطنية”. ومن هنا يمكن أن نقول: إن صورًا أخرى للجماعة الوطنية قد ظهرت في كل جماعة إنسانية وفي كل عصر؛ بمعنى أو بآخر، لكنها كانت على شاكلة عصرها، أو على شاكلة أخرى غير شاكلة عصرنا الذي نحيا فيه.
معنى المصطلح:
وقد صك مصطلح “الجماعة الوطنية” المفكر المصري الكبير طارق البشري، وعرفه بقوله: “عنيت [به] وحدة الانتماء الجماعي الرئيسية التي يقوم بها التكوين السياسي، وهي تضم العديد من القوى والجماعات المكونة لعناصر الجماعة السياسية”.([1])
فركز على تحديد سمات هذه الجماعة بوصفها كيانًا سياسيًا عاملًا ضمن الجسم العام للشعب أو الأمة، وامتاز لديه بما يلي:
- أن الجماعة الوطنية ليست هي الشعب كله؛ أي أنها فقط جزء من الجسم الاجتماعي العام، فليست هي “المواطنين” ولا حتى “الوطنيين”. ولا يعني هذا حرمان أحد من حق انتمائه إلى أمته ووطنه، أو منح حقوق لبعض الناس دون بعض لسبب غير قانوني أو أخلاقي، ولكن بطبيعة الحال ليس كل أحد يمارس السياسة، ويعمل في نطاق أوسع من نطاقه الشخصي أو العائلي، بل هذا دائمًا خاص بفئات معينة من الناس، وهم الذين يتشكل منهم ما يسمى “الجماعة الوطنية”.
- ويكمل النقطة السابقة أن الجماعة الوطنية ليست كيانًا مغلقًا على أصحابه بحيث لا يمكن لغيرهم من المواطنين الولوج عليهم فيه! إلا أن العضوية فيها مشروطة بخدمة القضايا الوطنية فكريًا أو حركيًا أو ما شئت من وجوه الخدمة العامة.
- ليست الجماعة الوطنية بالضرورة طيفًا سياسيًا واحدًا أيضًا، بل أي شخص أو حزب أو مجموعة أو جماعة تتبنى توجهات سياسية ترى فيها مصالح الأمة، وتسهم بمشروع أو فكرة في الشأن العام، فهي جزء من الجماعة الوطنية.
- ويترتب على العنصر السابق أن تستوعب الجماعة الوطنية التنوعات الدينية والمذهبية والعرقية الممثلة في داخل الأمة؛ إذ تأتي النسبة إلى الوطن بحيث تعبر عن انتماء مشترك لكل هؤلاء المختلفين.
وقد استعمل البشري مصطلحًا آخر قريبًا من هذا المصطلح في بعض كتاباته، وهو “التيار الأساسي”، وقصد به وجود مشروع وطني مشترك تجتمع عليه مكونات وطنية متعددة، وهو “إطار أساسي ينظم العلاقة بين هذه المكونات المختلفة، ويتسع لمختلف التعبيرات، دون التنكر للأولويات الوطنية التي تقتضيها المرحلة التاريخية”.([2])
إشكالات أخرى:
ولا شك أن هناك إشكالات أخرى في مسألة الجماعة الوطنية على المستوى النظري تحتاج إلى دراسة؛ ومنها ما تبينه الأسئلة التالية: هل تلغي الهوية الوطنية في هذه الحالة بقية الهويات الدينية والمذهبية والثقافية واللغوية للأمة؟ وأي هويات الجماعة الوطنية، في حال تعدد الهويات فيها، يجب تغليبها على دستور الدولة ومنظومتها الثقافية العامة؟ وهل يجب أن يكون للجماعة الوطنية كيان جامع، أو يكفي أن تكون هناك فكرة كلية جامعة تتعلق بمصالح الأمة على العموم؟ وغير ذلك من أسئلة سنوسع المجال لمناقشتها في حلقات قادمة إن شاء الله.
وبالرغم من أن تعريف البشري السابق قد أفلت من اعتبار الجماعة الوطنية وليدة الأزمات، وكأن وجودها أمر اجتماعي طبيعي، إلا أننا ينبغي أن نقدر الشعور بالخطر وحلول الأزمات قدرها في هذا الجانب؛ إذ هي الحافز على التجمع والاتفاق على بذل الجهد لحفظ الذات والهوية والثقافة والأرض والعرض.
ولأهمية الجماعة الوطنية ومفصليتها في تحريك الأجواء السياسية والاجتماعية وتغييرها، فقد يلجأ بعض المتضررين من وجودها إلى صناعة جماعة وطنية موازية وممالئة لصناعها، وهم: الأنظمة الداخلية المستبدة، والقوى الخارجية المحتلة، إما ملأً لفراغ يُخشى أن تشغله قوى مشاكسة لهما، أو سعيًا إلى مضايقة جماعة وطنية قائمة بالفعل وتعمل ضدهما.
وكثيرًا ما يسعى هذان الطرفان – الاحتلال والاستبداد – إلى اختراق الجماعة الوطنية، عن طريق بث العملاء في صفوفها، وتفريق قواها، وربما تشتيتها بالوسائل الخشنة. وهذا يعني أن الجماعة الوطنية تحتاج إلى جهد مضاعف في وقت الأزمات؛ لأنها لا تعمل في أرض ممهدة ولا ظروف مواتية في العادة. ولا شك أن إدراك مكونات الجماعة الوطنية وأطيافها لوحدة المصير التي تجمعها، والوطن الذي يشملها، تمثل عنصرًا أساسًا في تأجيل الخلافات والاختلافات عند الحاجة، والتركيز على الجوامع، وهو ما تقرُّه مقولات وطنيين مِن مسيحيي المشرق العربي، أنّهم يمتلكون هويّة وجوديّة خاصّة، ساهمتْ الحضارة الإسلاميّة في تنويعها وحمايتها.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021
[1] – طارق البشري: نحو تيار أساسي للأمة ص 38- 39. وله كذلك كتاب آخر مهم وكبير عنوانه “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية”.
[2] – البشري: السابق ص 9.