النقطة المتقدمة لحلف الناتو في دول البلطيق: شوكة بالنسبة لموسكو
من خلال الاستجابة لشعورٍ طويلٍ من انعدام الأمن بين حلفائه الجدد، يُجازف حلف الناتو بمخاطر جليّة تكمن في إثارة التوترات مع روسيا.
في عام ٢٠١٧ زاد حلف الناتو من وجوده على الجانب الشرقي من أراضيه ضمن عملية “تعزيز الوجود المتقدم” حيث تمّ نشر أربعة كتائب متعددة الجنسيات في دول البلطيق(أستونيا ولاتفيا وليتوانيا) وكذلك في بولندا.
لوحدها فرنسا الموجودة في أستونيا تشارك مع الدول الأعضاء في الناتو في هذه العملية ب٣٠٠ جندي.
منذ نهاية الحرب الباردة لم يحدث نشرٌ بهذا الحجم داخل التحالف الأطلسي، إذ تمّ اتخاذ هذا القرار بإرسال القوّات إلى حدود روسيا كردّ على الشعور بعدم الأمان داخل تلك الدول.
في الواقع كان التدخل الروسي في أوكرانيا حسب التبرير الرسمي بسبب “الرغبة بحماية المواطنين الناطقين بالروسية”، وأيضًا اتباعًا لسياسة “الأمر الواقع” الناتجة عن ذلك.
هذا ما زاد الشعور بعدم الأمان في هذه الدول الثلاث – دول البلطيق- المتاخمة لروسيا على الرغم من انتمائها للناتو.
وعليه ما هو التحليل المناسب للأسباب التي تكمن وراء هذا النشر للقوات؟
العُذر المُقلق لحماية الروس في الخارج:
يتذرع الكرملين بشكلٍ منتظم بمفهوم حماية المواطنين الروس في الخارج لإضفاء الشرعية على تدخلاته الخارجية.
على سبيل المثال فقد أشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عام ٢٠٠٨ إلى وجود “تطهيرٍ عرقي” ضدّ الروس في جورجيا قبل تدخل الجيش الروسي في ذلك البلد.
وفي عام ٢٠١٤ قام “الرجال الخضر الصغار”_ وهم جنودٌ بزيٍّ عسكري ولكن لا يحملون أي شاراتٍ عسكريةٍ لأي دولة_ قاموا بغزو شبه جزيرة القرم التي يغلب على سكانها الناطقون باللغة الروسية، وسرعان ما تبع أولئك الجنود جنودٌ يرتدون الزي الرسمي الروسي.
سبق ضمّ هذه الأراضي استفتاءٌ نظمته روسيا ولم يعترف به الغرب، في حين لم يتوقف الكرملين عن التذكير بضرورة حماية السكان الناطقين بالروسية في البلدان المتاخمة لروسيا لتبرير أعماله.
إلا أن الكثير من الكُتّاب يعتبرون أنّ التقارب بين الناتو وهذه البلدان واحتمال انضمامها إلى الحلف الأطلسي دفع موسكو إلى التدخل العسكري.
في الواقع أصبحت تلك البلدان غير مستقرة، وعلى هذا النحو فهي تُشعر التحالف “بالمغص”.
في بلدان البلطيق وخاصةً في أستونيا ولاتفيا ربع السكان من أصلٍ عرقي روسي، هذا الوجود القوي الناطق بالروسية يُقلق تلك الدول التي تخشى أن تواجه التدخل الروسي على هذا الأساس.
إنّ سياسات التضليل والاتهامات بالتمييز ضدّ الناطقين بالروسية في بحر البلطيق تُعتبر بالفعل أول دلالات التدخل المحتمل.
ومع ذلك فإنّ دول البلطيق الثلاثة وكذلك بولندا هي بالفعل أعضاء في التحالف، وبالتالي يجب وضع الإشارات إلى القضايا الأوكرانية والجورجية في منظورها الصحيح.
استراتيجية الأمر الواقع:
ويمكن تفسير هذا الشعور القوي بعدم الأمان في دول البلطيق بخوفهم من عدم دعمهم من قبل الناتو في حالة التدخل الروسي وضمّ جزء من أراضيهم.
في الواقع غالبًا ما يتمّ تفسير التدخل في أوكرانيا وضمّ شبه جزيرة القرم، على الرغم من الرفض الدولي له، على أنّه استراتيجية الأمر الواقع من قبل روسيا.
هذا يعني تدخلٌ سريعٌ جدًّا وضمٌّ نهائي لأرضٍ ما ثمّ يُترك الأمر للدبلوماسيين والسياسيين في الكرملين لمحاولة استعادة “العمل كالمعتاد” مع الدول التي عارضت هذه الأعمال.
هذه السياسة تعتمد بشكلٍ أساسي على افتراض أنّ الدول الغربية تفضل إطلاق سياسة “إعادة التعيين” مع روسيا، بالتالي تعترف فعليًّا بالضمّ بدلًا من الإبقاء على عقوباتٍ غير محدودة ضدّ موسكو أو التدخل عسكريًّا.
يصعُب على الناتو مواجهة الهجمات الهجينة:
تضاف إلى كل ذلك الإجراءات المزعزعة للاستقرار التي تواجه بلدان البلطيق، حيث الشكوك حول وقوع هجماتٍ عبر الإنترنت، بالإضافة إلى أنّ تعبئة الشتات الروسي الموجودين في استوينا ولاتفيا تخلق توتراتٍ داخل هذه الدول.
هذا النوع من زعزعة الاستقرار له خصوصية تمنع تفعيل المادة الخامسة من معاهدة واشنطن.
تنص هذه المادة على مبدأ الدفاع المشترك للتحالف، أي يُعتبر أي هجومٍ مسلّح على عضوٍ هجومًا على جميع الأعضاء(بموجب المادة ٥١ من ميثاق الأمم المتحدة الذي يسمح بالدفاع المشترك).
المادة الخامسة تتحدّث عن هجومٍ مسلّح وبالتالي لا يمكن استخدامها في حالة الهجمات الهجينة_ هي هجمات تشمل التخريب والدعاية وهجمات المعلوماتية والتضليل_.
وهكذا تنجح روسيا بتقنياتٍ غير تقليدية في زعزعة استقرار دول البلطيق مع اختبارٍ دقيقٍ لتضامن دول الناتو.
من ناحية ثانية إذا كانت المادة ٥ تنطوي على هجومٍ مسلّح فإن تفعيلها _حتى في هذه الحالة_ لن يكون تلقائيًّا.
لذلك إذا غزت روسيا دول البلطيق فيجب اتخاذ قرارٍ بالإجماع من قبل ٢٩ دولة عضو في الناتو.
رغم أنّ الهجوم المسلح من جانب روسيا يبدو أمرًا غير محتمل إلا أنّ مؤسسة ثينك تانك راند الأمريكية قد نظرت فيه وخلُصت إلى أنّ الأمر سيستغرق ٣٦ ساعة فقط لكي تسيطر روسيا على دول البلطيق الثلاث.
تأثير الردع:
يمكن تفسير هذه السهولة التي يمكن لروسيا فيها أن تتدخل عسكريًّا في أستونيا ولاتفيا وليتوانيا على وجه الخصوص بوجود نظام A2AD (نظام منع الوصول إلى مناطق محرمة) المنتشر في كالينينغراد وفي غربي روسيا.
كذلك فإن وجود صواريخ أرض جو ومضاد السفن وصواريخ أرض أرض تمنع بحكم الواقع تدخل قوات الناتو في أراضي دول البلطيق في حالة العدوان.
“الوجود المتقدم والمعزز” لحلف الناتو على أراضي البلقان يهدف إلى ردع الهجوم الروسي لسببين، أولًا: فإن نشر قوات الناتو في الموقع في حالة وقوع هجوم من شأنه أن ينبه الحلف في الوقت اللازم خاصة إن حصل وتدخل “الرجال الخضر الصغار”.
ثانيًا: وفي حالة وجود تهديد لقواتها ستشارك الدول الغربية تلقائيًا في أزمة محتملة، وما تخشاه دول البلطيق هو الجمود بين الدول المؤسسة للحلف، حينها ستمتنع عن تعبئة جنودها في صراعٍ مباشر مع روسيا إن حصل هجوم.
لكن استخدام المادة الخامسة يتم بإجماع الآراء، علاوةً على ذلك وكما اتضح سابقًا فإنّ الغموض الذي يغلّف الهجمات الهجينة والشك حول المسؤولية الروسية يعني المزيد من التردّد داخل الدول الأعضاء في الناتو.
خطر التصعيد:
بالنسبة لروسيا يتناقض وجود قوات على الجانب الشرقي من الحلف مع القانون التأسيسي لعام ١٩٩٧ بين روسيا وحلف الناتو.
ينصّ هذا القانون على أنّه لا يمكن تحديد موقعٍ كبيرٍ ومستدامٍ للقوات على أراضي الأعضاء الجُدد في الحلف.
هذه الذريعة مرفوضة من قبل الناتو الذي يقول إن تناوب القوات لا يشكّل خرقًا للاتفاقيات، ومع ذلك فإن الكرملين يعتبر هذا النشر العسكري على حدوده استفزازًا حقيقيًّا من الناتو.
ثّم إنّ حماية المادة الخامسة حتى وإن قوّضتها الهجمات الهجينة تظل ذات أهمية رمزية، إذ من غير المعقول أن تتحمل روسيا خطر ضمّ دول البلطيق عسكريًّا.
لكن يبقى الناتو على حافة إثارة التوترات مع موسكو من خلال الاستجابة لشعور عدم الأمان الذي يعيشه الحلفاء الجُدد.
سيندي رينييه (لا تروبين) ٠١ آب/أغسطس ٢٠١٩
الرابط الأصلي من هنا
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات © 2019