المتابع لتطور الأحداث في سوريا منذ وصول الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لإدارة البيت الأبيض في 20/1/2017 يلحظ أن تحولاً قد طرأ على الاستراتيجية الأمريكية في الملف السوري.
إذ أن تغيراً بدا واضحاً بالانتقال من حالة ستاتيكية جامدة إلى ديناميكية متحركة في شكل تطوير البرامج والأساليب مع ثبات في الأهداف.
فيما يهمنا من هذه الورقة تتبّع صيرورة التغير لسياسية ترامب السورية ومدى تقاطعها مع سياسية موسكو في سوريا العلاقات بين روسيا وأمريكا في الملف السوري دخلت منعطفاً جديداً مغايراً للمناخ الهادئ الذي شهدناه إبان فترة الرئيس السابق أوباما، فبعد صفقة الكيماوي في آب أغسطس 2013 بوساطة روسية انتهج أوباما سياسية الاستدارة للخلف أمام ملفات الشرق الأوسط وانتهج سياسية النأي بالنفس واحتواء وإدارة المشكلات كأسلوب أبدع به، مكتفياً بالإرث الشخصي بإنتاج صفقة الاتفاق النووي مع إيران 2015.
بوتين لم ينسَ طموحه بتحقيق عودة قوية لروسيا عبر بوابة الشرق الأوسط فمنذ استلامه الحكم في 2000 وهو يعمل على عرقلة السياسيات الأمريكية، مستغلاً بشكل كبير فراغ الإدارة الأمريكية بمرحلتها الانتقالية، ونجح بوتين بشكل كبير في وضع موضع قدم في المياه الدافئة في البحر المتوسط واستثمر في سوريا على مدى ست سنوات من عمر الصراع مشاريع كبيرة في مجال الطاقة والغاز في الساحل السوري، وعزز قواعد عسكرية في طرطوس وحميميم وتدمر، وامتلك زمام القرار السوري، نيابةً عن رأس النظام في دمشق.
الاستراتيجية الروسية الأمريكية الأخيرة في الملف السوري:
الأحداث المتسارعة في سوريا خيم عليها توتر وتصعيد جدلي عقب وصول الرئيس الشرعي دونالد ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض نهاية العام المنصرم 2016.
وهو أمر طبيعي متعارف عليه في العلاقات الدولية بين الدول أن تُراجع وتقيم مستقبل العلاقات المشتركة والمصالح السياسية والاقتصادية مع دولة تتحكم بالعالم كالولايات المتحدة الأمريكية.
في خضم العلاقات بين روسيا وأمريكا لا تزال العديد من القضايا والملفات عالقة بين الدولتين، فحتى الآن لم تتبلور اتفاقيات واضحة بما يتعلق بمشكلة الدرع الصاروخي وأوكرانيا والقوقاز وملفات أخرى متعلقة بالاقتصاد ومشاريع الطاقة وجميع هذه القضايا تناقش من بوابة سوريا.
تبقى هذه المسائل الخلافية محض اهتمام إلى جانب الملف السوري وليست بمعزل عنه، فقد أدى تداخل المصالح وتقاطعها إلى تحول الصراع في سوريا إلى صراع دولي.
كل الأطراف تسعى جاهدةً إلى ترتيب وضع جديد لها بعد إدراكها أن ثمة نظام عالمي جديد قيد التحضير، تسعى أمريكا وإسرائيل لفرضه من بوابة الشرق الأوسط.
على مدار ست سنوات من الصراع الإقليمي في سوريا يبقى اللاعبان الروسي والأمريكي هما الأبرز في الساحة السورية، لذا فإن كل المحاولات للحل السياسي السوري عبر عقد سلسلة جولات من جنيف 1/ 2012 إلى جنيف 5/ 2017 لم تؤت أُكلها لعدم نضوج تفاهمات في المصالح المتداخلة والمشتركة في سوريا، كما أنّ تعدد الأطراف المنخرطة في سوريا زاد من تعقد المشهد الحالي، والصعوبة الآن تكمن حول كيفية الوصول إلى تفاهم دولي لحل سياسي يفضي إلى تحقيق توازن في قسمة سوريا إلى مناطق نفوذ ووضعها تحت وصاية دولية.
ترسخ في أذهان الدولتين قناعة مفادها أن لا حل عسكري في سوريا، ولا مواجهة مباشرة ولا سبيل للخلاص من الواقع المعقد إلا بتعاون مشترك، وقد نجحت روسيا في تكريس هذه النتيجة من خلال عقد عدة جولات من أستانة واحد واثنين وثلاثة وانتزعت من بعض الفصائل اعترافاً بذلك.
أمريكا وروسيا احتدام الصراع في سوريا:
ثمة غموض كبير حول الاستراتيجية الجديدة لإدارة ترامب في الملف السوري فما ظهر من تصريحات للبيت الأبيض على مدى شهرين ماضيين يشير أنه إلى الآن لا تمتلك إدارة ترامب استراتيجية واضحة للملف السوري، فيما نكتفي هنا بتسليط الضوء على ما نتج من ردة فعل ترامب في السابع من نيسان 2017، التي كانت مؤشر أولي لتبيان الاستراتيجية الأمريكية تجاه سوريا.
أسهمت الضربة الأمريكية على قاعدة الشعيرات في ريف حمص الشرقي فرصةً ذهبية للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في أن يقوم بعملية تقيم شاملة لسياسته الداخلية والخارجية لإعادة ترتيب الأوراق وربما حسمها في سوريا بما يتناسب مع المصلحة الأمريكية -الإسرائيلية.
رسائل بالجملة أوصلها ترامب لروسيا ولعل أبرزها عدم التزامها بدور الضامن والوسيط لنزع الأسلحة الكيماوية من يد الأسد في اتفاقية 2013، وبعد مباركة إسرائيلية للغارة الأمريكية اتضح جلياً أنه لا بد من معاقبة الأسد لعدم تكراره استخدام السلاح المحرم دولياً، مع الأخذ هنا بعين الاعتبار أن التحرك الأمريكي لم يكن نابعاً من تأثُر ترامب بصور أطفال خان شيخون كما روج لها الإعلام الغربي، فالسوريون يقتلون منذ ست سنوات وبمختلف أنواع الأسلحة دون أن يُحرك ذلك مشاعر أمريكا، فمن الواضح أن سبب التحرك هو بسبب اكتشاف واشطن الخديعة بصفقة الكيماوي في عدم تسليم النظام كامل مخزونه من الأسلحة الكيماوية.
تسارعت الأحداث بعد ترجمة السلوك الأمريكي وتحشدت دول المعسكر الغربي، ودول أوربا للضغط على روسيا للتخلي عن الأسد، فيما بدت روسيا بوضع حرج بعد فشلها بفبركة مجزرة الكيماوي، فتعددت روايتها حول السبب والمسبب وتناقضت بنفس الوقت مع سيناريوهات النظام، وعلى الرغم من كل الدلائل التي أثبتت ضلوع روسيا بالمجزرة من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية ولجان التحقيق الكيماوي البريطانية وتركيا وفرنسا، أصر بوتين على مواقفه برفضه لكل تلك الإثباتات مكتفياً برفع فيتو ثامن في جلسة لمجلس الأمن معطلاً قراراً يفضي إلى إجراء تحقيق كامل حول واقعة خان شيخون، وفتح كامل مطارات النظام أمام اللجان الدولية وكشف ملفات الطلعات الجوية ومعرفة أسماء الطيارين، ولأن الطلعات قد خرجت من مطار الشعيرات المعروف أنه تحت السيطرة الروسية امتنعت موسكو عن قبول أي خطوة قد تتسبب في كشف تورطها بهذه الفاجعة.
بعد جلسة مجلس الأمن اتجهت العيون إلى موسكو مع وصول وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون للقاء نظيره الروسي سيرغي لافروف في الثاني عشر من نيسان الجاري 2017، ويعتبر هذا اللقاء هو الأول من نوعه في عهد تيلرسون ، ومن المتوقع وبحسب ما تم تسريبه أن المناطق الآمنة وحظر الطيران سيكونان محور الاجتماع، بيدا أن ما جاء في المؤتمر الصحفي عكس بالمدى القريب تفاهمات بين الطرفين أهمها استمرار العلاقات وقنوات الاتصال والمضي قدماً في محاربة الإرهاب والاستعداد لمرحلة جديدة في سوريا يكون عنوانها البدء في تهيئة الأجواء السياسية لرحيل الأسد، وهذا ما أكد عليه تيلرسون بعد نهاية اللقاء بقوله إن حكم عائلة الأسد شارف على الانتهاء.
وبعد يوم واحد في الثالث عشر من نيسان 2017 أثنى ترامب بإيجابية على اللقاء الحاصل بين الوزراء وأضاف أن الوقت قد حان لنهاية عائلة الأسد وبدا واضحاً أن اتفاقاً سرياً قد جرى بعد اللقاءات أرضت الرئيس بوتين، واتسمت دلائل الرضى ما جاء بآخر كلمة للوزير تيلرسون مجيباً على سؤال أحد الصحفيين بأن لا دلائل حقيقة على تورط موسكو بمجزرة خان شيخون، المزيد من الرضى ناله بوتين وكأنه حقق نوعاً من الانتصار صغير هو عدم تصويت دول أوربا على مشروع قرار لفرض عقوبات على روسيا.
بالعودة إلى الموقف الأمريكي
قُبيل توجيه الضربة الأمريكية إلى قاعدة الشعيرات في ريف حمص، لم تكن استراتيجية ترامب تلقي بالاً إلى ما يفعله الأسد من مجازر يرتكبها بحق شعبه.
ترامب صرح علانية في حملته الانتخابية نهاية العام 2016 أن محاربة الإرهاب هي الأولوية الأولى له، في الإشارة إلى إلقاء اللوم على سلفه أوباما المسبب الأول لإنتاج داعش والمنظمات الإرهابية المنتشرة في ليبيا وسوريا والعراق واليمن ومؤخراً في مصر.
بيد أن تنامي التنظيمات الرديكالية بات يهدد بشكل أو بآخر الأمن الداخلي الأمريكي إلى جانب صعود اليمين المتطرف في دول أوربا.
داخلياً كان ترامب يضع نصب عينيه تحقيق هدف واحد لا غير هو عودة الهيبة الأمريكية التي خسرتها أمريكا منذ اجتياحها العراق في 2003 وصولاً إلى فترة الرئيس الراحل أوباما.
فيما المهمة الكبرى التي تقع على عاتق ترامب متعلقة بالسياسية الخارجية وهدفها المعلن، القليل من الأقوال والكثير من الأفعال لإيصال رسالة للدول الإقليمية أن زمن أوباما انتهى ولا بد من اليوم فصاعداً ملء الفراغ الذي استفادت منه روسيا في بسط نفوذها بشكل منفرد في المياه الدافئة على البحر المتوسط، وإحكام قبضتها على كامل القرارات في نظام الحكم في دمشق.
ترامب يسير بخطى واضحة وما كان مسموحاً به في زمن أوباما انتهى اليوم وعلى إيران ومليشيات حزب الله أن تخرج من سوريا بحسب ما صرح البيت الأبيض 13 نيسان الحالي.
وفي الحديث عن الاستدارة الكلية للسياسية الأمريكية الخارجية يمكن التذكير بالأولويات الأمريكية لترامب فبعد دخوله للبيت الأبيض جعل الأولوية الأولى له، محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيمي الدولة داعش وهيئة تحرير الشام النصرة سابقاً، ولجم الدور الإيراني في المنطقة دون جعل إزاحة الأسد في سلم الأولويات الأمريكية. واتضح هذا الكلام شيئاً فشيئاً بعد تفجير قنبلة من العيار الثقيل على لسان سفيرة الأمم المتحدة نيكي هايلي في السادس من نيسان الجاري أمام جمع غفير من الصحافيين حيث قالت إن سياسية الولايات المتحدة في سوريا لم تعد تركز على إزاحة الأسد، إلا أنها سرعان ما أعادت صياغة كلامها بعد موجة من الانتقادات التي وجهت من قبل فرنسا وبريطانيا.
تراخي الإدارة الأمريكية في عدم التطرق لمصير الأسد كان بمثابة الضوء الأخضر لنظام الأسد الذي أقدم على ارتكاب خطيئة كبرى، ولو أنها كانت من تحريض حلفائه لاختبار أولي لسياسية ترامب.
صفقة الممكن والمستحيل بين ترامب وبوتين
جميع السيناريوهات مفتوحة في سوريا فبعد التدخل الأمريكي المباشر في سوريا في شمال شرق سوريا وبسط نفوذها بها وتهيئة الأجواء في المنطقة الجنوبية لدخول قوات عربية أردنية لتثبيت وإدارة المنطقة، وقرع طبول معركة تحرير الرقة، يبقى السيناريو الأقرب بين القطبين اتمام صفقة سياسية في سوريا، إلا أنها أشبه بصفقة ممكنة ومستحيلة، إذا ما تم ربط الملف السوري ببقية الملفات العالقة بين البلدين، فكلاهما يقرب نهاية عائلة الأسد من الحكم وكلاهما متفق على محاربة الإرهاب، وكلاهما متفهم لمصالح الآخر، أما المعضلة فتكمن في البند الجديد الذي أضافه ترامب ويتعلق ليس بخروج إيران وحزب الله من سوريا من سوريا بل بوضع حدود لهذا النفوذ ضمن سوريا، وهي نقطة خلاف مع موسكو التي لا ترغب بخسارة هذا الحليف، ليس لسبب ضعف في الخيار العسكري وإنما لسبب سياسي واقتصادي أكثر منه عسكري، وما تصدر من حديث بين تيلرسون وبوتين قيل أنهما طرحا بند النفوذ الإيراني في خلق تفاهمات تسمح بتأمين فقط ممرات إيرانية في سوريا وصولاً إلى لبنان دون المساس بمصلحة إسرائيل، وما تنفيذ اتفاقية المدن الأربع في 15 من نيسان 2017 إلا خطوة تمهيدية في هذا الاتجاه، والمستفيد الأكبر هو حزب الله الذي أحكم قبصته على الشريط الحدودي مع سوريا.
واستكمالاً للصفقة الصعبة التي يتخللها نقطة خلافية أخرى متعلقة بحاجة موسكو لضمانات أمريكية غير متوفرة بشكل كامل، وربما يعود السبب لعدم وجود عامل الثقة الباعث لمصدر الخوف من استثمار كل طرف للآخر لاستنزافه في سوريا، إلا أن هذه الهواجس متزايدة بهذه المرحلة عند بوتين فهو المتخوف على مصالحه وليس ترامب المبادر لعرض هذه الصفقة من منطلق قوة غير آبه إن قبل بوتين أو لم يقبل، فالعرض فحواه تأمين خروج لائق لروسيا من المستنقع السوري مقابل ضمان حفظ مصالحها في سوريا، أو الغرق مع آل الأسد في البحر السوري إلى عشرات السنين وتكرار التجربة الأفغانية أو الصومالية.
وهي ما تبدو خيارات محدودة للرجل الشمولي الذي لا يريد أن يلمح مجرد تلميح أمام الغرب أنه يرغب بالخروج من سوريا، وبذات الوقت أصبح أمام مرحلة مواجهة مباشرة وعليه الاختيار إما التخلي عن الأسد والقبول بعرض ترامب أو المزيد من الانتحار في سوريا ولن يضر إدارة ترامب إذا ما تم هذا الاختيار، فالخبراء العسكريون المحيطون بترامب لديهم خطط منفردة في سوريا، باستمرار حربهم على داعش وتأمين المنطقة الجنوبية بذراع بريطاني وتحصين المنطقة الشمالية بذراع تركي، واستهداف الأسد بمزيد من الضربات تؤثر سلباً على موسكو وتزيد من عزلتها الدولية أمام الرأي العام.
خلاصة القول: تبقى هذه الصفقة قيد التحضير والنقاش ريثما يظهر وضوح أكتر في النقاط الخلافية وعلينا أن لا ننسى أن السياسة لا تحمل ثوابت وما يتم الاتفاق عليه اليوم قد يتم نسفه غداً ومن السهل القول: إن روسيا ستتخلى عن الأسد. ولكن من الصعب القول: إن روسيا ستخسر مصالحها في سوريا، وسط غياب الضامن والراعي لها، ويبقى الرهان على الشعب السوري أن يُعد العدة في توحيد الصفوف للنهوض بسوريا من تحت الركام فهو مقبل على مرحلة جديدة سواء تمت الصفقة أم لم تتم.
لتحميل المقال من هنا
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2017
“الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات “