الطبيعة التدينية لمجتمعاتنا الإسلامية تُشكل ثروة كبرى للحركات الشعبية الإسلامية، إذ أن مخاصمة طبيعة
المجتمعات يعني المصادمة والاصطدام، وعلى النقيض فمصالحة طبيعتها يعني الكسب والاختراق.
يقول بن رشد، إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف الدين، والحركات الإسلامية ذات
الطابع الديني نجحت في إعادة إنتاج الدين وتصويره على أنه الدين ذاته، فكان كل خطاب منها بمثابة خطاب الدين
ذاته، واستطاعت عبر قنواتها الرسمية ومنابرها الوعظية من تسويق مبادئها مغلفةً بالدين لكسب تعاطف
الجماهير وتأييد الناس لها، وفي عصور الجهل والظلام وغياب حاسة النقد وانغلاق أجواء الحوار، تتفتت أجهزة كشف
الاستغلال الديني، حتى إذا ما وصلت الحركات الإسلامية إلى السلطة، انكشفت الحجب وسقطت الأقنعة، وليس التفاف
الجماهير حولها ومنحها الأغلبية الانتخابية، إلا نوعًا من تدينها لا نوعًا من وعيها. لم تحاول الجماهير لحظة قراءة
البرنامج الانتخابي أو فهم المنهج الحركي لكنها سقطت في فخ الإٍسلامية ومصطلح المشروع الإٍسلامي، وعندما أدركت
الحركة الإسلامية طبيعة تدين المجتمع وفهمت كيفية تشكيل الرأي الجمهوري المتدين على الشكل دون النظر إلى
الجوهر، قذفت الحركة الإٍسلامية بفلذات خطابها وواعظيها وحملة الشهادات الشرعية ورجال الدين إلى قائمتها
الانتخابية.
يستمر التسويق الديني حتى بعد السلطة وتنطلق الخطابات المسكونة بالتظلم والقهر والاضطهاد، ويخلو الخطاب من
الإنجازات والرؤى المستقبلية، ودومًا ما يُشكل خطاب الابتلاء والمظلومية قفزًا إلى الأمام وهروبًا من الواقع، فالأدبيات
الإسلامية مليئة بالشواهد التاريخية والشواهد الحركية التي تُثري خطابها التعبوي لإثارة عواطف الأتباع وعواطف
المناصرين.
بعد فوز الحركة الإسلامية بأغلبية برلمانية وسيطرتها على الوزارات الحكومية، دار حديثًا عن إجراء انتخابات
فلسطينية في عام 3102 وجلست قيادة الحركة مع أتباعها لمناقشة المرحلة، فكان السؤال ما هو الخطاب الذي
ستوجهه الحركة للجمهور حتى يعاود انتخابها؟ كان جواب القيادة لا يتعدى آلام سجون السلطة، وحماس الانتفاضة،
والملاحقات الأمنية، ومعركة الفرقان حتى معركة السجيل، وكل الحديث لا علاقة لها بإنجازات حكومية سابقة، أو
رؤى عملية مستقبلية، والغريب أن الجميع هز رأسه دون اعتراض.
إن الحزب منح أتباعه أُذنًا واحدة وسلب منه أخرى، فهو لا يسمع إلا صوته، منحه أُذنًا بدلًا من العين، مما ضخمت
عنده الأنا بدلًا من النحن، فالحياة داخل الحزب جعلت الأُذن والأنا أكثر أهمية مما كانتا عليه خارجه. يتعلم الإنسان
في الحزب عن طريق الاستماع أما خارجه فلا يؤمن إلا بما يراه، مع أن شهادة العيان أوثق من شهادة الروايات، وهذا ما
يُصدقه الواقع عندما ترى المؤمنين يُصدّقون مريديهم ويُكذّبون واقعهم، حتى لو كان الواقع لا يحتمل أكثر من
تفسير. وهذا ما يفسر تفشي ثقافة التبرير عند الأتباع أكثر من ثقافة اللوم والمحاسبة، إنهم يفرضون الخللَ في
المؤامرة الكونية على أن يفترضوه في أدوات قيادتهم العملية،
ليس ذلك محل عجب واستغراب إذا ما أدركنا الطريقة المتبعة للحركة الإسلامية في برمجة الأتباع داخل التنظيم، أنه
يمكن التعويل على الكلام المسموع والمنطوق أكثر من المكتوب والمشاهد، الذي صرف الأتباع عن التدقيق
والتمحيص إلى التصديق الأعمى والتقليد. فأخذت لغة الحديث ذاتها شكلًا موحدًا اتسمت بمُغيِّبات العقل وحضور
العاطفة، وهي صفات لازمة في الخطاب الحزبي، بل لعل الانفعالات نفسها أصبحت أقل عنفًا وتفعالًا مع الذات، إذ
تُستعمل كلمة )المشروع الإسلامي( دومًا بمعنى ضبط الانفعال والتحكم في الآراء وضمان توحيد الأصوات.
عندما تعيش المجتمعات المتدينة في عالم الغيب وتنفصل عن عالم الشهادة، فهي تعيش بأجسامها في الدنيا
وتنفصل بأرواحها في الآخرة، يصنع حينها اللعبُ على وتر الأمانة والخيانة تجارةً رابحة عند الحركات الإسلامية،
وبعدها تصبح كل خطوات المجتمع متوقعة بل أحادية الخطوة، فهي تخشى النار لذلك تنضم للمشروع الإسلامي،
وتخشى الخيانة لذلك لا تصوت لمشروع غيره، وهذا ما صدّقه شاهد الانتخابات في فلسطين في الحقبة الماضية
وحجم الشعارات الإسلامية المتقاذفة في فضاء المجتمع المتدين، “من قبيل صوتك أمانة تتبعها صَوّت لحماس”.
إن الذوبان في التنظيم والانفصال عن الذات، والانسجام مع المتشابه والافتراق عن المختلف، وربما كان النقص
الوجداني كما يعرفه كيفن ريلي )المقدرة على أن تضع نفسك في موضع الآخرين( قد زاد حد التخمة داخل التنظيم،
وربما أصاب الداء المعظم الغالب، فلو سألت أحدهم “ماذا تفعل لو كنت رئيس الحركة الإسلامية؟” لتمتم كثيرًا
وأصابه الهول من السؤال ثم فر بإجابته التقليدية، أن العمل لله وأنه يذهب بالمناصب والقيادة.
وإذا سألت آخرَ عن رأيه في قضية مجتمعية مثارة، أجاب أنه لا يعرف والقيادة وحدها مَن تعرف، وهو يثق بما تقوله
القيادة أنه الصواب المطلق. وإذا تنبه أحدهم وغرّد بما يخالف رأي القيادة، هاجمه إخوانه الحزبيون بقطعية خطأ
رأيه وقطعية صواب قيادته، لأن القيادة فوق الجبل ترى كل شيء.
إنّ مثل هذه الحياة تقع خارج فهم التبعي واستيعابه، فهي بعيدة كل البعد عن خياله وأفكاره، وفي مقابل ذلك
فإن التنوع الشديد في حياة التحرر من التبعية أيًا كان شكلها حتى الدينية منها، قد زاد أدنى العوام على التحليل
والتقمص الوجداني والتعاطف والانتقاد. إنّ ثقافة التحزب الشفوية، قَوّت دعائمَ الأمور المتعارف عليها بترديدها
وغنائها على نحو يكاد يكون رتيبًا، فمشائخهم ووعاظهم ومثقفيهم يتمتعون بتوحدٍ عجيب، إلا أن قصصهم
وتنظيراتهم لم تتغير إلا تدريجيًا وبشكل بسيط، فكلمة القيادة المنطوقة على الدوام مقدسة، ونطقها بشكل مغاير
يعني تغير الحقيقة، لذلك توحدت المصطلحات وانسجم الخطابُ بين رجل الدين ورجل السياسية، وبين الواعظ
والقائد، وتماهى الخطاب في أذهان المؤمنين مما صعّب المهمة عند المتدينين من المؤيدين في فصل السياسي
عن الديني، والدنيوي عن الآخروي، فالمشروع الإسلامي هي ذات الكلمة التي ينطقها رجل السياسية ويرددها واعظ
المنبر.
تسحب الحركة الإسلامية الحاضرَ إلى الوراء كأنما هو شيء قذر، وترميه على الماضي، وهكذا تصبح المعركة بين الأشياء
الموجودة “الحاضر” والأشياء التي كانت موجودة “الماضي” من جهة، وبين الأشياء التي لم تجيئ بعد “المستقبل” من
جهة أخرى، وتعمل على إحتقار الماضي وتبغيض صورته، وتصوير الفردوس المنتظر كله في استعادة الماضي، فهي
تُدين كل أفكار بناء الحاضر وتهاجم كل وسائل الراحة في الحاضر، في المقابل تُمجّد كل أشكال الحياة الصعبة في
الماضي، إن الهدف الأساسي من الاستخفاف بالحاضر هو تمجيد الماضي، لأن الماضي هو من صنع المسلمين الذين
يصورونهم على أن الحركة امتداد لهم، وأنهم خَلَفهم الحصري الذي سيستعيد أمجاد السلف، وكلها وسائل تثير عاطفة
المتدينين لتُلحقهم بالإسلاميين لا أكثر. إن حملتها الشعواء على الديمقراطية وتمجيدها الفاقع للشورى _حتى لو
مارست اللعبة الديمقراطية_ ما هو في الحقيقة إلا هجوم الماضي على الحاضر، ووضع حياة الشعوب المسلمة موضع
المقارنة بين حاضر تافه وماضٍ عريق، يصنع إيمانًا أعمقًا عند تلك الشعوب بتفاهة حياتهم الآنية وعظم حياتهم
الماضوية.
إنها لا تصور أزماتنا بتخلفنا عن مركب العلوم الحاضرة، بل تصوره عن نقص مكتباتنا بعلوم الإسلام السابقة والتي
تحتفظها الحركة الإسلامية وحدها، هي لا تصور نكساتنا بقصور أدواتنا الفكرية، بل تجعل العلة في ابتعادنا عن
الإسلام التي تفهمه الحركة الإسلامية وحدها .. ذلك التفسير البسيط لمفهوم الحل الإسلامي.
إن الأهداف غير الواقعية التي ترفعها الحركة الإسلامية ما هي إلا استمرارية هجوم الماضي على الحاضر، كل الأشياء
الواقعية والعملية والممكنة هي جزء من الحاضر الذي تفتقد أدواته الحركة الإسلامية، ولو قدمت الحركة وعودًا
واقعية، لأدنى ذلك من جعل الحاضر أكثر أملًا، وإلى ربط الناس بالحاضر، الذي يعني بالضرورة انصراف المؤيدين عنها
إلى حركات أخرى أكثر واقعية، وهنا تكمن الخسارة…!
للتحميل من هنا
“الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات”
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016