قارئ المقال غالباً لا يعدو أن يكون أحد رجلين، باحث عن المعلومة، يفيد منها ويواصل مسيرته في التعلم، وروح ناقدة لا يسلم بما يقرأ، ويجادل الكاتب في أفكاره. أُفضّل أن أكون هنا، في القسم الثاني من القراءة، فلا يهم كم أقرأ، ولا نوعية ما أقرأ إذا لم أكن أمتلك حسًا نقديا، قادر على قول لا للكاتب. وآمل أن يشاركني القارئ هذه المساحة.
وهذا التوقيع فوق ديباجة أفكر أن أقدم بها مقالاتي على “برق” .. حتى تذكرني والقارئ الكريم بالغاية من رص الحروف على هذه المساحة المشتركة، إنها مساحة للتفكير. والتفكير فقط. لا أقطع برأي ما، ولا بصحته، بل أحاول هنا أن نفكر معا.
في كتابه “قوانين النهضة” عرض الدكتور جاسم سلطان مفهوم “الفكرة المحفزة” (في الهامش: لمزيد من التفصيل حول هذا المفهوم يراجع: جاسم سلطان، قوانين النهضة، دار تمكين، الطبعة الخامسة، ص25-29) كمفهوم أساسي وضروري للنهضة. وفي صدد تعريفها بين أن الفكرة المحفزة هي “قضية محورية تمس حياة الناس مباشرة … تؤسس خطابها من البواعث الداخلية والنفسية الدفينة … وتصبح المحور الذي يتم التركيز عليه لاستقطاب الناس.”
إن الفكرة المحفزة هي فكرة داعمة للفكرة المركزية (ايديولوجيا الدولة)، ومستقاة منها، فكرة بسيطة، ملهمة، تتعلق بواقع الناس اليومي، وبإمكانها أن تظل مستعرة في نفوس الجماهير مدة طويلة. والغاية من وجود الفكرة المحفزة بقاء الدافع للتغيير قائما، ما يجعل قبول الناس له أكثر، والتغيير أكثر سهولة.
من الأفكار المحفزة التي رافقت بعض الأمم في نهضتها فكرة المساواة التي نادى بها مارتن لوثر، فهي قضية بسيطة ملهمة واقعية كانت تطبع كل تصرفات الأمريكيين السود، وتشغل حيزا لا بأس به من تفكيرهم وعملهم. من ذلك أيضا فكرة “نريد خبزا” أو “اتحدوا يا عمال الأرض” وهي الفكرتان المحفزتان للشيوعية، والتي تنادى بها الشيوعيون معبرين بها عن واقعهم وأحلامهم.
وهكذا، فحتى يتحقق التغيير، ويتلقفه الناس يجب على قادته أن ينشؤوا “أفكارا محفزة” جامعة، تنطلق من واقع الناس وتصوغ أحلامهم.
في هذا المستوى السياسي-الجماعي عرض الدكتور جاسم جزئية “الفكرة المحفزة” التي هي أساسية في “شروط النهضة”
لكن، ما علاقة كل هذا بالتراث؟ مالذيه يعنيه وجود أفكار محفزة في قراءة التراث؟
بالنسبة لي يمكن قراءة هذه الفكرة في مستوى أقل مما عرضت فيه، وبدلا من شكلها الجماعي-السياسي أحاول في هذا المقال تفعيلها على مستوى الفرد وعلاقته بإنتاج المعرفة فقط. فمالذي يمكن استخلاصه منها؟
المالكون لكبار الشركات، والناجحون المتميزون، المتحدثون في TED مثلا، وغيرهم، عند سؤالهم عن أسباب نجاحهم وكيف تمكنوا من بناء امبراطوريات ناجحة، أو الوصول إلى القمة بموارد محدودة، سيفاجؤك كثير منهم بأن السر بسيط، إنه غالبًا تغييرٌ في طريقة التفكير، مفردة واحدة كانت كافية لجعله يرى مالم يكن يراه من قبل، ربما حادث ما وقع له وانتبه إلى أن هذه الفكرة كفيلة بالتغيير، وبالفعل فقد قام بإعادة بناء شركته، بعضهم حتى حياته تبعا لهذه الأفكار. (متأكد أن كثيرا من القراء قد مرت عليهم مثل هذه التصريحات، وبعضهم يذكر أمورا مثل: الاستيقاظ مبكرا، الأكل الصحي، توظيف النساء فقط في الشركة، الإيمان، الصبر، المرونة، موالاة السلطة، العمل الخيري .. وغيرها كثير).
ما سبق، إذا كان متركزا جدا في حياة الإنسان، وكان يعتمد عليه كثيرا في تحليل المعطيات حوله واتخاذ القرارات وبناء المعرفة الذاتية أو إنتاجها (كما عند الكثيرين) فإنه يصح اعتبارنا لها كفكر محفزة. هذه الفكرة البسيطة الفعالة جدا، التي يعيش بها ولها الشخص فترة معتبرة من الزمن، وتضفي على تصرفاته كثيرا من المعقولية التي لم يكن بالإمكان إدراكها لولا معرفة هذه الفكرة المحفزة.
في هذا المستوى، الشخصي، يمكننا اكتشاف أهمية وجود فكرة محفزة لنجاح التغير عند الأفراد. لكننا لا نهتم (في مقالنا هذا على الأقل) بالتغيير عند الأفراد، إننا نهتم بالتراث، وهو ما سنبنيه على كل ما قدمنا.
لمعطيات عديدة فإن مشاريع إعادة قراءة التراث لا زالت تتعامل مع “أفراد” ذوي مشاريع. ولعله من نافلة القول التأكيد على مركزية “ألأشخاص” دون “الأفكار” في التراث الإسلامي. وعند الحديث عن “علماء مبدعين” فإن “الفكرة المحفزة” تجد مكانها الطبيعي عند “إعادة القراءة” أو “الرغبة في التحليل”.
الإنسان ابن بيئته، كائن اجتماعي يخضع لكثير من الضروريات النفسية والطبيعية، ويساهم في محيطه وفق الايديولوجيات والأفكار الدينية التي يحملها، ولهذا فإن وجود “فكرة محفزة” ما، تستولي عليه، وتصبغ تفكيره، وتجبره على قراءة معينة واستنتاجات معينة أمر ممكمن الحدوث، بل ربما أكيد.
ونحن هاهنا نتحدث عن علماء نابغين، وليس عن أفراد عاديين، مع أن الأفرادي العاديين يصح فيهم مثل هذا الكلام غير أن تراثنا الإسلامي مصوغ من طرف النخبة في كل عصر. بعض هؤلاء العلماء كان يعرف “فكرته المحفزة” ولا يجد سببا لكتمها. هذا أبو حامد الغزالي يصرح في كتابه المنقذ من الضلال أن الفكرة التي استولت عليه وخلبت لبه، ودفعته إلى قراءة ما كتب من معارف هي رغبته في رفع الخلاف بين الفرق الإسلامية ومعرفة أيها تملك الحقيقة. إن هذه الفكرة، بنتائجها طبعت تفكير الغزالي بعد ذلك، فكان بها ينظر، وعليها يستد، ومن خلالها يصدر الأحكام.
وبالرغم من أن الأفكار المحفزة للأفراد ذاتية الدوافع في الغالب، إلا أن هناك أفكارا تبناها عدد لا بأس به من المؤلفين، والعلماء الذين وصلتنا كتبهم. إن أفكارا مثل “طاعة الحاكم/المعارضة الدائمة للسلطة/الشعوبية/القومية/العروبة/التسنن/التشيع/المؤامرة/الحقيقة المطلقة/السلطة …” تبناها كثيرون من كتبة التراث، تبعا لبيئتهم وظروفها، وكان لها دور في إنتاج المعرفة، وهو ما يهمنا بالدرجة الأولى هنا.
ربما مر على أسماع البعض مصطلحات مثل “التجريح والتعديل المذهبي” أو “الدافع السياسي” للاختلاف أو تبني الآراء، ومثل هذه المواضيع التي تشير إلى أن بعض المعرفة التراثية لم تكن موضوعية تماما، وهل يمكن إنتاج معرفة إنسانية موضوعية؟ والإنسان ابن بيئته يتأثر بها.
إننا إذا طالعنا سيرة أديب من الأدباء، ووجدناه مقربا للسلط مثلا، يأخذ من خزينتها كل سنة ما يكفي أمة من الدنانير الذهبية، ثم بأمر من هذا السلطان يأمره أن ينتخب له مجموعة من الأبيات والقصائد العربية ليحفظها أولاده، هل يمكننا أن نتوقع قيام هذا الأديب بتدوين قصائد تشمت في قبيلة الملك أو تبين ظلم الملك وأجداده؟ أبدا، إذا لذهب رزقه وضاعت روحه، فكيف إن تأكدنا من هذا؟ وخذ مثل هذا المثال وقسه على بقية المؤلفين.
إن هذا يعني أنه ليس ثمة من مؤلف في فنون التراث المختلفة لم يكن خاضعا لظروف مؤلِّفه، بدءا من الانطباع النفسي، والموقف السياسي، والفكرة الدينية التي يؤمن بها، والفكرة المحفزة التي تعتبر مبدأه في الحياة، وهكذا إلى ظروفه المادية، وموقف الحاضنة منه، وكل هذا تحاول الفكرة المحفزة تبيينه لنا بكثير من الإجمال.
إنني أزعم أن محاولة قراءة التراث، بتحليل الأفكار المحفزة فيه، والتي صبغت أهم مدارسه (العقدية/السياسية/الفقهية/الصوفية) وغالب الشخصيات العلمية المرموقة، وتحديد مدى صوابيتها ومبدئيتها (توافقها مع المبادئ الإسلامية)، ثم لحظ مدى تمكنها من خطابه في إنتاج المعرفة، إنني أزعم أن مثل هذه المحاولة لجديرة بأن تعبد لنا الطريق نحو “عصر تدوين جديد”.
ذلك أن قراءة التراث بعين الرضا لا عين النقد، وحمل الكلام على أفضل المحامل لا أقربها للواقع، ومحاولة التبرير في المعارف اللاعقلية المترسخة فيه، إضافة لانعدام ثقافة الحوار والقبول بالآخر، كل هذا لن يمكننا من تفعيل ما يصلح من التراث لبناء الحاضر، والانطلاق منه إلى المستقبل.
فلا بد من قراءة ناقدة، ومحاولة لفصل الذاتي عن الموضوعي في المعرفة التي أنتجها المسلمون في فنونهم المتعددة والتي اصطلحنا على تسميتها بالتراث. ولماذا الفكرة المحفزة؟
لأن الفكرة المحفزة هي الحضور اليومي لمشاكل الإنسان وتطلعاته، إنها السياسي والثقافي والايديولوجي والاجتماعي والمالي، إنها نظرية للتأويل، والخطاب، والحياة.
للتحميل من هنا
“الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات”
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016