اصطدام الإمبراطوريات في السماء
من الواضح أن الملف السوري والمنطقة بشكل عام قد دخلت منعطفا جديدا وخطيرا، عند قيام تركيا بإسقاط الطائرة الحربية الروسية، حيث قامت الطائرات التركية من طراز (ف16) بإسقاط طائرة حربية روسية من طراز(سوخوي)، حيث قالت تركيا أن الطائرة اخترقت مجالها الجوي رغم التحذيرات التركية المتعددة. وعندما لم تستجب، أسقطتها الطائرات التركية. ولم يتأخر الرد الروسي الأولي، حيث صرّح بوتين أن ما حدث هو طعنة في الظهر من أعوان الإرهاب وأن الطائرة لم تدخل المجال الجوي التركي، ولم تتلقى أي تحذيرات.
رغم استبعاد المراقبين والمتابعين للحدث، أن يتم التصعيد من الجانب الروسي إلى حد أن تصل إلى حرب إقليمية، لكن موسكو اتخذت عدة إجراءات فور إسقاط الطائرة، حيث تم إلغاء زيارة كان من المفترض أن يقوم بها (لافروف) لأنقرة، وتم استدعاء الملحق العسكري التركي في موسكو للاحتجاج، وكذلك نصحت موسكو رعاياها بعدم السفر إلى تركيا، وأعلنت هيئة الأركان للقوات المسلحة التركية قطع جميع اتصالاتها العسكرية مع أنقرة. إن تصريح بوتين حول أن إسقاط الطائرة سيكون له عواقب وخيمة على العلاقات بين البلدين، يجب أن يؤخذ على محمل الجد من جميع الأطراف، وربما أنه إشارة لمزيد من التصعيد ضد تركيا.
وعليه على صوت روسيا بالتشكيك بدعم تركيا للإرهاب من خلال اتهامها تركيا بشراء النفط من داعش، الأمر الذي نفته تركيا تماما واتهمت الأسد انه هو من يشتري النفط من داعش. وتصاعدت الأحداث بعد أن أعلنت تركيا أنها لن تعتذر عن إسقاط الطائرة الروسية وأنها طبقت قواعد الاشتباك المتفق عليها، بعد انتهاك مجالها الجوي، وأنها مستعدة لتكرار ما حدث إذا تم انتهاك مجالها الجوي مرة أخرى، وكنوع من رغبة تركيا في عدم التصعيد، صرّحت بأنها ما كانت ستسقط الطائرة لو كانت تعلم أنها روسيا. وربما ما استفز روسيا أن أنقرة تواصلت فور حدوث هذه الحادثة مع حلفائها في الناتو، كنوع من بداية حشد عسكري، ولم تتصل القيادة التركية مع القيادة الروسية لتوضيح ملابسات هذه الحادثة.
ورغم أجواء التصعيد البادية في أفق هذه الأزمة، إلا انه هناك مصالح مشتركة في عدة مجالات بين الدولتين لا يمكن التغاضي عنها، فهناك اتفاقيات تجارية وقعها إرودغان في زيارته إلى موسكو الشهر الماضي، ترتفع لأكثر من 30 مليار دولار سنويا، عدا عن مردود السياحة، بالذات من جانب روسيا إلى تركيا. وكذلك مشروع نقل الغاز الروسي عبر تركيا، والذي ستستفيد منه تركيا بشكل أساسي، ولكن الباحث في جذور هذا التوتر بين البلدين، يجده ليس وليد هذه الحادثة، حيث صرّح بوتين في تركيا خلال قمة العشرين الشهر الماضي، أن من بين هذه الدول هناك من يدعم الإرهاب، وكأنه يلمّح للسعودية وتركيا. وهذا يؤكد ما ذهبت إليه صحيفة(البرافدا) الروسية حيث نشرت أن بوتين مليء بالحقد على قطر والسعودية وتركيا الذين أسمتهم (المثلث الذي يرعى الإرهاب)، وربما هذا التوتر قديم بقدم الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية جرّاء التنافس التاريخي بينهما. أما حديثا أيضا، فقد كان ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية سببا في امتعاض تركيا حيث أن القرم موطن التتار المسلمين والذين تربطهم بتركيا علاقات جيدة. وكذلك لم تنظر تركيا بعين الرضى للتدخل الروسي في جورجيا القريبة منها، وربما يكون أكثر الملفات سخونة بينهما هو إصرار تركيا على رحيل الأسد ودعمها للمعارضة المسلحة المعتدلة، في الوقت الذي لا تعترف فيه روسيا بوجود معارضة مسلّحة معتدلة. وهذا ما يفسّر قلق تركيا من التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا واعتبرته مساعدة نوعية لنظام الأسد المتهالك.
رغم انه من المستبعد أن ترد روسيا على إسقاط طائرتها بشكل عسكري، على الأقل في الوقت الحاضر، ولكن يبدو أنها لديها بعض الملفات التي تستطيع أن توجع تركيا من خلالها. وربما يكون الملف الأول والذي باشرت بتنفيذه موسكو سريعا، هو القصف المستمر لجبال التركمان الذين تعتبرهم تركيا امتدادا اثنيا وحضاريا لها، حيث احتجت انقره على قصف روسيا لهذه المناطق، قبل حدوث أزمة الطائرة. هذا القصف الذي تكثّف بعد إسقاط الطائرة. وكذلك قامت روسيا بقصف معامل تكرير النفط لدى داعش وأسطول نقله، حيث اتهمت موسكو أنقرة بأنها تشتري نفط داعش الأمر الذي نفته تركيا تماما. وبات من الواضح أن مشروع تركيا لإقامة منطقة حظر طيران على جزء من حدودها مع سوريا قد يؤجل إلى وقت غير محدد، مالم يكن تم إجهاضه أصلا من قبل روسيا. ومن الملفات الخطيرة والحساسة لدى أنقرة والتي تتخوف من أن تتحرك روسيا من خلالها لقصد إيذاء تركيا، هو ملف الأكراد، سواء عن طريق تسليح أكراد سوريا ودعمهم سياسيا عن طريق الإسراع في فتح الممثلية الكردية السورية لدى موسكو، أو دعمهم استخباراتيا ولوجستيا، وربما أكثر من تشجيع أكراد سوريا للحصول على ما بعد الحكم الذاتي، ربما وصولا للمطالبة حتى بالاستقلال، مما يهدد الأمن التركي بشكل مباشر ، حيث لن يتوانى أكراد تركيا في حال دعم روسيا لهم بالتسليح أو غيره إلى إثارة القلاقل لتركيا وتصعيد الأعمال العسكرية ضد أنقر، وصولا إلى المزيد من المطالبات السياسية، والإنهاك الاقتصادي للدولة التركية، مما يؤثر سلبا على أردوغان وحزبه.
ويبقى السؤال المعلق: من المستفيد من حدوث هذه الأزمة؟، هناك عدة أطراف مستفيدة قد يكون منها الولايات المتحدة ذاتها في ظل تراجع سيطرتها في أماكن كثيرة من العالم وبالذات في الشرق الأوسط، حيث أن هناك أطراف وأجنحة داخل الإدارة الأمريكية لا تنظر بعين الطمأنينة لأروغان وحزبه واتجاهاته الإسلامية، وتسعى لإضعافه، إن لم يكن لإقصائه عن المشهد في تركيا. وهناك من يشكك بالتزام الناتو بتقديم الدعم الكافي لتركيا في حال نشب صراع مسلح بينها وبين روسيا. وهناك النظام السوري، حيث أن هذه الأزمة تصب في مصلحة النظام السوري، حيث سيزداد الدعم الروسي للأسد على كل المستويات وبالذات في محادثات فيينا المستمرة منذ مدة، ويصب في مصلحة الأسد ذاته، حيث يحلم أن تطول مدة بقائه في سدة الحكم على ما تبقى من الدولة السورية، أو تأجيل موضوع البحث في رحيله، حالماً أنه سيستطيع القضاء على الثورة السورية بمساعدة حلفائه وبالذات موسكو.
وهناك من المستفيدين أيضا إسرائيل التي لا تشعر بالرضى التام عن وجود أردوغان وحزبه واتجاهاته الإسلامية وتصريحاته عن دعم القضية الفلسطينية وحديثه عن الأخوة الإسلامية، وخشونة حديثه عن إسرائيل أحيانا. وأي ضرر يصيب أردوغان وحزبه سيشعر إسرائيل بالرضى، كذلك لا تمانع أن تتضرر روسيا من جراء هذه الأزمة، حيث تعتبرها إسرائيل حليفا لإيران التي تدعم حزب الله أيضا، كذلك تتخوف من تصريحات طهران المعادية لإسرائيل.
ولا يبدو أن إيران بعيدة عن الحدث، وإن كانت تراقب دون أن تصرح، حيث طالما اعتبرت إيران أن تركيا هي مزاحمها الحضاري والعسكري في المنطقة. وربما عدوها الطائفي، وأي ضرر يحدث لأردوغان وحزبه وربما لتركيا قد تعتبره إيران في مصلحتها بشكل أو بآخر. وقد تعتبره يفكك التحالف المناهض لحليفها الأسد، هذا التحالف الذي عماده تركيا-السعودية-قطر.
وهناك (السيسي) ونظامه في مصر، الذي من مصلحته أن ينتقم من تركيا أردوغان التي اعتبرت استيلائه على السلطة انقلابا، ودعمت الإخوان في مصر، ومازالت تفعل. كذلك من مصلحة الأكراد في سوريا وتركيا تضرر أردوغان ربما لاعتبار البعض منهم تركيا بذاتها عدوهم، وإذا ما ضعفت تركيا، سيترك المجال لهم للتحرك والمزيد من المطالبات فيما يعتبرونها حقوقهم. وربما يكون من مصلحة كل من أردوغان وبوتين حصول هذه الأزمة لمحاولة كل طرف تكريس نفسه زعيما وصاحب مشروع بناء إمبراطورية، وتهميش الأصوات المعارضة لكل منهما.
ويبقى أن نتساءل: هل فعلا الإدارة الروسية مقتنعة أن طائرتها لم تدخل الأجواء التركية، وهل فعلا تركيا كانت سوف تتصرف بشكل آخر لو عرفت أن الطائرة روسية؟ هل موسكو مستعدة للذهاب إلى مزيد من التصعيد، كرد على الغرب الذي يحاصرها اقتصاديا بعد احتلالها لشبه جزيرة القرم؟، وهل اردوغان مستعد للتضحية بسنوات من التنمية لاختبار تقبّل المنطقة لتركيا جديدة أقوى وليست وريثة إمبراطورية فقط، بل مشروع إمبراطورية في المنطقة؟ وهل فعلا أوباما وإدارته والناتو مستعدين لدعم تركيا تماما ولأبعد الحدود في حال تم التصعيد من الجانب الروسي؟ وهل فعلا المنطقة والعالم تحتمل أزمة بهذا الحجم إن تم تصعيدها، دون حدوث حرب عالمية جديدة، تمحي كل الحدود وترسم حدودا جديدة للكارثة؟!
للتحميل من هنا
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016