إذا وضعنا في الاعتبار تاريخ الخطاب المناهض لإسرائيل من زعماء القاعدة على مدار سنوات، فلن يكون غريبًا حينها أن نجد حالة من التشكُك حيال وجود تحالف بين إسرائيل و أحد الحركات التابعة لهذا التنظيم. بل إن بعض النقاد يصرفون النظر عن هذا الطرح باعتباره تفكيراً مندرجاً ضمن سياق “نظرية المؤامرة”.
ومما لاشك فيه أن تحالفًا بين إسرائيل والقاعدة يبدو مستبعد الحدوث للوهلة الأولى. -على الرغم من أنني كتبت في مكان آخر موضحاً الأسباب التي تدفع إلى الاعتقاد بأن ذلك يحدث بالفعل-. ففي بيان عام 2002 الذي حمل عنوان “رسالة إلى أميركا”، وضع أسامة بن لادن ما وصفه “بأنكم هاجَمتُمونا في فلسطين” على رأس الأسباب التي تُبرر “قتالكم ومعارضتكم”. كما زعم “أن المواطنين الأميركيين، قد أكدوا على دعمهم للاضطهاد الذي تُمارسه إسرائيل تجاه الفلسطينيين”.
وهذه الحجة كانت لفترة طويلة جزءاً من خطاب القاعدة. ولكن في الواقع، تُظهر السجلات قدرًا ضئيلاً للغاية فيما يتعلق بالهجمات العنيفة ضد إسرائيل من هذه الحركات الطائفية المُتطرفة. فقد كانت الأهداف الرئيسية للقاعدة تتمثل إلى حدٍ بعيد في الولايات المتحدة بالإضافة إلى الأهداف المدنية والعسكرية الغربية من جهة، والأهداف المدنية المنتمية للإسلام من جهة أخرى. (وعلى وجه الخصوص، في العقد المنصرم، الهجمات الطائفية ضد الشيعة في العراق).
لماذا قد تنحاز إسرائيل والقوى الغربية الأخرى إلى هذه الحركة المتطرفة، حتى لو كان ذلك استنادًا إلى أُسس تكتيكية محدودة؟ بالتأكيد، سيؤدي أي دعم من هذا القبيل في النهاية إلى “ضربة ارتدادية” على هذه البلاد نفسها؟
ربما تكون النقطة التالية دقيقة نوعًا ما، واستناداً إلى الأدلة المتاحة، يبدو أن المُخططين في إسرائيل يعتبرون أن حلفًا مثل ذلك يُمثل مخاطرة مقبولة – وهو نفس الأمر الذي يراه نُظرائهم في الولايات المتحدة وأوروبا. ولكن ذلك لا ينفي أن ثمة وجهات نظر متعارضة في إسرائيل حيال الطريقة التي يجب التعامل بها مع الحرب الأهلية السورية، بما في ذلك الإجابة على سؤال أيًا من الأطراف والفصائل المُتعددة يجب أن ندعم؟ وكان هذا هو الجدل الدائر داخل الدوائر الإسرائيلية العسكرية والاستخباراتية والسياسية.
وفي مايو/ آيار 2013، ذكرت صحيفة التايمز اللندنية نقلًا عن مسؤول كبير مجهول الهوية بجهاز الاستخبارات الإسرائيلي، أن إسرائيل تقبل على مضض استمرار بشار الأسد في السلطة، مقارنةً برؤية الشعب السوري ينتصر: “العدو الذي نعرفه أفضل من ذاك المجهول الذي يمكن أن نتخيله إذا ما سقطت سوريا في الفوضى”. وقالت صحيفة التايمز أن التفكير الاستخباراتي الإسرائيلي يرى أن “بقاء نظام الأسد على حاله، لكن في وضعية ضعيفة، سيكون أمراً مفضلاً بالنسبة لسوريا وللمنطقة المضطربة بأكملها”.
وبعد مضي سبعة أشهر، صرح علنًا رئيس الأركان الإسرائيلي السابق دان حالوتس قائلًا “أن النظام السوري يقتل مواطنيه كل يوم، لكن يجب علينا الاعتراف بأن المعارضة في سوريا تتكون من المسلمين المتطرفين على غرار القاعدة”. ولخصت صحيفة {ذا تايمز أوف إسرائيل} موقف الحكومة بالتالي: “تأرجح المسؤولون والمحللون كثيراً منذ بدء الحرب الأهلية السورية في مارس/آذار 2011، حول ما إذا كانت إسرائيل تفضل بقاء الأسد في السلطة أم أن تُطيح به المعارضة”.
وتبدو هذه النقطة الثانية حقيقة. إذ كانت الحكومات الغربية في البداية الأمر، مقتنعة بأن تدخلهم شبه السري في سوريا دعمًا للمتمردين سيؤدي لا محالة إلى سقوط نظام الأسد. وكما كتب رئيس الموساد السابق افرايم هليفي في مجلة فورين أفيرز عام 2013 “إن إسرائيل تعتقد، كما هو الحال مع كثيرٍ من الدول، أنها مجرد مسألة وقت حتى يُطاح بالرئيس السوري من السلطة”.
وعندما ظهر بوضوح أن ذلك لن يحدث في وقتٍ قريب، شرعت هذه القوى تُغير سياستها. إذ أن استمرار الدعم العسكري الإيراني والروسي للحكومة السورية بدا أنه قد فاجأ مُؤيدي المعارضة في الغرب والخليج وتركيا وإسرائيل. ومنذ ذلك الحين، أعلن مسؤولون إسرائيليون آخرون ومسؤولون سابقون، بشكل صريح أنهم يفضلون هزيمة الأسد، أو أن يَضعُف بشكل كبير على الأقل.
بينما أشارت مزيد من التقارير الأخيرة حول التفكير الإسرائيلي، بالإضافة إلى تقارير ذات مصداقية عن شهادات مصادر على الأرض إلى أن إجماع النخبة تحول باتجاه تنسيق مشروط مع جبهة النصرة.
تتحكم جبهة النصرة في نقطة عبور رئيسية في هضبة الجولان منذ أغسطس/آب 2014، وكان الإسرائيليون يقدمون الدعم اللوجستي- وربما الأسلحة أيضًا- عبر ما يعرف بـ “خط وقف إطلاق النار” في ذلك الوقت. وبرز ما بدا أنه أول تأكيد صريح في الصحافة الإسرائيلية حول ذلك الأمر في الشهر الماضي، عندما ذكرت صحيفة إسرائيل اليوم أن الجيش قد عالج في أحد المستشفيات الميدانية الخاصة به “عضوًا من جبهة النصرة”. الأمر الأهم، هو أن هؤلاء المقاتلين أرسلوا للقتال في سوريا بعد أن اُعتُني بهم، وهو ما لا يمكن أن يحدث أبداً مع أسرى من حماس أو حزب الله.
لماذا تُقدم إسرائيل على فعل ذلك؟ هل تحولت إسرائيل فجأة إلى الوهابية؟ أم أنها انجذبت بَغْتَةً إلى نظريات أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة؟ هل يعتبرون وعود أبو محمد الجولاني قائد جبهة النصرة بعدم استخدام سوريا كقاعدة لمهاجمة الغرب، وعوداً ذات مصداقية؟
بالطبع لا. إذ أن استمرار الحرب الأهلية في سوريا لأطول وقت ممكن، هو ما يُمثل جوهر مصلحة إسرائيل بالتحديد.
“فَرِّق تَسُد” تلك هي القاعدة الإمبريالية الكلاسيكية، والتي سعت الإمبراطورية البريطانية والفرنسية لاتباعها وتنفيذها بلا هوادة في هذه المنطقة على مدار عقود، وواصلت الولايات المتحدة اتباع هذه السياسة باعتبارها القوة الإمبريالية المهيمنة حاليًا (تحديداً أثناء احتلالها المباشر للعراق). وعلى الرغم من الخلافات المهمة التي تحدُث بين الحين والآخر في العلاقة ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أن هذه الأخيرة تُمثل- من عدة أوجه- رأس الحربة بالنسبة للمصالح الإمبريالية في المنطقة.
تطور الموقف الإسرائيلي استناداً إلى هذه الرؤية، ويُمثل تقوية التحالف بين حزب الله ونظام الأسد عاملاً مهماً في هذه التطورات. وصرح مايكل أورين السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة، في مقابلة أجراها منذ عام تقريباً، أن إسرائيل تريد “أن تترك الشر السُني ينتصر” على “الشر” الأعظم، في إشارة إلى إيران ووكلائها الإقليميين. وفي حديثٍ له في سياق المذبحة التي ارتُكبت بحق الجنود العراقيين، ذهب إلى أن إسرائيل يجب أن تسمح “للدولة الإسلامية” بالانتصار. وتبريره لهذه السياسة يستند إلى أن إيران تمتلك ترسانة أسلحة أكبر. واتخذ أورين موقفاً مشابهًا في وقتٍ يرجع إلى سبتمبر/ أيلول 2013.
ولا يقف أورين وحيداً بين أوساط النخبة الإسرائيلية. إذ صرح جلعاد شارون الشهر الماضي – وهو ابن آرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، وقد دعا إسرائيل ذات مرة إلى “تسوية غزة بالأرض”- أن إسرائيل ربما تُفضل في الواقع المجموعة الإرهابية المعروفة بـ “الدولة الإسلامية”، وهي الجماعة التي تعود أصولها إلى تنظيم القاعدة في العراق، وذلك مقارنًة بنظام بشار الأسد وحلفاؤه من حزب الله وإيران.
طالما بقيت الحدود الشمالية هادئة، فإنه من مصلحة إسرائيل إلى حدٍ ما أن يبقى الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة… ولكن الآن بدأت الحدود على هضبة الجولان تتحول إلى حدود إرهابية… وسقوط نظام الأسد سيجلب الدولة الإسلامية إلى حدودنا، وهو ما يُعد مشكلة بالنسبة لإسرائيل. ولكن ذلك من شأنه أن يُمثل ضربة قاضية لحزب الله أيضًا… إلا أن الأمور لا تبدو هادئةَ الآن، وبالتالي يجب علينا التوقف عن الإيمان بقدرة الأسد على ضمان استقرار الأوضاع … من يحتاج الأسد بهذا الشكل؟. ما أقوله ليس دعوةٌ للتدخل المُباشر في الحرب الأهلية في سوريا، لكن من الجيد أن نعلم ما هو المفيد لإسرائيل.
وتتفق وجهة النظر تلك مع الهدف المُجمع عليه من واضعيِ السياسة الإسرائيلية تجاه الحرب الأهلية في سوريا الآن، ويبدو أن ذلك الهدف هو “استنزاف كِلا الطرفين حتى الموت، هذا هو التفكير الاستراتيجي” كما وضح ألون بنكاس، وهو دبلوماسي إسرائيلي سابق، في شهر سبتمبر/أيلول عام 2013.
وفي مطلع الشهر الماضي، أكد أليكس فيشمان، المراسل المخضرم المتخصص في شؤون الأمن الإسرائيلي، أن سياسة “دعهم ينزفون” كانت حينها هي “السياسة الرسمية التي أملاها وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه يعلون، على المؤسسة العسكرية بسبب الأحداث السورية”.
ربما لا ترغب إسرائيل بانتصارٍ واضحٍ للقاعدة، ولكن في هذه اللحظة، ترى إسرائيل أن دعم القاعدة في سوريا سيكون الطريق الأفضل لإطالة أمد الحرب الأهلية هناك. في النهاية، إذا كان حزب الله منشغلاً بقتال القاعدة في سوريا -كما هو الحال في جبال القلمون على الحدود مع لبنان حاليًا- فإن قدرته على قتال قوات الاحتلال الإسرائيلي ستكون محدودة. هكذا يبدو الأمر.
أو بتعبير أكثر وضوحاً: إذا كان العرب منشغلين بقتال بعضهم البعض، عندها لن يقاتل أيٌ منهم إسرائيل.
– لتحميل الملف انقر هنا
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016
“الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات