إعلان النصرة فك ارتباطها، هل تكون الورقة الرابحة في الوقت بدل الضائع؟!
جاء الإعلان المتأخر عن فكّ الارتباط في وقت حرج، فهو يأتي متزامناً مع إطباق قوات النّظام حصارها على مدينة حلب، المعقل الرمزي الأهم للفصائل الثورية في الشمال السوري، ومع تدشين اتّفاق بين الولايات المتحدة وروسيا لاستهداف تنظيم الدولة وجبهة النصرة، على اعتبار أنّ النصرة مصنفة كإرهابية وفق قرار أممي.
ورغم المطالبات الكثيرة للفعاليات الثورية لجبهة النصرة بفك ارتباطها بالقاعدة منذ نيسان 2013 (حينما أعلن الجولاني بيعته للظواهري)، إلا أنّ الخطوة تأخرت كل هذا الزّمن، حيث احتاجت النّصرة لغطاء القاعدة لإثبات شرعيتها بعد الانفصال عن تنظيم الدولة، في نفس الوقت الذي احتاج تنظيم القاعدة لفرع قوي يحسن صورته بعد أن سحب تنظيم الدولة بساط النفوذ من تحته بخاصة بعد إعلان الخلافة. وبعيداً عن العاطفية والمواقف المسبقة، لا بدّ من وقفة متأنية لفهم أسباب هذه الخطوة ومآلاتها المتوقعة.
الوضع العسكري – السياسي الحرج:
عانت جبهة النّصرة من خلل واضح في الفعالية العسكرية مؤخراً، وهو أمر ليس مختصاً بجبهة النصرة وحدها، بل يشمل مختلف فصائل المعارضة السورية، وذلك نتيجة لاختلال التوازن العسكري الكبير الذي حصل بعد التّدخل الروسي، حيث تقدمت قوات النظام بشكل مطّرد في مناطق الساحل وحلب مدعومة بالطيران الروسي، وفي أثناء انعقاد مفاوضات جنيف بين المعارضة والنظام، دعم الطيران الروسي قوات النظام في تقدمها لإقامة ممر آمن لها باتجاه بلدتي نبل والزهراء ذات الغالبية الشيعية في شباط الماضي، في الوقت الذي تناقلت فيه وسائل التّواصل الاجتماعي صور أرتال جبهة النصرة وهي تتّجه من محافظة ادلب إلى محافظة حلب لمواجهة قوات النظام المتقدمة، وتواردت الأنباء وقتها عن تنفيذ النّصرة لعمليات استشهادية ضدّ قوات النظام، ولكنها لم تسفر عن تغييرات في الموقف العسكري، واستطاعت قوات النّظام تأمين ممرها باتجاه نبل والزهراء، بل ومحاولة توسيعه باتجاه الجنوب، ورغم حرص الإعلام الاجتماعي الموالي للنصرة على إظهارها دائماً على أنّها “بيضة القبان” في الحراك العسكري، إلا أنّ اختلال التوازن الحاصل جرّاء التدخل الروسي بشكل فاعل حال دون ذلك.
ولعلّ ممّا يؤكّد محورية الغطاء الجوي الروسي في إحداث اختلال التوازن، أن رأينا فاعلية عسكرية جيدة للنصرة وفصائل المعارضة في ريف حلب الجنوبي، حيث استطاعوا ردّ المليشيات الشيعية التي تحاول التقدم باتجاه بلدات الفوعة كفريا وسط التقارير التي تُرجّح عدم وجود كثافة للطيران الروسي، حيث تفترق هنا الأولويات الروسية عن المصالح الإيرانية التي تريد الوصول إلى كفريا والفوعة ذوات الغالبية الشيعية.
ونتيجة لانسحاب وفد المعارضة عقب استياءه من الطّرح الأممي الذي جاء على لسان ديمستورا، والذي تضمّن أن تضع المعارضة نائبين لبشار الأسد للمشاركة معه في الحكم، أراد الروس معاقبة المعارضة وكسر إرادتها، فكثّف الطيران الروسي دعمه لقوات النّظام، لتصل بعد استبسال مقاومة المعارضة إلى إطباق الحصار على مدينة حلب، بهدف تركيع المعارضة الرافضة للمشاركة مع الأسد في السلطة، وفي أثناء ذلك أيضاً، حاولت وسائل إعلامية إظهار جبهة النصرة بدور المخلص الذي استطاع ابعاد قوات النظام عن طريق الكاستيلو (طريق امداد حلب)، ولكنّ جبهة النصرة انسحبت لاحقاً، ولم تتغير الموازين العسكرية التي انتهت بفرض الحصار المطبق على مدينة حلب.
وفي ذات الوقت، بدت ملامح اتفاق بين روسيا والولايات المتحدة على استهداف جبهة النصرة بالغارات الجوية، بعد أن كانت الولايات المتحدة رافضة لمثل الاتفاق، حيث كان الروس يطالبون أمريكا باستخدام نفوذها لدى فصائل المعارضة “المعتدلة” التي تدّعي وجودها لتفصل مناطقها عن جبهة النصرة.
وبناء على ذلك، بدا أنّ قيادة النصرة اقتنعت بأنّ الأضرار الناجمة عن الانتماء الصريح للقاعدة أكبر من أي مكاسب ممكنة، وخاصة بأنّ الاستهداف الأمريكي الروسي المشترك، قد يُحرّض الحاضنة الشعبية على النصرة، باعتبار انتمائها للقاعدة هو الذّريعة التي يتم تنفيذ الغارات تحت غطائها، وهو ما أشار له الجولاني في خطاب فك الارتباط.
المآلات المتوقعة للخطوة:
ساهمت عدّة عوامل في إضعاف الفاعلية المرجوة من عملية فكّ الارتباط لدرجة قد تصل إلى تفريغها من محتواها، ومن ذلك، التأخر الطويل فيها، إضافة إلى ما رافق عملية إعلان فكّ الارتباط من دلائل تشير إلى استمراره الرمزي غير المعلن ( خاصّة وأنّ الارتباط أصلاً لم يكن تنظيمياً بقدر ما كان رمزياً) ، فقد سبق عملية إعلان فك الارتباط، تسجيل صوتي منسوب لنائب الظواهري، يعطي فيها النصرة حرية انعتاقها من تنظيم القاعدة، الأمر الذي جعل الجولاني يشكر قيادة القاعدة عليه، علاوة على ذلك، ظهر الجولاني بلباس مشابه لزعيم القاعدة أسامة بن لادن، الأمر الذي يشير بشكل واضح لتنسيق مباشر مع القاعدة في هذا الانفصال.
المبادئ الأساسية للتنظيم الجديد (فتح الشام) لم تشر إلى نطاق عمله ضمن الحدود السورية، بل كان من الملاحظ الحديث عن صيغ عمومية فضفاضة، ممّا يُرجّح بقاء التنظيم الجديد (جبهة فتح الشام) كحركة سلفية جهادية تلتزم ادبيات القاعدة، والتي من ضمنها عدم الاعتراف بالحدود القطرية ( وسورية بحدودها المعروفة)، مع ما تشير إليه تسمية الشّام في التسمية الجديدة، وهو ما يبدو متّسقاً مع مفردات هذا التيار، وإطلاقات الظواهري نفسه عن “حكومة إسلامية في الشّام”.
وبالتّالي، قد يشابه التنظيم الجديد في شكله وفكره لتنظيم جند الأقصى مثلاً، وهو التنظيم الذي انشقّ من تنظيمي الدولة والنصرة في وقت واحد، ورغم أنّه لم يعلن بيعة معلنة لأي طرف، إلا أنّ شرعييه يصفون الظواهري مثلاً بشيخ المجاهدين، كما أنّه لا يعترف بالحدود السورية، ولا يمتلك رؤية محددة حول مستقبل العمل العسكري، سوى الكلام العمومي عن الجهاد وتحكيم الشريعة.
وفق هذا التصور، لا يبدو أنّ التنظيم الجديد (فتح الشام) يمتلك المرونة للتعامل مع مستلزمات الحرب السورية المفتوحة عسكرياً وسياسياً، وهذا أيضاً ممّا يضعف تأثير الخطوة الأخيرة، والتي يمكن أن تكون مؤثرة وفاعلة إذا تمّ اتباعها بخطوات سريعة وواضحة في التّعامل مع الفصائل الثورية الأخرى، وفي مجال تقديم رؤية سياسية قابلة للحياة حول سورية.
وقياساً على سلوك حركة ثورية متأثرة بالفكر السلفي الجهادي، كحركة أحرار الشام الإسلامية، نجد أنّه ورغم تقدم خطاب الحركة الواضح مؤخراً مقارنة بخطاب الحركات السلفية الجهادية، إلا أنّه ما زال مضطرباً، ومحلّ أخذ وجذب وصراع بين أطياف الحركة، رغم جرأة مؤسسيها وقادتها في المضي نحو خطاب إسلامي وطني، وحتّى الآن لا تملك الحركة رؤية واضحة لمستقبل سورية، ولروابط العيش والعقد السياسي الاجتماعي بين السوريين، الأمر الذي يعني أنّ أمام (فتح الشام) تحديات أكبر لتصل إلى ما وصلت إليه حركة أحرار الشام.
ولعل من الجدير ذكره في هذا السياق، أنّ الشيخ مصطفى السباعي، وبدعم من باقي علماء الشام في زمانه قد أقرّ مبدأ المواطنة في الدستور السوري الذي شارك في صياغته في 1950، والشيخ السباعي يعدّ من الاخوان المسلمين الذي يعتبرهم الشيخ عبد الله عزام (الجماعة الإسلامية الأم)، والتي يعرف عنها تبنيها لمفهوم المواطنة، وفي ذات الوقت، يمتدح مؤسس تنظيم القاعدة (أسامة بن لادن) عبد الله عزام ونهجه بشكل عام، ولكنّ خلافه السياسي مع الحكومة السعودية أدّى به إلى التقارب مع الظواهري وفكره المختلف عن فكر عزّام.
أمّا على صعيد التعامل مع الفصائل الأخرى، فهناك العديد من فصائل الجيش الحر التي اشتكت بغي واعتداءات النصرة عليها، وهي لا تزال تطالبها بما وضعته (فتح الشام) أسمى غاياتها (تحكيم الشريعة) من خلال الخضوع لمحكمة شرعية، الأمر الذي تجاهلته النصرة حتى الآن، وهو يمثل تحدياً كبيراً أمام فتح الشام وحاضنتها وجمهورها الإسلامي، والذين يتساءل الكثيرون منهم عن سبب رفض جماعة ترفع شعار تحكيم الشريعة للخضوع لمحكمة شرعية مع خصومها.
مع ذلك، لا شكّ بوجود بعض المكاسب السياسية والإعلامية التكتيكية، والتي يمكن أن تستفيد منها المعارضة ووفدها التفاوضي من الاحتجاج بعدم وجود القاعدة بين صفوفها، والتي يمكن أن تستغلها الدول الداعمة للمعارضة لضخ دعم يُمكّن المعارضة من إعادة التّوازن إلى المشهد العسكري.
والخلاصة، لا شكّ بأنّ هذه الخطوة هي في الاتجاه الصحيح، ولكنّها تحتاج إلى اتباعها بخطوات كثيرة في مجالات العلاقات مع الفصائل الأخرى، وتطوير الرؤية السياسية، لتصبح حقيقة نقلة نوعية محورية رابحة في الوقت الحرج.
للتحميل من هنا
“الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات “