إرث هرتزل الصهيوني لا يزال يُشعل صراعات
نشأت الحركة الصهيونية نتيجة لتجارب اجتماعية وسياسية واقتصادية مُحددة مرِّ بها اليهود في العالم الغربي، خاصة في أوروبا، وترتبط هذه التجارب بمعاداة السامية والقضاء على اليهود على مستويين وهما السياسات والخطاب، منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. لم تكن هناك علاقة بين كل هذا العداء تجاه الشعب اليهودي وفلسطين أو حتى العالم الإسلامي بشكل عام. ومع ذلك، تحمل هذا الجزء من العالم عواقب هذا العداء. وقد اعترف ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية في كتابه الشهير “الدولة اليهودية” عام 1896، بأنَّ الحل لما أسموه “المسألة اليهودية” ينبغي تسويته خارج أوروبا. وعلاوة على ذلك، سلم هرتزل بأنّ حل هذه المسألة لن يكون ممكناً إلا من خلال إطارٍ دوليٍ. ويبدو القول بأنَّ هرتزل والصهيونية قد نجحا في حل المسألة اليهودية داخب أوروبا صحيحاً، إلا أن الحركة انحرفت عن أهدافها وأثارت مسألة يهودية جديدة في العالم الإسلامي، وفي فلسطين على وجه التحديد.
وبمجرد اتخاذ قرار الهجرة الجماعية إلى الأراضي المقدسة، دعا هرتزل إلى عدم التمييز العنصري والمساواة الكاملة بين العرب الفلسطينيين والشعب اليهودي في كتابه “أرض قديمة جديدة” في عام 1902، بل كرس فصلين من كتابه لانتقاد التعصب اليهودي ضد الفلسطينيين وأصرِّ على دحض الفكرة القائلة بأنَّ حق العيش في فلسطين هو حكر على اليهود فقط.
وفي الوقت الراهن، تُعد الصهيونية هي المتسببة والمسؤولة عن الصراع في فلسطين، فلم يكن هذا الصراع قائماً قبل تأسيس الحركة الصهيونية في عام 1897. وبشكل أكثر تحديداً، فإنَّ إنشاء الحركة الصهيونية في العالم الغربي ونتائج أنشطتها شبه العسكرية في فلسطين، هو السبب الرئيس لاندلاع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. حيث مهدت المنظمات الإرهابية العسكرية اليهودية مثل الهاجاناه والأرجون وشتيرن، الطريق نحو إقامة دولة إسرائيل في فلسطين. وقد ارتكبت هذه المنظمات الإرهابية أعمالاً إجرامياً مثل التخريب والقتل الجماعي ونفذت هجمات على المطارات والسكك الحديدية والبنية التحتية المدنية، كما تسببت بالنكبة، التي مثلت هجرة جماعية للشعب الفلسطيني خارج وطنه. أُدمجت هذه المنظمات الإرهابية وقادتها في دولة إسرائيل أثناء إنشائها. فمنظمة الهاجاناه أصبحت فيما بعد لُب ما يُعرف ب “جيش الدفاع الإسرائيلي”. ولم تكن هذه الأنشطة الإرهابية موجهة ضد الشعب الفلسطيني فحسب، بل أيضاً ضد الانتداب البريطاني في فلسطين. فعلى سبيل المثال، كان تفجير فندق الملك داود بالقدس في عام 1946 أحد أقدم الهجمات الإرهابية الكبرى في التاريخ الحديث للشرق الأوسط.
واستناداً إلى ما سبق، ثمة حاجة ابتداءً إلى النظر إلى الصهيونية ومؤسساتها بوصفها عنصرية، بل وحركة إرهابية، حتى يسهُل تعبئة الرأي العام ضدها، ما يُساعد في نهاية الأمر على تفكيك الحركة. فإيجاد حلٍ لهذا الصراع يجب أن يبدأ أصلاً بالسؤال عن كيفية تفكيك الصهيونية. وبلا أدنى شك، فإن الدعوة إلى تفكيك الصهيونية يجب ألا تُفهم باعتبارها معادات للسامية أو لليهودية. وعلى العكس من ذلك، كانت فلسطين والعالم الإسلامي دائماً من أكثر الأماكن أماناً بالنسبة للشعب اليهودي وهو ما يتعارض مع الاضطهاد الذي تعرضوا له في الغرب. وعلاوة على ذلك، كانت فلسطين -تاريخياً- نموذجاً رائعاً للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود.
وإذا تساءل المرء الآن من أين تبدأ هذه العملية، فإنَّ هذه هي النقطة التي يجب على الباحثين ووسائل الإعلام والناشطين التفكير بها بشكلٍ فعالٍ إزاء الصراع في فلسطين. فمن ناحية، يبدو من الضروري مواجهة الأيديولوجية الصهيونية على جميع المستويات بوصفها أيديولوجية عنصرية إثنيًا ودينيًا وتخلق تمييزاً واضحاً ضد الفلسطينيين. فعلى سبيل المثال، لا يُسمح لي بزيارة القدس، رُغم كوني فلسطيني ذا جذور عائلية هناك، في حين لا يحق ليهودي إثيوبي ولد في إثيوبيا زيارة المدينة فحسب، بل العيش فيها أيضاً. ومن ناحية أخرى، فمن الأهمية بمكان مواجهة المؤسسات السياسية والمالية التابعة للصهيونية نظراً لدورها في دعم المشروع الصهيوني وأيديولوجيته.
في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1975، سعى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 لمواجهة العنصرية الصهيونية. وجاء في هذا القرار أن “الصهيونية تُمثل شكلًا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، وأدان القرار الحركة واعتبرها تهديداً للسلم والأمن العالميين. كما دعا جميع الدول إلى معارضة الصهيونية. ومع ذلك، وضعت إسرائيل مسألة إلغاء هذا القرار شرطاً مسبقاً للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام، وبالتالي أُلغي في عام 1991. وفي الواقع، فإن إلغاء القرار رقم 3379 حينها يعكس تدهوراً أخلاقياً على المستوى الدولي، خصوصا في ظل عدم تراجع العنصرية الصهيونية والتمييز العنصري عن الممارسات الإرهابية والاضطهاد.
ولن يؤدي تفكيك الصهيونية إلى حل الصراع في فلسطين فحسب، حيث يجب أن ينتهي الاستعمار الصهيوني، بل سيسمح أيضاً للشعب الفلسطيني باستعادة حقوقه الإنسانية الأساسية، مثل حقه في العودة وحقه في التنقل دون أن يعترض طريقه مئات من نقاط التفتيش في كل مكان داخل مدنهم وقراهم وبين بعضها البعض، وحسم قضية حق تقرير المصير الفلسطيني.
إنَّ أحداثاً مثل الحروب العدوانية الثلاث السابقة خلال السنوات العشر الماضية بقطاع غزة والتي خلفت آلاف الضحايا الفلسطينيين، بل وحتى اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، يجب أن تعيدنا إلى التركيز على القضية الأصلية للاحتلال غير الشرعي لفلسطين، ألا وهي الحركة الصهيونية. لذلك، ينبغي ألا يقتصر الجهد الجماعي لتفكيك الصهيونية على مستوى الأفراد والمنظمات الحكومية وغير الحكومية الخاصة بالشعب الفلسطيني فحسب، بل هو عبء يعود على عاتق العالم بأسره، لأنه يظل جوهرياً مسؤولية إنسانية وأخلاقية ومسألة عدالة وسلام.
نُشرت المقال الأصلي بالإنجليزية في صحيفة ديلي صباح التركية.
رابط النص الأصلي: اضغط هنا.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية “
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية © 2018