مقدمة
كانت روسيا ولازالت لاعبًا مهمًا في نسق العلاقات الدولية، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ورغم غيابها عن الساحة مؤقتًا، تعود اليوم كقوة فاعلة، في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بعدما أجرت مُراجعات، شاملة لـمُحددات سياستها الخارجية، واعتمدت النظرية الواقعية عبر إعطاء عامل الجيوبولتيك، أولوية كبرى، واستبدلت بعدها “الأيديولوجي” (الذي كان تابعًا لمجلس السوفييت الأعلى )، بتطبيق أيديولوجيا “دينية عقدية مرنة لمد نفوذها في الأقاليم الهشة”.
ويُطرح مؤخرًا جدل حول طبيعة الاهتمام والنفوذ الممتد لموسكو في منطقة شمال إفريقيا، وخاصة بعد اعتقاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن تدخله في سوريا، هو نتاج حلقة أولى من نجاحاته الاستراتيجية الروسية في المنطقة، فمنذ تسلمه السلطة 2000، وهو يعمل على استعادة مكانة روسيا العظمى. “وترتّب عليه وضع رؤية متكاملة تتخطى الحدود الجغرافية للشرق الأوسط، وصولًا للضفة الجنوبية للبحر المتوسط، والتي تُعد إحدى أهم مناطق التنافس مع الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية. وتُشكل منطقة شمال إفريقيا ركيزة أساسية في التوجهات الروسية، منذ أحداث الربيع العربي 2011، والذي فتح المجال أمام روسيا لإعادة التفكير والانخراط في لعبة التوازنات الدولية، والعودة مجددًا لبسط النفوذ على القارة الأفريقية، وتقليص هامش المناورة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتضييق المساحة على دول الاتحاد الأوربي.
كذلك ترى موسكو أن وضع موطئ قدم لها في مياه المتوسط، قد يُحولها لجهة فاعلة على الصعيد الإقليمي، فنجحت مؤخرًا في بسط نفوذها على ميناء طرطوس السوري، وأنشأت منطقة مُحرمة الدخول، وتسعى في الوقت الحالي للنفاذ في إفريقيا بهدف استكمال ذات الاستراتيجية، من حيث الولوج لبقية المرافئ على طول المتوسط، وتوسيع دائرة النطاق والنفوذ الجغرافي.
كما تُعد المصالح الاقتصادية إحدى أهم الدوافع التي تسعى موسكو للمنافسة عليها مع دول الاتحاد الأوربي، وتسعى للاستفراد في المنطقة لتكون المُورد الوحيد للأسلحة، واستطاعت تحقيق العديد من الإنجازات في هذا المجال، عبر تعزيز العلاقات مع مصر منذ 2013، وصولًا للجزائر المستورد الأكبر في المنطقة للسلاح الروسي، فاستطاعت موسكو منذ أول زيارة للرئيس الروسي 2006 تعزيز سير العلاقات مع شمال وجنوب إفريقيا، وحصلت على العديد من الامتيازات والاستثمارات ووقعت العديد من الصفقات في مجال الطاقة والمفاعلات النووية، والأسلحة.
إفريقيا في المنظور الروسي ( الاهتمام وأسباب العودة)
منذ القرن الثامن عشر والمنطقة الإفريقية لم تخرج من دائرة الاهتمام الروسي، في الحقبة الامبراطورية القيصرية، والسوفييتية[1]، واعتمدت حينها على عامل الأيديولوجيا كمنطلق لسياستها التوسعية في المنطقةـ واستطاعت الانتقال من القيصرية الروسية، إلى الإمبراطورية الروسية، وأصبحت من أهم القوى المؤثرة في المنطقة، إلا أنها لم تصل لحد تحقيق كامل مصالحها، على وقع اختبار عوامل القوة في الحرب الباردة، فأنهت العديد من الشراكات الثنائية مع شركائها في المنطقة، وانخفض تأثير قوتها الناعمة، بعد الانكفاء نحو الداخل، ومع انتهاء الحقبة الباردة، وتقليص دور القطبية الأحادية، عادت موسكو بمقاربة في توسعاتها الخارجية، فإلى جانب القوة الخشنة، اعتمدت على استراتيجيات ناعمة أيديولوجية، إلى جانب إنشاء علاقات اقتصادية وعسكرية تشاركية، بهدف استعادة مكانتها في النظام الدولي.
وتشغل اعتبارات الجغرافية السياسية، والمصالح الاقتصادية في المنطقة الإفريقية، أهمية كبرى في أجندات السياسة الخارجية الروسية، ولعل السبب الأهم لسرعة النفاذ الروسي في القارة الإفريقية والشرق الأوسط، خشيتها من الإقصاء والتهميش من قبل الدول الكبرى والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تسعى لتأطير نظام عالمي جديد، حيث تعتقد روسيا أن لها حق المشاركة في إنشائه، وتُشير التحولات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في السنوات العشر الأخيرة إلى تغير واضح في ملامح السياسات الدولية للمنطقة، وتعتقد موسكو أن المتغيرات الأخيرة أدت إلى تقويض نفوذها في المنطقة، وعلى رأسها ليبيا والجزائر الحليفتان السابقتان من فترة الحرب الباردة. ويعزز الرئيس بوتين اعتقاده بأن الغرب يقف وراء الاحتجاجات في المنطقة، لإحداث تغيير في النظام الحالي، من خلال إسقاط بعض الأنظمة والتي كانت على علاقة جيدة معها.
ومع تأرجح السياسات الأمريكية في زمني إدارة “بارك أوباما” والرئيس الحالي “دونالد ترامب”، ظهر نوع من الاهتمام بمنطقة شمال إفريقيا، لإجهاض ما بات يُعرف ” بحركات الإسلام السياسي، إلى جانب الاهتمام بالثروات الطبيعة والسعي لتأمين الموارد المائية والنفطية، فالإطاحة برأس الهرم لكل من “مصر وليبيا وتونس والجزائر والسودان”، باعتقاد موسكو ما كان ليكون لولا رغبة أمريكية نابعة من تصور جديد للمنطقة، لذلك تريّثت موسكو في إظهار موقفها في السنوات الأولى لحركات الاحتجاج الشعبي، ولم تتدخل في الشؤون الداخلية لمصير الدول، وتمسكت بشعار محاربة الإرهاب كغطاء للشرعية لحظة إقرارها التدخل ضمن هامش المناورة المتاح، وقد أدركت أن الاهتمام الأمريكي بالمنطقة لا يحمل رؤية متكاملة، وبالأخص في فترة الرئيس السابق ” بارك أوباما” والذي وضع ركيزة الاتفاق النووي مع إيران كأولوية، مقابل غض الطرف عن بقية الأحداث والأزمات المتصاعدة في المنطقة، ومع مجيء الرئيس دونالد ترامب لرئاسة البيت الأبيض، انتهج سياسات متضاربة مبنية على عامل الربح الاقتصادي، مستبعدًا تعزيز عوامل الاستقرار في المنطقة، بل إن موسكو ترى أن إدارة ترامب تُمارس استراتيجية إدارة الفوضى من أجل تحقيق مصالحها، الأمر الذي عكس انكفاءً أمريكيًا في بعض المناطق على حساب اهتمامها بمناطق أخرى[2].
وبناءً عليه استغل الرئيس بوتين الفراغات الأمريكية وعاد برؤية جديدة للمنطقةـ وتمسك بالبراغماتية كمُحدد رئيسي في صياغة مقاربته مع دول شمال إفريقيا، واتسمت هذه المقاربة بمواجهة الفوضى الكبرى، ومحاربة الإرهاب لمنع وصوله لمناطق النفوذ الحيوية الروسية، في بحر قزوين والبلطيق، ومنطقة البلقان، وجورجيا، وأوكرانيا وأوربا الشرقية. واعتمد عدة مرتكزات للبناء عليها، من بينها إحياء الاتفاقيات القديمة التي كانت مٌجمّدة منذ انهيار المنظومة السوفيتية، نتيجة عدم التزام الدول بسداد ديونها، واتجه نحو سياسة تصفير الديون والمشاكل معها، بُغية إنعاش العلاقات التشاركية، كليبيا والتي بلغ حجم ديونها 4،6 مليار دولار[3] .
ولعَّل سعي الكرملين إلى تعويض العقوبات المفروضة على روسيا، أحد أهم أسباب اهتمامها في توسعة نفوذها في المنطقة، كون القارة الإفريقية، تتمتع بتنوع في الموارد الطبيعية، ما جعلها محط اهتمام روسي لتعزيز مجالات التعاون في مجال الطاقة والصناعة النفطيةـ حيث تُقدر حصة إفريقيا من النفط العالمي 12% [4]. ولا يقتصر الأمر عند قطاعات الطاقة بالنسبة لروسيا إذ يُعد مجال تصدير السلاح وفتح أسواق جديدة من أولويات الواقعية الروسية في المنطقة، فهي تسعى لفرض نفسها كمصدر أساسي لتصدير السلاح للقارة الإفريقية خاصة في مصر والجزائر.
وتهدف موسكو من هذا التنويع إلى منافسة الولايات المتحدة ودول أوربا، الذين ينظرون للمنطقة بنفس الاعتبارات التي تنطلق منها روسيا، وهو ما قاد مؤخرًا إلى رفع هامش المناورة والتنافس في شمال إفريقيا، والتي تشهد الآن أزمات سياسية داخلية.
المصالح الجيوسياسية الروسية في شمال إفريقيا
بعد غياب روسي لنحو ربع قرن استقبلت الجزائر والمغرب أول زيارة من الجانب الروسي على أراضيها في 2006، وكانت هذه الزيارة نقلة نوعية في العلاقات الروسية الإفريقية[5].
واتضح من خلالها تغير ملحوظ في السياسة الروسية، المُرتكزة حاليًا على اعتبارات مصلحية، فوقّع الرئيس على سلسلة من الاتفاقيات على رأسها صفقة الأسلحة مع الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، بقيمة 7.5 مليار دولار، مقابل إلغائه ديون الجزائر البالغة 4.7 مليار دولار[6]. سبق ذلك في 2011 توصل الطرفان للإعلان عن شراكة استراتيجية، ومع توطيد العلاقات الثنائية، أصبحت الجزائر الدولة الإفريقية الأكثر استيرادًا للسلاح الروسي وأصبحت تتلقى من روسيا أكثر من 80% من معداتها، وحصلت على أسلحة متطورة روسية كنظام إلكسندر بنظام s 400 المضاد للطيران والقادرة على مواجهة الطائرات الغربية.
وفي قطاع الاقتصاد سعت روسيا إلى رفع حضورها في الجزائر، كونها ثالث أكبر مزود للغاز الطبيعي إلى أوربا، فحصلت على عقود للتنقيب عن النفط والغاز تعود لشركة “غاز بروم الروسية.
ولم يقتصر التعاون على المجال العسكري والاقتصادي، بل تعداه إلى المجال الأمني والاستخباري، من خلال تبادل المعلومات حول الجماعات الإرهابية في جميع دول شمال إفريقيا. ونتج عن كل ذلك تحول الجزائر إلى حليف فاعل مع روسيا، بشكل يُؤهلها للعب دور فاعل في قضايا المنطقة، وقد تطابقت رؤى كلا البلدين في العديد من الملفات منذ أحداث 2011، خصيصًا في المسألتين الليبية والسورية، فارتفع مؤشر التنسيق لمستويات عالية بهدف تسوية النزاعات، بما يتناسب مع طبيعة المصالح المتبادلة، تجلى في مساعي جزائرية متعددة لتسوية الأزمة الليبية، من باب الوسيط، أو داعم للقاءات الفرقاء السياسيين برعاية روسية، كما حدث في لقاءات 2017 التي جمعت مسؤولين جزائريين بنظرائهم الليبيين، كرئيس المجلس الأعلى للدولة عبد الرحمن السويحلي ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فائز السراج، وقائد قوات الجيش الليبي خليفة حفتر، بهدف التوصل لتفاهمات مشتركة تقود إلى اجتياز المرحلة الانتقالية[7] . وتكررت المحاولات الجزائرية في عامي 2018- و2019، لكنها لم ترق لأي أرضية تستطيع موسكو البناء عليها، ويعود ذلك لكثرة اللاعبين المؤثرين في المشهد الإفريقي، والأكثر فعالية من الدور الروسي كفرنسا وإيطاليا وبريطانيا.
وفي مصر تُولي موسكو اهتمامًا خاصًا، وتعتبرها بوابة العبور نحو شمال إفريقيا وجنوب الصحراء وصولًا إلى السودان، كونها تتوسط العالم العربي، وبعد غياب عن المشهد المصري منذ سبعينيات القرن الماضي، عادت العلاقات المصرية الروسية للأجواء الدافئة، عقب وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي لسدة الحكم بعد تنفيذه انقلابه على الشرعية المصرية 2013 في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي فرأى بوتين الفرصة مواتية للتقرب من الرئيس المصري، من باب التوافق على نبذ الجماعات الإسلامية ، والتي يرغب بوتين في قطع أوصالها ومنعها من التواصل مع الجماعات الإسلامية المتواجدة في شمال القوقاز، “المنطقة الحيوية للنفوذ الروسي”، في حين بدا أن بوتين اختار توقيتًا مناسبًا للدخول على الخط المصري، عبر استغلاله حالة الارتباك في العلاقات المصرية الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما والذي عمل على إيقاف معونة المساعدات العسكرية السنوية لمصر بقيمة 1.3 مليار دولار، وقبل أن يتجاوز الطرفين الخلاف، أرسل بوتين وزير خارجيته سيرغي لافروف على رأس وفد رفيع المستوى بهدف تعزيز العلاقة التشاركية، وقد نتج عن الزيارة توصل الطرفين لعقد صفقة تسليح بقيمة تزيد عن 3 مليار دولار، إلى جانب التوصل إلى توقيع اتفاق يسمح لموسكو ببناء أول محطة نووية في مصر، ومؤخرًا ووفقًا لمصادر روسية فإن قيمة الصادرات الروسية من السلاح لمصر وصلت في 2018 إلى 15 مليار دولار، في حين تم توقيع عقود جديدة لـ 2019 بلغت 20 مليار دولار من بينها عقود على طائرات ميغ 29، وسوخوي 35 بتعداد يصل إلى 100 طائرة [8] .
ومع ارتفاع وتيرة صفقات الأسلحة بين البلدين، والتي جاءت بناءّ على رغبة مصر في تنويع مصادرها العسكرية، وعدم الاعتماد على الولايات المتحدة كمصدر وحيد، أجرى الطرفان في 2017، مناورات عسكرية عُرفت باسم حماة الصداقة، وبنفس العام سمحت مصر في انتشار القوات الروسية، بأحد القواعد العسكرية، المتواجدة في المناطق المتاخمة مع الحدود الليبية، بهدف إسناد قوات الجيش الليبي في العمليات العسكرية التي يقودها ” اللواء خليفة حفتر”. كما قاد التعاون إلى استخدام الأجواء المصرية أمام الطائرات الروسية، بموجب اتفاق توصل له الطرفان في 2017. [9] .
وفي مجال التعاون الاقتصادي، فقد بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين لأكثر من 70 مليار دولار، وفقًا لتصريح وزير الخارجية “سيرغي لافروف” 2019،[10] وعلى الصعيد السياسي تتطابق وجهات النظر المصرية الروسية في بعض ملفات المنطقة، خصوصًا في الموقف الروسي من الأزمة السورية والليبية، حيث أصبح الدور المصري يدور في الفلك الروسي، بعدما دعم الأخير الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ترشحه لمنصب الرئاسة، وكان بوتين أول من استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، في 2014، وقدم له دعمًا بغية وقوف الأخير بموقف قوي على الساحة الدولية.
و عليه فإن موسكو حققت اختراقًا سياسيًا لها في مصر، على حساب تراجع الدور الأمريكي، والذي يُحاول اليوم في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إعادة العلاقات المصرية الأمريكية لسابق عهدها، فاستقبل البيت الأبيض الرئيس عبد الفتاح السيسي أكثر من مرة، وأثنى على جهوده في محاربة الإرهاب،[11] وقدم له الدعم اللوجستي والعسكري، في محاربة التنظيمات الإرهابية لشبه جزيرة سيناء، وتم إعادة تفعيل تقديم المعونة العسكرية السنوية، وكل ذلك بُغية، تحقيق توازن في القوى الدولية وعدم إعطاء موسكو مساحة أوسع لتنامي نفوذها، مع ذلك لا يمكن الجزم بأن السياسيات الأمريكية في الإدارة الحالية، قد نجحت في إحداث شرخ في العلاقات المصرية الروسية، فالتوصيف الأرجح هو عودة التنافس الأمريكي الروسي ليس فقط في الحالة المصرية، بل في عموم المنطقة المغاربية.
واستكمالًا للاستراتيجية الروسية لمنطقة شمال إفريقيا، تعمل موسكو حاليًا على محاولة بسط نفوذها في ليبيا، محاولةً تفعيل اتفاقياتها القديمة[12] منذ حكومة الرئيس الراحل مُعمر القذافي، حيث تسبب إسقاط الناتو لنظامه خسارة روسيا منطقة نفوذ أساسية لها، ومع صعود اللواء خليفة حفتر لواجهة الأحداث الليبية، وبعد محاولته استمالة الدعم الروسي في معارك شرق ليبيا، بدأت روسيا بلعب دورين، عسكريًا قدمت لحفتر دعم لوجستي وعسكري، ومستشارين، وسياسيًا حاولت أن تمارس دور الوساطة بين طرفي الصراع، والتقت أكثر من مرة، معهما في موسكو بهدف تقريب وجهات النظر للوصول لإنتاج حل سياسي بعيدًا عن الجهود الأمريكية الراعية للسلام.
وتهدف موسكو من وراء دورها في ليبيا، الحصول على بعض الامتيازات النفطية في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط، إضافة إلى سعيها وضع قدمها على مرفأ طبرق، استكمالًا لهدفها الاستراتيجي الأول بسط النفوذ في المياه الدافئة، كما لا يغيب عامل الاقتصاد في رغبتها إدخال الشركات الأجنبية على خط المنافسة الأوربية والتنقيب عن حقول النفط والغاز، إضافة إلى تحقيق هدف جيوسياسي يُعتبر مهم جدًا لروسيا، فإذا ما وصلت إلى مد نفوذها على طول الضفة الجنوبية للمتوسط، فستكون قد ضيقت الخناق على دول الاتحاد الأوربي، والذين يتخوفون دائمًا من هاجس الهجرة غير الشرعية والتي تصل 90% منها من السواحل الليبية المطلة على أوربا.[13]
وفي المغرب العربي تحسنت العلاقات الروسية المغربية منذ أول زيارة قام بها الملك محمد السادس إلى موسكو في 2016، رغبةً منه استمالة روسيا للعب دور فاعل في قضية الصحراء المتنازع عليها مع الجزائر[14]، وذلك بعد تململ الرباط من الإدارة الأمريكية في لعب دور إيجابي لصالحها، ولعل سبب اللجوء المغربي لموسكو لا يقف فقط عند لعب دور الوساطة في أزمة الصحراء، فالمغرب كما بقية الدول الإفريقية، باتت ترغب في تنويع الشراكات الاقتصادية والاستثمارية لتحقيق نوع من التوازن معها ، إضافة إلى محاولتها استدراج موسكو لصالحها في مسألة الخلاف مع جبهة البوليساريو كونها وكيلة السوفييت في الحقبة الباردة. ومقابل ذلك عملت موسكو على استغلال حالة القلق المغربي، ودخلت من باب الوساطة في قضية الصحراء، بهدف الدفع بعجلة الاقتصاد مع المغرب، بداية من صفقات التسليح، وصولًا إلى تنويع الصادرات والواردات الروسية.
و يُلاحظ من خلال الاستراتيجية الروسية، المتبعة في شمال إفريقيا، أن موسكو بدأت فعليًا من باب العلاقات التشاركية والمنفعة المتبادلة تفرض نفسها كقوة فاعلة ومؤثرة في شمال إفريقيا، سيما أن دول المنطقة ( كمصر والمغرب والجزائر وليبيا)،أصبحوا يبدون رغبتهم في التعاون مع روسيا لتحقيق نوع من التوازن السياسي مع الولايات المتحدة الأمريكية.
النتائج والتداعيات
لاشك أن روسيا تُحاول مجددًا العودة للقارة الإفريقية، وتعمل على بسط نفوذها في المياه الدافئة، لاستعادة مكانتها في النظام الإقليمي، واستنهاضًا لإرثها التاريخي في زمن السوفييت، ورغم أن تأثيرها أصبح واضحًا، عبر فرض وجود قوي في سوريا، وطرق أبواب القارة الإفريقية، إلا أن ذلك التأثير يبقى محفوفًا بالمخاطر وسط حالة عدم الاستقرار في المنطقة، فالتحولات الجارية في شمال أفريقيا، لم تنتهي بعد، وغير واضح كيف ستؤول إليه الأمور مع وجود متعدّد للدول الكبرى، والتي تُحاول جميعها بسط نفوذها في المنطقة وانتزاع مكاسب سياسية واقتصادية، وهذا ما شأنه أن يرفع حدة التأثير والتنافس بين الجميع بسبب المصالح المتداخلة وتقاطعها، ففي سوريا لا تزال روسيا في حالة عدم يقين تُهدد مناطقها الحيوية، فلم تستطع حتى الآن أن تجني مكاسبها السياسية وتنزع اعترافًا رسميًا في المناطق المتواجدة فيها، إذ لا يزال وجودها في المنظور الدولي غير شرعي، ويخضع بين الفينة والأخرى لعمليات ابتزاز، واصطدام في مواقف غربية متصلبة تؤول حتى الآن دون تثبيت نفوذها.
وفي شمال إفريقيا المشهد لا يزال متقلبًا، منذ أن أطاحت موجة التغيرات مؤسسات النظم المركزية في السودان وليبيا والجزائر ومصر، حيث يغيب عامل الاستقرار الأمني والمجتمعي للبلاد، مع وجود حالة استعصاء في إدارة الأزمات وفشل جميع الأطراف في نقلها من حالة الفوضى إلى الاستقرار. والمُراقب للنهج الروسي في المنطقة يرى أن نسبة التأثير الروسي توازي نسبة المخاطر والمآلات لمستقبلها في المنطقة وذلك لعدة اعتبارات:
_ تصاعد المخاطر الأمنية في المنطقة، يتمثل بعدم رغبة الدول الكبرى في تحقيق استقرار نوعي يفضي إلى إنهاء النزاعات، وموسكو تعمل على الاستفادة من الوضع الراهن، وتقوم ببناء شراكات عسكرية واقتصادية، دون الرغبة في حل النزاعات وتنفيذ مشاريع إصلاحية، تُعزز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما يعني أن موسكو عاجزة في نهاية المطاف عن إرساء الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
_ تصاعد المخاوف السياسية الداخلية في المنطقة، حيث إن اعتماد موسكو على مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، والاكتفاء بلعب دور الوساطة، في بعض الدول، قد لا ينهي حالة الاحتجاجات الشعبية، لذا فإن استمرارها في البلاد قد ينعكس على صناع القرار الحاليين في المنطقة، ويقود في النهاية للتأثير على مصالح موسكو في المنطقة والتي ترتبط اليوم مع الذين يتصدرون المشهد الحالي داخل المؤسسات العسكرية، التي تدعي مشاركتها الحكم مع التيارات المدنية. كذلك قد تصطدم موسكو بالموقف الإقليمي حيال إقرارها رفع التأثير كدول الاتحاد الأوربي، المتخوفة من تصاعد المخاطر الأمنية في المنطقة، والتي تسعى لتثبيت عوامل الاستقرار فيها للحد من ظواهر الهجرة غير الشرعية، إلى جانب اهتمامها في منع روسيا الضغط عليها بما يتعلق بموضوع استيرادها الغاز الطبيعي، فموسكو تُصدر لها بنحو 46% من الغاز الطبيعي، بينما إفريقيا تُصدر لأوربا ما يعادل 30% ، لذا تسعى أوربا لتنويع مصادرها وعدم الاعتماد على المصدر الروسي. ومن المُرجح أن الخط التنافسي الروسي الأوربي سيتجه نحو المزيد من التصعيد، بناءً على ما تم ذكره من تضارب المصالح، وهو ما سيبُعد أي نوايا لتعزيز عوامل الاستقرار وغياب أي أطر لإنتاج حلول سياسية، وقد ينعكس ذلك سلبًا على امتيازات موسكو في المنطقة.
خاتمة
بناءً على ما تم ذكره فإن موسكو ومن خلاله استراتيجية العودة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فهي تسعى من الناحية السياسية، إلى تحقيق سلسلة من الأهداف الجيوسياسية والاقتصادية، عبر استخدم القوة الناعمة في مسار العلاقات الدبلوماسية، ولعب دور الوساطة في محاولة إدارة النزاعات، والاستفادة منها في تنويع الأسواق الروسية الاقتصادية في المنطقة. واستطاعت إنجاز شراكات اقتصادية متنوعة مع الدول النفطية، من خلال إبرام عقود الاستثمارات على تنقيب النفط والغاز، وفي مجالات الطاقة النووية والبتروكيماوية، وتقدمت في المجال العسكري، وأبرمت العديد من الصفقات العسكرية، لجني المزيد من الأرباح واستغلالها في إنعاش الاقتصاد الروسي الداخلي. ومن الناحية الجيوسياسية تسعى للتواجد الدائم في مياه البحر المتوسط، بهدف تقييد الاتحاد الأوربي خاصة في ظل توتر العلاقات الحالية، والتي تولدت بفعل تصاعد الأزمات داخل أوربا.
ودوليًا لا يزال طموح موسكو العودة كلاعب فاعل في النظام الإقليمي، بغية استعادة الدور التاريخي لها في زمن الحقبة الباردة، بيد أن كل الإنجازات الروسية التي حققتها في السنوات الأخيرة، تبقى في صعيد هامش المناورة والتأثير مقارنة ببقية الأدوار التي تمارسها دول أوربا، كما أن الاعتقاد السائد عن استغلال روسيا لتناقض وفعالية السياسة الأمريكية في المنطقة، تبقى ركيزة أساسية في استراتيجية التوسع والنفوذ الروسي في شمال إفريقيا، ما يعني أن ظهور أي استراتيجية أمريكية متكاملة للمنطقة، من شأنه أن تحد من قدرة التأثير الروسي وتجبره على التراجع لمناطق نفوذه الأساسية، في آسيا الوسطى وأوربا الشرقية، ويبقى هذا مستبعدًا في المنظور الحالي مع تصاعد الانقسامات الحادة داخل المؤسسات الأمريكية، خصوصًا في ظل إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات © 2019
العرب، (روسيا وإعادة اكتشاف إفريقيا) ن0 بتاريخ، 14-12- 2013، شوهد بـ 18- يونيو/ تموز 2019
مرصد مينا، استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ن- بتاريخ 30-10 2018، شوهد بـ 18- يونيو/ تموز 2019
RT بالعربي، روسيا وليبا اتفقتا على تسوية مشكلة الديون بينهما، ن- بتاريخ، 17- 4 – 2008، شوهد بـ 18- يونيو/ تموز 2019
الجزيرة، إفريقيا تُعزز مكانتها في سوق النفط، ن- بتاريخ 26- 11- 2009، شوهد بـ 18 تموز/ يونيو 2019
Swi، عودة موسكو بقوة إلى شمال إفريقيا، ن0 بتاريخ، 30- ديسمبر، 2006، شوهد بـ 18- تموز/ يونيو 2019
الجزيرة، بوتين في الجزائر وصفقة بالمليارات سبقت وصوله، ن- بتاريخ 10-3- 2006، شوهد بـ، 19- يونيو/ تموز 2019
الموعد، محادثات مع مسؤولين جزائريين، ن- بتاريخ، 4-1- 2017، شوهد بـ 19- تموز/ يونيو 2019
سبوتنيك، عقود التسليح الروسي تتواصل مع مصر، شوهد بـ 19- يونيو/ تموز 2019
BBC ، روسيا تكشف عن مسودة اتفاق عسكري جوي مع مصر، ن- بتاريخ ، 3—نوفمبر، 2017، شوهد بـ 19 – يونيو/ تموز 2019
اليوم السابع، لافروف حجم التبادل التجاري بين مصر وروسيا وصل لـ 70 مليار دولار، ن – بتاريخ 6- إبريل 2019ـ شوهد بـ 19- يونيو، تموز 2019
فرانس 24، ترامب يُشيد بالعمل العظيم للسيسي في محاربة الإرهاب، ن- بتاريخ 10-4- 2019، شوهد بـ 19- يونيو/ تموز 2019
الجزيرة، بوتين في ليببا لبحث عقود التسليح والنووي مع معمر القذافي، ن- بتاريخ، 16- 4- 2008، شوهد بـ 19- يونيو/ تموز 2019
برق للسياسات والاستشارات، الأزمة الليبية وموازين الصراع الدولي في معركة طرابلس، شوهد بـ 19- يونيو/ تموز 2019
المركز الديمقراطي العربي، ازمة الصحراء المغربية وانعكاساتها على العلاقات المغربية الجزائرية، شوهد بـ 19- يونيو/ تموز 2019