الاصداراتمتفرقات 1

خلفيات صراع الإرادات وسؤال الانتقال الديمقراطي بالمغرب

صراع الإرادات في المشهد السياسي المغربي
تقديم:
شهد المغرب  عقب  الانتخابات البرلمانية في السابع من أكتوبر الماضي أزمة سياسية  حادة، ممثلة في تعثر تشكيل الحكومة الذي استمر قرابة الستة أشهر، وهي أزمة  لم يسبق أن عهدها المشهد السياسي المغربي، وإن كان العنوان العريض الذي طبع المرحلة الحالية، أي  “إرادة الديمقراطية والانتقال الديمقراطي”، هو نفسه الذي شغل القوى الوطنية منذ الاستقلال، لكنه ظل مشروعا مؤجل التحقق أو غير مكتمل إلى حدود اللحظة السياسية الراهنة التي أعقبت الربيع العربي، والذي أسفر ثماره في المغرب بعد حراك 20 فبراير  عن دستور جديد اعتبره المراقبون بداية التحول في النسق السياسي المغربي نحو الملكية البرلمانية في الأفق المنظور، لكن عاصفة الخريف التي أصابت الربيع العربي ألقت بظلالها على المشهد السياسي المغربي، لتختبر مقولة “الاستثناء المغربي” ومدى صدقيتها، وهو ما تجلى بقوة مع حالة الانحسار والارتداد  كما شهدت بذلك أزمة تشكيل الحكومة التي انتهت بإعفاء الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران من رئاستها وتعيين الدكتور سعد الدين العثماني خلفا له وإخراج حكومة للوجود بعيدة عن روح انتخابات السابع من أكتوبر الماضي، وهو ما خلف  الكثير من السجال في المشهد السياسي المغربي، إذ يمكن اعتبار كل ذلك المسار صراعا حادا بين إرادات لقوى مختلفة النزعات،  إحداها تمثله القوى الوطنية الديمقراطية الساعية إلى الدفع بمسار الانتقال الديمقراطي، مقابل قوى سلطوية رافضة للديمقراطية والانتقال الديمقراطي، ومن تم تعمل على إجهاضه.
فلننظر في سياقات تنازع الإرادات بالمغرب من خلال الانتخابات الماضية وطبيعة الصراع السياسي الجاري بين مختلف القوى الرئيسية في المشهد السياسي والمجتمعي، ممهدين له برصد صيرورة الصراع حول الديمقراطية بالمغرب منذ الاستقلال إلى الآن، باعتبار صراع الإرادات الحالي حول الديمقراطية، هو امتداد لصراع الأمس بين مختلف الفرقاء عقب الاستقلال، بل يمتد إلى نزعة التحديث السياسي الذي عبرت عنه النخبة الوطنية قبل الحماية.
فما هي خلفيات الصراع من أجل الديمقراطية والانتقال الديمقراطي بالمغرب من الاستقلال إلى اليوم؟
ما هي سمات وخصائص تنازع الإرادات في المشهد السياسي بالمغرب قبل الانتخابات البرلمانية في السابع من أكتوبر الماضي وبعدها؟ وما هي الآليات والميكانيزنمات المعتمدة من طرف مختلف تلك القوى والإرادات؟ إلى أي حد يمكن اعتبار إعفاء عبد الإله بنكيران وإخراج الحكومة الحالية إجهاضا لمسار الانتقال الديمقراطي؟
صراع الإرادات حول الديمقراطية في مغرب ما بعد الاستقلال.
أ_ الديمقراطية المجهضة في مغرب ما بعد الاستقلال
لا يختلف الصراع الحالي بين الديمقراطية والاستبداد، أو ما أشير إليه في السنة الماضية _2016_ بمفهوم التحكم[1]،  عن صراع الأمس إبان استقلال المغرب وتشكيل ثاني حكومة برئاسة عبد الله إبراهيم، فقد تنازعت حول السلطة آنذاك وتدبير مغرب ما بعد الاستقلال عدة قوى، أهمها القوى الوطنية التي كانت مجسدة في أحزاب الحركة الوطنية وناضلت بمعية الملك محمد الخامس لتحقيق مطلب الاستقلال، وقوة ثالثة شكلت امتدادا لإرادة المستعمر الفرنسي داخل بنية الدولة والمجتمع، وكانت مهمتها تنحصر  في إعاقة أي توافق بين القصر والقوى الوطنية لتأسيس نظام ديمقراطي حديث، من خلال إحداث الشرخ وإذكاء التنازع بين مختلف الإرادات الوطنية التي لم يكن شكل الدولة _ونظام_ لمغرب ما بعد الاستقلال موضوع اتفاق مسبق بشأنه في سياق النضال السياسي والوطني في وجه الاستعمار، رغم حضور معالم النموذج الديمقراطي للحكم في كتابات رموز الحركة الوطنية[2] كفكرة وتصور، بل كان موقف القوى الوطنية من المقترح الفرنسي في عهد الحماية والقاضي “باعتراف فرنسا باستقلال المغرب أولا وتكوين حكومة وطنية تشرف على وضع دستور، تليه انتخابات ديمقراطية لبرلمان مغربي يكون من مهامه اتخاذ قرار بعودة محمد الخامس، وحينئذ ستكون عودته في ظروف يقبلها الرأي العام الفرنسي”[3]، هو الرفض المبدئي، لاعتباره سيقدم شرعية للاستعمار، وكذا لأولوية الاستقلال في وعي النخبة الوطنية حينها وفي مقدمتها حزب الاستقلال، وهو ما عبر عنه علال الفاسي بقوله “”السير إلى الإصلاح عن طريق الاستقلال، لا إلى الاستقلال عن طريق الإصلاح”[4].
 
كان هذا النهج من القوى الوطنية غير المتعاقد عليه مع الملكية، يبطن سيرا على خطى وعي نخبة ما قبل الحماية، حيث إنها كانت ترفض أي توافق أو تنازل للاستعمار، وكانت تمزج في رؤيتها الفكرية والسياسية بين ضرورة التحديث السياسي وإقرار الفكرة الدستورية والنضال ضد المستعمر، ويعبر عالم ومفكر مغربي أصيل عن تلك التوليفة بالقول “إن وعي مواطنينا بالأمس بأزمة الاستعمار الأجنبي ضاهى وعيهم بأزمة الحكم في الوطن، وقد عرفونا أن لا سبيل للنجاة من الاستعمار إلا بالنجاة من الاستبداد”[5].
 
إن غياب  التعاقد الملزم بين الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية[6] قبل الاستقلال حول طبيعة الحكم لمغرب ما بعد الاستقلال وعدم الاتفاق على بناء نظام سياسي ديمقراطي، ترك منفذا للقوة الثالثة التي تحظى برعاية أجنبية وتتملك من الوسائل ما جعلها عامل إضعاف لأي مطلب وطني متعلق بالديمقراطية بعد الاستقلال، وذلك ما حصل مع حكومة  عبد الله إبراهيم سنة 1959_مباشرة بعد الاستقلال والتي استمرت 18 شهرا وحسب، وكانت الإصلاحات الاجتماعية  التي باشرتها، وأفق التعاقد السياسي والمجتمعي لبناء نظام حكم ديمقراطي يأخذ قوته من التوافق بين الحركة الوطنية ذات الشرعية الشعبية والمجتمعية والملكية بشرعيتها التاريخية، لكن مطلب بناء الدولة ومباشرة الإصلاحات على أسس وطنية وديمقراطية، بقدر ما كان طموحا للقوى الوطنية، كان يمثل تهديدا لما سمي بالقوة الثالثة، فدخلت هاته الأخيرة في تحالف مع ولي العهد آنذاك الحسن الثاني، أعاق عملية التوافق وزرع بذور النزاع الأولى بين الملكية والقوى الوطنية.
 
كان الزخم الذي خرج به المغرب في سياق الاستقلال كفيلا بإحداث نقلة نوعية في بنية النظام  السياسي وتجديد التعاقد بين الدولة والمجتمع على أسس دستورية وقيم سياسية معاصرة، وذلك بالاستثمار في وحدة الصف الوطني والالتفاف الشعبي حول نخب ومكونات الحركة الوطنية والملكية للدفع بالمغرب نحو التحديث والدمقرطة، لكن العكس من ذلك هو الذي حصل، حيث كان من  أول خطوات الارتداد على بناء الديمقراطية ومسار التوافق الوطني بالمغرب، إجهاض حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1959 التي أشرنا لها سابقا، وهو ما أدى  إلى تعميق الانقسام بين القوى الوطنية ونظام الحكم، الذي استعان مع بداية الستينيات بجبهة الفديك[7]_أي القوة الثالثة_ التي كان يرأسها صديق الملك رضا اكديرة،  أعقبها تقديم دستور ممنوح من الملك الراحل الحسن الثاني لم تشارك النخبة الوطنية في صياغته، ثم حل البرلمان بعد اشتداد الصراع بين أحزاب الحركة الوطنية والقصر، ومعها إعلان حالة الاستثناء؛ مما وطن حكم الفرد بالمغرب ومعه خسران رهان التحديث السياسي وبروز الصراع بدل التوافق بين الملكية وفرقاء الحركة الوطنية الذين أعادوا لها الاعتبار في المشهد السياسي والاجتماعي، وهو ما أشار إليه باحث معاصر لتلك اللحظة السياسية بالقول “لقد اكتشف الملك المعزول عن مواطنيه، والمحروم من الوسائل التي تمكنه من ممارسة سلطانه، أن الوطنيين قادرون على مساعدته لاسترجاع نفوذه، وحماية سيادة العرش، وهؤلاء بدورهم كانوا يرون في املك أنه ليس فقط رمزا لسيادة مهددة، ولكنه شخصية لها صفات تؤهلها لضمان مشاركة شعبية لم يكونوا يأملون في تحريضها وحدهم. قبل كل من الطرفين هذا التحالف لأسباب تكتيكية مرحلية، إلا أن هذا النوع من التحالف سيتحول فيما بعد إلى فخ بالنسبة للوطنيين، وإنه من الواضح أن السلطان قد اكتسب نفوذه بفعل جهود الحزب ونصائح قادته، ولم يكن هؤلاء يتصورون أنهم حينما جعلوا منه الرمز الأعلى للنضال من أجل الاستقلال، منحوه في الوقت ذاته إمكانية التصرف في المستقبل، وهذا ما أدى به إلى أن يعتبر نفسه فوق المصالح الخاصة والتكتلات السياسية وبشكل متعال، وكان الحزب مستهدف بذلك”[8]، فكان غياب ذلك التعاقد أحد أسباب الصراع بين القصر والقوى الوطنية في الستينات، والتي كان أبرزها حل البرلمان وإعلان حالة الاستثناء.
 
مع حالة الاستثناء (في منتصف الستينات) دخل المغرب مأزقا سياسيا موسوما بالصراع سيطبع العقود التي أعقبت الاستقلال إلى حدود اللحظة، وأصبح الصراع حينها صراع وجود لما أعمل النظام السياسي كل أشكال القمع في حق معارضي سياسات الحسن الثاني التي اتجهت لتركيز السلط في يد واحدة أفرزت انتفاضات شعبية[9] من جهة دعمتها قوى وأحزاب وطنية، ومن جانب آخر حدوث انقلابات عسكرية تكللت بالإخفاق، ولم تحدث حالات الوفاق التي انفصمت عراها، إلا نادرا في قضايا وطنية كبرى من قبيل الوحدة الترابية مع المسيرة الخضراء سنة 1975.
 
ب_ التوافق الوطني حول الصحراء ووعد الانتقال الديمقراطي الذي لم يتحقق.
تعد قضية الصحراء التي تم الإجماع عليها بين الأحزاب الوطنية والملكية في منتصف السبعينات لحظة ثانية بعد الاستقلال للتأسيس لانتقال ديمقراطي بالمغرب، حيث توفرت شروط ذلك مع المراجعات في المواقف السياسية التي قام بها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أحد القوى المعارضة الرئيسية في المشهد السياسي حينها، فانتقل إلى نهج خطاب سياسي جديد مثلته وثيقة التقرير الإيديولوجي التي اعتمدها مؤتمره الاستثنائي سنة 1975، والتي بموجبها تم التخلي عن أطروحة الاختيار الثوري التي صاغها المهدي بن بركة إلى “الاختيار الديمقراطي”[10]، واستبدل مسمى الحزب من “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” إلى الاتحاد الاشتراكي .
 
وقد كان هذا التوافق في سياق سعي المغرب لاسترجاع أقاليمه الجنوبية “الصحراء” من يد المستعمر الإسباني،  مؤسسا له باتفاق بين الملكية وزعماء الأحزاب الوطنية لإطلاق مسيرة الإصلاحات السياسية والاجتماعية لمجاوزة الانسداد والنزاع الذي طبع حقبة ما بعد الاستقلال،  ويشير  الجابري _الذي عاين تلك اللحظة السياسية عن قرب_ في معرض حديثه عن مفهوم “الاختيار الديمقراطي” الذي كان محط توافق بين الحسن الثاني وعبد الرحيم بوعبيد بالقول، “هذا الاختيار قد طرح بصورة جدية في المقابلة التي تمت بين الملك الراحل الحسن الثاني والمرحوم بوعبيد في شهر يونيو 1974، حينما وجد المغرب نفسه أمام ضرورة قيام إجماع وطني للوقوف في وجه محاولة إسبانيا سلخ الصحراء الغربية (الساقية الحمراء ووادي الذهب) عن التراب المغربي بإنشاء دولة صورية هناك تكون تحت نفوذها ووصايتها”[11]، ويضيف عن أهمية ذلك التوافق وسياقاتها بالقول “كان ذلك اللقاء تاريخيا حقا، ليس فقط لأنه طرحت فيه فكرة الإجماع الوطني من أجل الصحراء، بل أيضا لأنه استخلصت فيه الدروس من التجربة التي سار عليها الحكم في المغرب منذ 1960، والتي توجت بمحاولتي الانقلاب العسكري 1971و 1972، إضافة إلى حوادث مارس 1973، لقد تم في ذلك الاجتماع إعلان العزم على ضرورة الرجوع إلى الاختيار الديمقراطي، ومع أن لفظ التناوب لم يكن قد ظهر بعد في القاموس السياسي المغربي إلا أن مضمونه كما طبق سنة 1998 كان يلوح في الأفق في ذلك الوقت”[12].
 
الملاحظ أن هذا اللقاء بين القوى الوطنية والملكية على مبدأ تجديد التعاقد السياسي “الديمقراطية” واستكمال مهام التحرير، لم تكن له المقومات ليستمر طويلا ويؤثر  في بنية الدولة بما يخدم الديمقراطية المجهضة، فالتوافق الذي جرى كان مجرد وعود من الحسن الثاني للزعيم الوطني عبد الرحيم بوعبيد، ولذلك لما نظمت المسيرة الخضراء وكانت نتائجها إيجابية على تموقع الملكية في الدفاع عن القضايا الوطنية إلى جانب مكونات الشعب المغربي، تم العدول عن الوعود التي قطعها الحسن الثاني لعبد الرحيم بوعبيد وصرح بها للإعلام الوطني[13] في الانتخابات الجماعية التي أجريت في نونبر 1976 والانتخابات النيابية في يونيو 1977، من خلال التزوير الذي طال الانتخابات حينها من طرف وزارة الداخلية لصالح المرشحين الأحرار، الذين قادهم صهر الملك الحسن الثاني آنذاك أحمد عصمان لتقويض قوة الأحزاب الوطنية وإضعافها، وهي لحظة أخلف المغرب موعده مرة ثانية مع الديمقراطية بعد الاستقلال.
 
ج_ تغذية النزعات السلطوية لنظام الحكم وتفعيل آليات ضبط المشهد السياسي والحزبي.
الظاهر من خلال ما سبق، أن إرادة الديمقراطية لم تكن إحدى خيارات النظام السياسي، الذي اتجه بعد الاستقلال إلى تركيز السلطات في يد واحدة ونظر إلى كل المطالب السياسية ونداءات الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية نظرة ريبة وتخوف، حيث لا فرق _عنده حينها_ بين الأحزاب الوطنية التي أعادت الوهج للملكية قبل الاستقلال، والنخب العسكرية التي سعت غير ما مرة لقلب نظام الحكم في عهد الحسن الثاني، وقد كانت المؤسسة العسكرية ووزارة الداخلية (الجهاز الأمني) أداة موجهة من طرف النظام السياسي ضد القوى المعارضة والحركات الاحتجاجية؛ فلم تدفع كل تلك الاضطرابات بالحسن الثاني إلى توثيق صلته مع القوى الرئيسية في المشهد السياسي بإقرار مبادئ تسهم في تأمين مسار الانتقال الديمقراطي، وإنما إلى تغذية النزعات السلطوية، وتفعيل آليات الضبط للمشهد السياسي والحزبي أو تفكيكه لرعاية رجحان ميزان القوى لصالح الملكية التنفيذية وعدم تقديم تنازلات تدفع بدمقرطة الدولة والمؤسسات، مما زاد في تعميق التنازع في الإرادات بين الملكية والقوى الوطنية الرئيسية في المشهد، وظل مع ذلك سؤال الديمقراطية هو محط التنازع، في العقود التي مضت، وفي سياق الأزمة السياسية الحالية، وفي كل تلك المحطات السياسية المفصلية التي تبرز معها الأزمة كتعبير عن مخاض في بنية السلطة والمجتمع، نجد نخبا وأحزابا هي من لفيف أحزاب السلطة، تقاوم أي تحول نحو الديمقراطية.
 
إن مقاومة التحديث السياسي في الوعي والممارسة لدى مختلف الفاعلين (دولة وأحزاب ومجتمع مدني رديف للسلطة)، ليست غريبة على المجتمعات التي تعرف تحولات عميقة في الوعي السياسي، نظرا لطبيعة التغيير الذي يمكن أن في ثقافة الحكم ومؤسساته وطبيعة المصالح المرتبطة به، وقد تابعنا طبيعة الرجة التي أحدثها الربيع العربي في النظم والأنساق السياسية إلى جانب إحداث الصدمة في الثقافة والأفكار السياسية التي ظلت سائدة عقودا من الزمن ولم يكن لها من تعبير عن الانبعاث التحرري سوى الاندهاش، وهو ما عبر  به أحدهم بعبارة “من أنتم؟”، وهي العبارة _وغيرها كثير مما يعبر عن نفس المعنى_ التي تبطن في نفسية الحاكم العربي والنخبة المتحلقة به طبيعة علاقتهم بالشعب وعدم استعدادهم للتنازل عن السلطات والثروات التي تراكمت لديهم طيلة فترة حكهم بالغصب وإذلال الشعوب وإهانتها[14].
 
هاته المقاومة للتغيير في دول أخذت منحى ثوري بثورة مضادة، هي ما يفسر لنا حدة مقاومة الانتقال  الديمقراطي _الآن وفيما مضى_ من طرف أحزاب ونخب موالية للسلطة في السياق المغربي  ذات المنزع الإصلاحي، فمقاومة تغيير الوضع القائم لإعاقة الديمقراطية ومحاولة ترسيخ وضع لا ديمقراطي وتبرير الاستبداد، مهمة تتصدرها في كل الحقب التي أخلف المغرب فيها موعده مع الديمقراطية، الأحزاب الموسومة في المشهد الحزبي المغربي بالإدارية، وهي كذلك لأن رصيد قوتها السياسية والانتخابية من دعم الدولة لها وليس الحضن الشعبي والاجتماعي[15].
 
إن المرور العابر على مراحل زمنية في التاريخ السياسي الحديث للمغرب، يبرز  جملة من العوامل التي أدت إلى تفكيك المشهد الحزبي وإضعافه بغاية الضبط والتحكم في مخرجاته وإجهاض الانتقال الديمقراطي في كل مرة يشتد فيها الصراع السياسي على أرضية الديمقراطية بين إرادتين مختلفتين، إحداهما تنزع لبناء مغرب على أسس ديمقراطية، وأخرى ذات نزعة سلطوية تسعى لتقويض مطلب الديمقراطية وتحجيم فعالية الديمقراطيين بمختلف مرجعياتهم الإيديولوجية، وتعتبر الأحزاب الإدارية أداة فعالة لضبط المشهد السياسي تجنبا لأي انتقال ديمقراطي حقيقي في بنية الحكم، أو أي عبور يمكن أن يحققه المغرب لتصبح علاقة الدولة بالمجتمع تنسج على منوال المواطنة والديمقراطية.
 
ويمكننا أن نسرد بإجمال مراحل الإعطاب الديمقراطي وأدواتها، بداية غداة الاستقلال مع جبهة “الفديك” الدفاع عن المؤسسات الدستورية في الستينات والتي أسسها صديق الملك الحسن الثاني حينها ووزير داخليته “رضا اكديرة”، ثم في السبعينات مع المرشحين الأحرار  والذين انتظموا فيما بعد في حزب “التجمع الوطني للأحرار”، وهو الحزب الذي قاد مع أزمة تشكيل الحكومة ائتلافا للأحزاب القريبة من السلطة إجهاضا لمسار  تشكيل الحكومة في الحاضر، وذلك ما تحقق مع إرادة النكوص عن الانتقال الذي عبرت عنه الدولة مرات عديد وبممارسات مختلفة، تمثلت آخرها في مخرجات تشكيل حكومة الدكتور سعدين العثماني، التي استهجنتها النخب الوطنية الديمقراطية والرأي العام، واعتبرت بمثابة إجهاض للانتقال الديمقراطي الذي انطلق مع سياق الربيع العربي، كما أن تشكيلها خرج معبرا عن إرادة الاستبداد _والسلطوية_ والحنين لإغلاق “قوس” الانتقال الديمقراطي الذي نطلق مجددا مع أحداث الربيع العربي، ولم تكن معبرة عن الإرادة الشعبية المتمثلة في نتائج لاقتراع ليوم 7 أكتوبر سنة 2016.
 
الدور الذي اطلع به حزب التجمع الوطني للأحرار في إعاقة الانتقال الديمقراطي  المتعثر على مر التاريخ السياسي الحديث للمغرب إلى حدود حكومة سعد الدين العثماني الحالية، قام به كذلك حزب إداري آخر “الاتحاد الدستوري” في الثمانينات عقب الاحتقان الاجتماعي والسياسي الذي شهده المغرب، ثم حزب الأصالة والمعاصرة الذي أسسه صديق الملك ومستشاره الحالي، فؤاد علي الهمة، وهو الحزب الذي أسس بغاية الحكم، لكن الربيع العربي أضعف رهان السلطة على حزب طالب الشارع مع حركة 20 فبراير بحله، ورغم ذلك فإن الحزب حظي  بكل أنواع الدعم طيلة الانتخابات التي عرفها المغرب، منذ تأسيسه سنة 2009، إلى الانتخابات الأخيرة كما سنرى في رصدنا لانتخابات 7 أكتوبر الماضية.
 
إن الرهان على الأحزاب القريبة من السلطة لتدبير الشأن العام، ستكون مضاعفاته غالية على الواقع السياسي والاجتماعي في نهاية القرن العشرين، ولذلك تم البحث مجدد عن أرضية توافق مع أحزاب الحركة الوطنية طيلة عقد التسعينات، بداية مع حزب الاستقلال حيث سيفشل الأمر مع الزعيم امحمد بوستة الذي رفض استمرار  الاشتغال مع شخوص برعوا في إفساد الحياة السياسية من قبيل وزير الداخلية ادريس البصري، ثم فيما بعد مع الزعيم السياسي للاتحاد الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي الذي كان مبعدا حينها، وقد ولج المغرب _بعد إحداث تعديل دستوري_ تجربة سياسية علقت عليها آمال كبيرة في تحقيق الانتقال الديمقراطي دون أن تتحقق مساعيها، سنتوقف معها قبل لطبيعة الصراع الحالي أرضية انتخابات السابع من أكتوبر الماضي.
 
 
الانتقال الديمقراطي المجهض مع عبد الرحمن اليوسفي وعودة السلطوية.
 وظيفة جيوب مقاومة التغيير في إجهاض الانتقال مع عبد الرحمن اليوسفي.
مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات وبفعل الضغط الخارجي والداخلي في بعديه الحقوقي والسياسي، حدث انفراج في المشهد السياسي والاجتماعي، أعقبه توافق بين الملكية وأحزاب الكتلة الوطنية (حزب الاستقلال، حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية) بزعامة حزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”، وهو التوافق الذي بوأ هذا الأخير قيادة حكومة التناوب التوافقي في شخص المعارض _المبعد حينها_ عبد الرحمن اليوسفي بعد الانتخابات النيابية لسنة 1998، وقد كانت  آمال كثيرة معلقة على هذه التجربة السياسية في تحقيق انتقال ديمقراطي يعالج الاختلالات السياسية والاجتماعية التي راكمها المغرب طيلة نصف قرن من الصراع بين القوى الوطنية والملكية، لكن الديمقراطية بقيت مجرد حلم بعيد التحقق، بفعل المعارضة القوية التي لقيها النهج الإصلاحي للوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي من دوائر داخل النظام ومن النظام نفسه.
 
إلى طبيعة تلك المناهضة التي تعرض لها عبد الرحمن اليوسفي والعناصر الفاعلة فيها، يشير الجابري بالقول في معرض حديثه عن سؤال الانتقال الديمقراطي في عدة تجارب، ليفرد المغرب بالدرس ويعرض لطبيعة المعيقات التي اعترضت اليوسفي قائلا “أما في المغرب فالقوى المقاومة للإصلاح صنفان:
صنف مكشوف يقاوم الإصلاح باتهام الحكومة بالعجز عن القيام بالإصلاح، أو على الأقل بكونها تمارسه ببط ء! وهذا الاتهام ينتمي إلى ذلك الصنف الذي يقال فيه: “كلمة حق أريد بها باطل”: هناك بط ء فعلا وهذا حق. ولكن التنديد به من طرف القوى التي صنعت الإرث الذي يجعل الإصلاح اليوم ضرورة ملحة تنديد لا يمكن أن يدخل في دائرة الحق. بل هو “حق” مزيف يراد به أو يمكن أن يراد به باطل. ذلك أن اتهام قوى الإصلاح بالعجز عن الإصلاح معناه التشكيك في صلاح الإصلاح الذي تدعيه، وبالتالي يكون إبقاء ما كان على ما كان هو عين “الإصلاح””[16].
ويضيف الجابري “أما الصنف الثاني من القوى المناهضة للإصلاح فهو “خفي” لا يتكلم لا في البرلمان ولا على صفحات الجرائد، وبعض العارفين يطلقون عليه “جماعة الضغط”، وبعضهم يسميه بـ “الحزب السري”[17].
 
ما بعد اليوسفي إلى انتفاضات الربيع. عودة السلطوية.
كانت تجربة اليوسفي كاشفة لعودة السلطوية في العهد الجديد مع اختيار وزير أول تكنوقراط رغم تصدر حزب اليوسفي نتائج الانتخابات سنة 2002، وهو الاختيار الذي اعتبره الحزب في بيان له حينها تراجعا عن “المنهجية الديمقراطية”، ولم تبقى جيوب مقاومة التغيير سرية أو خفية حينها، ولكن أصبحت مسارات السياسة المغربية تتضح من خلال أولوية التنمية على الديمقراطية، انتهت مع العزوف السياسي على انتخابات 2007 أي خروج فؤاد عالي الهمة من وزارة الداخلية وتجميع جزء من النخبة في حركة لكل الديمقراطيين، تلاها تأسيس حزب “الأصالة والمعاصرة” بغاية تدبير الشأن العام وفق رؤية تفتقد للخلفية الديمقراطية، وقد كان ذلك المسعى شبيها بحزب الدولة الموجود في كل من تونس ومصر حينها، مما أدى إلى مزيد من الاحتقان السياسي والاجتماعي، تجلى الجانب السياسي في حدة نزعة الصراع والهيمنة التي تحكم حزب الاصالة والمعاصرة والسلطة تجاه الأحزاب الوطنية، وكان الخصم الأول حينها هو حزب العدالة والتنمية الذي تصدر المشهد السياسي بعد تآكل قدرة الأحزاب الأخرى بفعل كلفة التدبير  وما تلقته من إضعاف من طرف السلطة وفق آليات الضبط كما شهدناها سابقا، بينما كان الاحتقان الاجتماعي متجليا في  الاختلال المرصود في السياسات الاجتماعية، بدءا من الفساد الناتج عن سوء التدبير  إلى ظهور فئة جديدة مستفيدة من الوضع اللاديمقراطي في البلد، ولم تغطي مبادرات التنمية البشرية ومساعدات الإنماء التي يتلقاها المغرب من الدول المانحة من تجاوز العوار وحالة الخلل، بل زادت من تعميقها وتكثف حولها السؤال أكثر، ليكون الربيع العربي المندلع نتيجة لسياسات التفقير والاستئثار بالسلطة والثروة وإذلال الشعوب وإهانتها في المنطقة، فرصة للمغاربة للمطالبة بإصلاحات سياسية واجتماعية هيكلية، وذلك بالمطالبة بوضع دستور جديد وإقرار عدالة اجتماعية وكرامة للجميع، حسبما تجسده مقولات “إعادة توزيع الثروة والسلطة” وإقرار  مبادئ تكفل تحقيق دولة المواطنة والحرية.
 
إن تشخيص الجابري لطبيعة العناصر الفاعلة في إجهاض الإصلاح السياسي والاجتماعي بالمغرب مع تجربة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، من طرف قوى وفاعلين تتملكهم نزعات سلطوية، قد يكونون ظاهرين للعيان، وقد يكونون متخفين عن الظهور، لا يزال له راهنية لقراءة الواقع السياسي المغربي وطبيعة الصراع الذي يحكمه، فالمشهد السياسي المغربي لم يعرف تغيرات هيكلية قد تستدعي تفسيرات جديدة تستطيع حل معضلاته، بالرغم من أن الحراك الاحتجاجي الذي شهده المغرب سنة 2011 مع حركة 20 فبراير  مما ستدعى تقديم وثيقة دستورية جديدة ترسم قواعد جديدة في النسق السياسي المغربي، لكنها تبقى خاضعة لطبيعة ميزان القوى بين الفاعلين الرئيسيين في المشهد الحزبي والسياسي، إلى جانب تأثير السياق الإقليمي والدولي على قضايا المغرب الداخلية، ومنها تقويض استكمال مسيرة الديمقراطية وبناء المؤسسات، الذي سنتابع فصول الصراع حوله في استعراض الانتخابات البرلمانية السابقة مع الإشارة للانتخابات الجماعية، ثم أزمة تشكيل الحكومة ومخرجاتها.
 

  • صراع الاستبداد “التحكم” والديمقراطية. من الانتخابات الجماعية يوم 4 شتنبر 2015 إلى الانتخابات البرلمانية يوم 7 أكتوبر 2016.

 
الانتخابات الجماعية والجهوية ويروز إرادة التراجع عن الديمقراطية.
قبل معالجة الانتخابات البرلمانية التي أجريت يوم 7 أكتوبر وما أعقبها من أزمة تشكيل الحكومة كعنوان للصراع من أجل الديمقراطية، سنتوقف مع الانتخابات الجماعية والجهوية التي أجريت يوم 4 شتنبر 2015 من السنة الماضية لفهم طبيعة الصراع الذي استمر منذ إعلان نتائج هاته الانتخابات، فإرادة إجهاض مسار الانتقال الديمقراطي الذي تم مع الحكومة الحالية، كانت حاضرة منذ مدة، وما جرى طيلة السنة الماضية كان مجرد صيرورة من التفاعلات الجزئية، أدت الى النتيجة المنتظرة والتي تابعنا بعضا من فصولها.
 
كانت نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية وما أسفرت عنه في المشهد السياسي غير متوقعة، رغم أن القوانين المنظمة للعملية الانتخابية (نمط الاقتراع والتقطيع الانتخابي والعتبة المتدنية) وضعت للتحكم في مخرجات العملية الانتخابية، فإن حزب العدالة والتنمية المغربي القائد للتحالف الحكومي _حينها_ كسر  تلك القاعدة  التقليدية التي كان معمولا بها، واستطاع في مختلف الحواضر الكبرى الحصول على الأغلبية التي منحته تشكيل مجالس جماعات أغلب المدن بأغلبيات مريحة دون الحاجة إلى تحالفات، وهو الأمر الذي لم تكن تنتظره السلطة، التي كانت تراهن على تقدم الأحزاب القريبة منها، سيما الأصالة والمعاصرة، وهو الرهان الذي سيتمر إلى انتخابات 7 أكتوبر الماضية.
 
وقد ظهر ذلك جليا في انتخاب مجالس الجهات وهيكلة مجلس المستشارين، فرغم حصول حزب العدالة والتنمية على المرتبة الأولى في أغلب الجهات، فإنه تم منح  حزب الأصالة والمعاصرة 7 جهات من أصل 12 بالرغم من توفره على أقلية المستشارين، وكان ذلك بفعل الائتلاف الذي شكله من الأحزاب القريبة من السلطة، والذي جعله ينتزع عدة جهات من  حزب العدالة والتنمية المتصدر للنتائج، بل حاز على رئاسة مجلس المستشارين، وهو ما عد استمرارا لاشتغال النمط التقليدي للحكم في دعم الأحزاب القريبة منه على حساب الأحزاب الوطنية وفي مقدمتها العدالة والتنمية في المشهد السياسي الحالي، ومنه كذلك عودة رهان الدولة على حزب الأصالة والمعاصرة في الانتخابات البرلمانية التي ستعقب الانتخابات الجماعية والجهوية بعد سنة، بغاية تمكين هذا الأخير من الحكومة المنتظرة، لإنهاء المرحلة التي فتحت مع ضغط الربيع العربي، ومعها إنهاء الانتقال من نظام سلطوي إلى نظام سياسي ديمقراطي، أو ما سمي بالخط الثالث، أي الإصلاح في ظل الاستقرار،[18] والذي يضع دستور يوليوز 2011 بعد مقتضياته الظاهرة في اقتسام الملكية بعض الصلاحيات مع رئيس الحكومة، الذي بوأه الدستور الجديد موقعا متقدما مع ما سبق داخل نسق الحكم والتدبير في المغرب.
ظهرت إرادة التراجعات عن خيار دمقرطة الدولة والمؤسسات، مع عدة خطوات أعقبت الانتخابات الجماعية التي كانت بمثابة تمهيد  للتحكم في مخرجات انتخابات 7 أكتوبر البرلمانية، فكانت تلك الخطوات المتبعة من طرف السلطة، كاشفة لطبيعة الصراع بين إرادتين، إرادة سلطوية ستمعن في توظيف كل الأدوات المشروعة وغير المشروعة لإضعاف حزب العدالة والتنمية وشركائه حزبي التقدم والاشتراكية والاستقلال، مقابل دعم لا محدود  لأحزاب السلطة، وهو ما سيولد عند الطرف الآخر  وبالتبع ردودا سياسية مقاومة يتحصن بها ويحافظ من خلالها على التموقع مع إرادة الديمقراطية والمكتسبات التي قدمها دستور 2011، والتي تفتح الأفق نحو ملكية برلمانية ترسي قواعد نظام ديمقراطي حديث.
 
ميكانيزمات السلطوية قبل الانتخابات البرلمانية لإضعاف حزب العدالة والتنمية ومكانيزمات التحصين لدى العدالة والتنمية.
تعتبر تلك الأدوات والميكانيزمات التي وظفتها الطرفان في الصراع السياسي بعد الانتخابات الجماعية، مساعدة لفهم أبعاد الصراع من أجل الديمقراطية وضدها في سياق المرحلة الراهنة لما بعد دستور 2011 وبالأخص مع الانتخابات البرلمانية الأخيرة وما أعقبها، فأبعادها في سياق الدمقرطة كان سيؤسس لأرضية الانتقال الفعلي أو يجهض مسار الانتقال الديمقراطي مرة أخرى، كما أنها كانت بمثابة تمهيد للانتخابات البرلمانية وتعكس رؤية كانت تحضرها السلطة، ولذلك سنقوم بذكر بعضها بشكل مجمل.
 
_أدوات مركب السلطة في الصراع لتحجيم العدالة والتنمية:
_ منازعة رئيس الحكومة والمنتخبين في اختصاصاتهم الدستورية: وذلك بالسعي لانتزاع بعض الصلاحيات من رئيس الحكومة أو التضييق عليه وعلى المنتخبين، لإظهاره بمظهر الضعيف أمام الرأي العام، وقد كان ذلك جليا في قانون المالية في مادته 30  الخاصة بالآمر بالصرف في صندوق تنمية العالم القروي، ولم يكن أصحاب الاتفاق السري حينها غير عزيز أخنوش وزير الفلاحة والذي تم تعيينه بعد الانتخابات البرلمانية رئيسا لحزب التجمع الوطني للأحرار، ووزير المالية وهو كذلك عضو بالأحرار، وقد رسم رئيس تحرير يومية أخبار اليوم المغربية وظيفة الحزب في الحكومة حينها والذي يقوم الآن بقيادة ائتلاف يعيق تشكيل الحكومة المغربية، بقوله إن “حزب التجمع الوطني للأحرار لا يتصرف، منذ مدة، كحزب في الأغلبية، بل كحزب في المعارضة، وهو موجود في الحكومة من أجل تفخيخها من الداخل، وزرع الألغام السياسية وسطها، وإذا لم ينجح في إنهاء عمر هذه الحكومة قبل أوانه، فإنه سيجعلها تمشي إلى الانتخابات عرجاء”[19]، ما يعني أن الصراع الحالي هو امتداد لرؤية معدة سلفا منذ عهد الحكومة السابقة، وقبل الانتخابات ومنها منازعة رئيس الحكومة في اختصاصاته رغبة في افتعال أزمة كانت ستدفع في انتخابات سابقة لأوانها، لكنها لم تقع لاحتواء تلك الأزمة من طرف رئيس الحكومة.
 
فالتعدي على الاختصاصات من وزراء محسوبين على الإدارة، لم يكن إلا نقطة البدء من تضييق السلطة على العدالة والتنمية، خصوصا في مجالس التسيير، فبرزت بقوة في مجلس مدينة الرباط، لما للعاصمة من تأثير، حيث تجاوز الوالي المعين اختصاصاته ليقوم بالتضييق على  اختصاصات عمدة المدينة المنتخب _والذي سيصبح وزيرا للداخلية مع حكومة العثماني_، بل ذهب التضييق بعيدا إلى حد الرغبة في إسقاطه من التدبير، ولم يتوقف الأمر إلا مع كشف وثيقة لما سمي إعلاميا في المغرب ب”خدام الدولة”، والتي استفاد منها مقربون من الدولة وكبار المسؤولين من أراضي بأرقى الأحياء في العاصمة مقابل ثمن زهيد أو بدون مقابل، وكان ذلك كافيا لكشف طبيعة الآليات التي يوظفها النظام السياسي لتقريب النخب منه، وهي قائمة على الأعطيات والهبات بعيدا عن القانون والشفافية وآليات الحكامة؛ كل ذلك الريع الممنوح مقابل خدمات، وهو ما يفسر طبيعة الفساد الذي يعد جزءا من بنية نظم الحكم في عالمنا العربي ومنه المغرب.
 
_تخفيض العتبة الانتخابية: تلك كانت إحدى الأدوات التي سعت من خلالها السلطة للتحكم في نتائج الانتخابات البرلمانية سلفا، فعوض رفع العتبة لتجاوز الاختلالات التي يعرفها المشهد الحزبي المفكك، والدفع بالأحزاب المتجانسة إيديولوجيا وسياسيا إلى الاندماج لتشكيل أقطاب سياسية تخلص المغرب من حالة الفسيفساء في مشهده الحزبي والتي تعد من العوامل المعيقة للانتقال الديمقراطي، تم تخفيضها من 6 في المائة إلى 3 في المائة، بذريعة ضمان تمثيلية أكبر داخل البرلمان المرتقب وحفظ التعددية الحزبية التي نهجها المغرب منذ الاستقلال، لكن المضمر في ذلك وغير المصرح به، أن تخفيض العتبة بدل رفعها، كان بغاية منع إقامة أقطاب سياسية كبرى، لما لها من أثر ضمان حزب أو حزبين تشكيل الحكومة، وهو ما يهدد مصالح القوى الراعية للاستبداد في المغرب.
 
وفي كلمة، فإن تخفيض العتبة تم الدفع به بعد استخلاص نتائج انتخابات 4 من شتنبر 2015، والتي قدمت المعطيات حينها وسجل مراقبون مختصون بأن حزب العدالة والتنمية سيتصدر الانتخابات البرلمانية _بعد سنة_ وبفارق كبير، وهو ما دفع السلطة إلى تفعيل كل آليات الإضعاف بغاية الضبط للمشهد السياسي الذي بدأ يتفلت من قبضة السلطة مع تنامي الوعي المجتمعي وسعي أحزاب لتحرير إرادتها، ومن تلك الآليات افتعال الحروب ذي الصبغة الأخلاقية.
 
_افتعال حروب أخلاقية مع العدالة والتنمية والاستثمار الإعلامي فيها: وكان ذلك بغاية النيل من شعبيته، بإعمال أدوات التجسس على قيادات العدالة والتنمية، أو الحركة الدعوية “التوحيد والإصلاح” القريبة منه.
 
هذا عن بعض ملامح الأدوات التي تم تفعيلها من طرف السلطة والقوى القريبة منها، إعدادا للانتخابات البرلمانية، وفي موازاة ذلك نجد تفعيل ردود ذي صبغة مقاومة موازية وإعمال أدوات فعالة لتخفيف الضغط من طرف رئيس الحكومة وحزبه والقوى الديمقراطية.
أدوات رئيس الحكومة وحزب العدالة والتنمية لتخفيف ضغط السلطة:
_الجمع بين وظيفتي التدبير والمعارضة في الآن ذاته من طرف رئيس الحكومة وأمين عام العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران، وهذا قد يكون مثار استغراب، لكن رئيس الحكومة طيلة خمس سنوات جمع بين الوظيفتين، فكان رئيس حكومة وفي الآن ذاته، يظهر في الجلسات الشهرية بالبرلمان والإعلام بمثابة المعارض الأول، ولتوصيف مدى حدة المعارضة وخصوصا الصراع الذي يطفو للسطح أحيانا مع المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة، اعتبر أحد الباحثين أن “السيد بنكيران يمثل _في نفس المخيال العام_ الكبرياء الشعبي وشطارة المستضعف، ولكنه القادر على توجيه لكمات مؤلمة يصفق لها الجمهور” في مقابل “السيد فؤاد عالي الهمة الذي يمثل “في نظر الرأي العام قفاز الملاكمة الذي تلبسه ذراع السلطة”[20]
 
ويمكننا إرجاع حدة المعارضة التي كان يظهر بها بنكيران لنسق الحكم أو بعض شخوصه لسببين اثنين، أولهما إدراكه أن حجم الصلاحيات التي يمتلكها لإنفاذ سياساته ضعيفة، مقابل دوائر أخرى في السلطة لها تأثير أكبر وتمتلك السلطة الفعلية، ومن تم فممارسة التدبير لسياسات غير مسؤول عنها كليا وتبريرها للرأي العام دون الدفاع عن موقعه السياسي، قد يجعل خمس سنوات كافية لإضعاف حزبه، ولذلك نهج استراتيجية المعارضة والاحتجاج أكثر من المعارضة نفسها، وقد مر بنا كيف تم سحب التوقيع منه من طرف وزيرين، وذلك يجلي طبيعة بنية الحكومة التي تكون فيها توازنات قوى أخرى ليست بالضرورة التي أفرزها المشهد السياسي الانتخابي، وهو أحد أسباب عرقلة الحكومة الحالية، ومن معيقات الديمقراطية في المغرب.
 
السبب الثاني في نهج استراتيجية الجمع بين التدبير والمعارضة، هو درس التاريخ الذي استفادة بنكيران من تجربة الانتقال الديمقراطي المجهض مع عبد الرحمن اليوسفي زعيم الاتحاد الاشتراكي، هذا الأخير الذي ظل صامتا دون مقاومة تذكر للضغط الذي كان يقع عليه من القوى المعادية للتغيير أو التي تحصن مصالحها تحت جبة السلطة، فكان صمته وهو في السلطة مع عدم ممارسة السلطة كاملة[21] كما ذكر في محاضرة له ببروكسيل، أحد أسباب إضعاف الاتحاد  الاشتراكي إلى جانب إخلاف الموعد مع الديمقراطية حينها، وهي التجربة التي يحاول أمين عام حزب العدالة والتنمية بنكيران معاكستها لتجنيب حزبه الإضعاف، وتحقيق انتقال ديمقراطي وفق صيرورة تستفيد من التراكم.
 
_الاستثمار في مقول التحكم ومحاولة خلق جبهة سياسية مقاومة له: ومفهوم التحكم[22] من المصطلحات التي سكها عبد الإله بنكيران في صراعه السياسي مع قوى داخل الدولة أو أدواتها الحزبية في المشهد السياسي، والتي تطلع بأدوار ما سمي عقب استقلال المغرب بالقوة الثالثة التي دفعت إلى إجهاض الانتقال الديمقراطي مع حكومة عبد الله سنة 1960، وقد ظل مفهوم التحكم  يشكل جوهر الخطاب السياسي لبنكيران طيلة سنة 2016، إلى حين تصريحه في لقاء حزبي بشبيبته كان يرصد فيه تحديات انتخابات 7 أكتوبر، ألمح فيه إلى وجود دولتين في المغرب[23] واحدة يرأسها الملك محمد السادس، وأخرى لا يدري من أين تأتي قراراتها،  وهو تصريح فيه حدة غير مسبوقة في توصيف طبيعة الصراع داخل النسق السياسي المغربي وبنية نظامه، وذلك لكونه صادر عن رئيس حكومة وليس فاعل سياسي عادي.
لذلك جاء الخطاب الملكي لعيد العرش الماضي الذي خصصه للانتخابات،  متضمنا لانتقاد ضمني لتصريحات عبد الإله بنكيران، بالقول “غير أن ما يبعث على الاستغراب، أن البعض يقوم بممارسات تتنافى مع مبادئ وأخلاقيا ت العمل السياسي، ويطلق تصريحات ومفاهيم تسيء لسمعة ا لوطن، وتمس بحرمة ومصداقية المؤسسات، في محاولة لكسب أصوات وتعاطف النا خبين” [24] ، وهو ما دفع بنكيران إلى تخفيف حدة خطابه المستند على مقولة التحكم، لكن المفهوم ظل حاضرا بين الفينة والأخرى من مختلف الفاعلين والنخب لتوصيف الأزمات السياسية والدوافع الخفية المتحكمة فيها، سيما أن هذا استحضار هذا المفهوم الكاشف لطبيعة اشتغال البنية السلطوية للدولة سيصبح نهجا لأحزاب سياسية أخرى هي التقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال، وستشكل مع العدالة والتنمية أرضية سياسية مشتركة وأفق سياسي موحد بغاية الدفاع عن استقلالية القرار والإرادة الحزبية وتأمين مسار الانتقال الديمقراطي بل إن حزبا العدالة والتنمية وحزب التقدم والاشتراكية أعلنا قبل الانتخابات التحالف فيما بعد ظهور النتائج سواء بالحكومة أو المعارضة، هذا الاصطفاف السياسي ستعمل بنية السلطة على عرقلته  في محاولة عزل حزب العدالة والتنمية عن أي تحالف قد يشكل له قوة في المشهد السياسي، وكان ذلك جليا في إصدار الديوان الملكي بلاغا انتقد فيه تصريحات نبيل بن عبد الله أمين عام حزب التقدم والاشتراكية لما انتقد من يقف خلف تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة، وأشار إلى التحكم، وفي ذلك ضغط مارسته السلطة على أي تحالف استراتيجي يمكن أن يحدث بالمشهد السياسي بعيدا عن رقابتها المعتادة.
_وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد: فهذا الأخير وسيلة فعالة في تنمية الوعي السياسي وإشراك شريحة واسعة من المغاربة المنخرطين بفعالية في مواقع التواصل الاجتماعي، في النقاش السياسي بعيدا عن رقابة الإعلام التقليدي الخاضع لدوائر السلطة والمدافع عن أطروحاتها وخياراتها، ومادام حزب العدالة والتنمية من أبرز الأحزاب ذي البنية التنظيمية القارة، والقوة المنظمة في المشهد السياسي وذات العمق الاجتماعي والحاضنة الشعبية، فقد كان الإعلام الجديد أداة فعالة في التعبئة والحشد السياسي ونقد ممارسات السلطة ومسلكياتها، وهو نهج عام انعكس عند أغلب الفئات المجتمعية في تعاطيها مع الإعلام الجديد، حيث يعتبر وسيلة فعالة للنقد وممارسة الرقابة.
_تمديد سنة لعبد الإله بنكيران في قيادة الحزب في مؤتمر حزبه الاستثنائي: وقد كان ذلك بمثابة جواب عن رئيس الحكومة المقبل الذي يقدمه حزب العدالة والتنمية، ومنح بنكيران ديمقراطية حزبية في انتظار الديمقراطية الشعبية.
 
4) انتخابات 7 أكتوبر 2016وأزمة تشكيل الحكومة. رصد وتحليل.
 
أ_ الانتخابات البرلمانية والسياقات الوطنية والإقليمية.
تعتبر انتخابات 7 أكتوبر ثاني انتخابات برلمانية في سياق الدستور الجديد، لكن مع فارق أن انتخابات 25 نونبر  2011 كان رهان الدولة المغربية عليها قويا لتهدئة احتجاجات الشارع وامتصاص ضغط السياق الإقليمي المتفجر، لذلك رفعت السلطة يدها قليلا عن الانتخابات حينها وتحقيق جانب كبير من حياد السلطة، أما السياق الوطني والإقليمي لانتخابات السابع من أكتوبر الماضي، فإنه يختلف جذريا عما سبق، حيث عرفت موجة الربيع العربي ارتدادات مقابل تمدد ما سمي الثورات المضادة في كل دول الربيع العربي، وكانت سمة الارتداد موجهة ضد كبح إرادة الديمقراطية من جهة، ومن جانب آخر تقليص حضور الإسلام السياسي وتحجيمه في مختلف الدول التي مرت بها موجة الاحتجاجات الثورية أو الإصلاحية كما هو حال المغرب، الذي تأثر مع الحكومة الثانية لعبد الإله بنكيران سنة 2013  وكانت على مقاس الارتدادات الإقليمية الجارية.
 
إن التغيرات الإقليمية المستمرة ستشكل  اختبارا حقيقيا للدولة المغربية في إرادة الإصلاح السياسي وتأمين مسار الانتقال الديمقراطي، فكانت آليات الإضعاف المستعملة من طرف السلطة طيلة سنة 2016  للمشهد السياسي الحزبي بتحجيم فاعليه الرئيسيين، مجرد مقدمات ممهدة لانتخابات 7 أكتوبر 2016، التي عرفت صراعا حادا بين القوى الديمقراطية من جهة، مقابل الأحزاب المدعومة من السلطة ومركب السلطوية داخل بنية الحكم، والذي تعمق أكثر وانكشفت ملامحه مع  أزمة تشكيل الحكومة التي استمرت قرابة الستة أشهر  منذ إعلان نتائج الاقتراع وتعيين الملك لأمين عام حزب العدالة والتنمية _عبد الإله بنكيران_ المتصدر  للمشهد السياسي والانتخابي رئيسا للحكومة يوم 10 أكتوبر.
 
فالمرحلتين معا، بحاجة لرصد أبعادهما من خلال نتائج الاقتراع والتوقف مع القوى الفاعلة والمؤثر في عرقلة تشكيل حكومة عبد الإله بنكيران والإخراج الهجين لحكومة سعد الدين العثماني بعد الإعفاء غير الدستوري لبنكيران حسب الكثير من الخبراء، ذلك سيدفعنا إلى تجلية الأسباب الكامنة وراء الأزمة السياسية والخيارات الممكنة ومستقبل الديمقراطية بالمشهد السياسي المغربي.
 
ب_ الصراع السياسي على أرضية الانتخابات وسؤال الديمقراطية.
لم تنل مرحلة تدبير الحكومة من شعبية حزب العدالة والتنمية كما كان منتظرا، ويعزى ذلك في نظر المتتبعين لعدة أسباب، منها ما هو مرتبط بواقع الأحزاب المغربية التي أصبحت منهكة بفعل توليها تدبير الشأن العام الوطني والمحلي مراحل حكومية متتالية أكسبتها سمعة سيئة في المشهد السياسي المغربي، ما جعلها عاجزة عن تقدم بديل منافس لحزب العدالة والتنمية.
 
عامل ثاني جنب حزب العدالة والتنمية كلفة التدبير خصوصا مع بعض السياسات اللاشعبية  التي نهجها من خلال إجراءات تضررت منها شرائح اجتماعية مختلفة، قوته التنظيمية وبنية مؤسساته التي تعرف ديمقراطية داخلية مفتقدة في أحزاب أخرى تحتكم للولاءات الشخصية والمنافع التي يمكن أن يقدمها الانتماء الحزبي والممارسة السياسية في غياب شبه تام لقيم  حاكمة، ولا يمكن إغفال عامل ما اصطلح عليه “نظافة اليد” لوزراء حزب العدالة والتنمية والتي أصبحت نموذجا صارت عليه الأحزاب الديمقراطية الأخرى التي شاركته التحالف الحكومي، وفي مقدمتها حزب التقدم والاشتراكية؛ حيث إن شبه الفساد ظلت قليلة أو منعدمة لدى وزراء حكومة عبد الإله بنكيران، باستثناء بعض النماذج في الأحزاب القريبة من السلطة، لكنها لا ترقى إلى الفساد السياسي الذي ظل يطبع المشهد السياسي المغربي، فاقترن الاستوزار أو المسؤولية في مؤسسات الدولة  بالفساد المالي والسياسي.
 
هذا النموذج الجديد في التدبير، القائم على التعفف والحكامة، رغم كونه  عاملا من العوامل التي ساهمت في إبقاء الإقبال المجتمعي على العدالة والتنمية بمنحه جزء كبير من ثقة الكتلة الناخبة، إلا  أنه  لا يفسر حقيقة نتائج الانتخابات والمشهد السياسي برمته، والذي لا يمكن تجليته دون التوقف مع الاستراتيجية التواصلية التي كان ينهجها عبد الإله بنكيران في خطابه السياسي، وهو خطاب يعتمد على لغة قريبة من المجتمع لم يألفها الرأي العام من النخب السياسية التي كان خطابها السياسي يتسم بالتكلس والجمود، بل إن  بنكيران أعطى حيوية بخطابه للمشهد السياسي وجعل من الرأي العام الذي كان أغلبه معتزلا السياسة، فاعلا رئيسيا مؤثرا في الكثير من القضايا من خلال سلطة الإعلام الجديد؛ رغم أن الكثير  يعيب على بعض مناحي خطابه السياسي، القاموس السلطاني العتيق الذي ينهل منه لتوصيف علاقته بالمؤسسة الملكية.
 
إن البعد التواصلي الفعال لزعيم حزب العدالة والتنمية والذي اعتبرناه سلفا بكونه  يجمع بين وظيفة التدبير ووظيفة المعارضة للنسق السياسي، وقدرته وقدرة الحزب على تدبير الصراع بالتمييز بين لحظات المواجهة السياسية التي تتطلب مواقف حاسمة والمناورة وتقديم التنازلات أحيانا لما يكون السياق السياسي والمجتمعي يقتضي المرونة اللحظية لكسب رهان استراتيجي، والقوة التنظيمية لحزب العدالة والتنمية ومدياته الواسعة على الحشد والتعبئة؛ كل تلك العوامل مجتمعة يضاف لها هشاشة المشهد السياسي والحزبي، تفسر حفاظ حزب العدالة والتنمية على التقدم في نتائج الانتخابات التي كان الصراع عليها قويا تقدم مختلف القوى السياسية والدولة إليها باعتبارها لحظة مفصلية لكل منها رهانه المنتظر.
 
ولج حزب العدالة والتنمية _والقوى الديمقراطية الأخرى  وبالأخص حزب التقدم والاشتراكية_ للانتخابات التشريعية بغاية الانتصار وتحقيق الفوز الانتخابي لاستكمال مسيرة الدمقرطة كما وعد الحزب الناخبين، وقد كان دعم السلطة جليا لحزب الأصالة والمعاصرة منذ ما قبل الانتخابات من خلال عدة وسائل، إما بدفع الأعيان التي كانت تترشح باسم الأحزاب الأخرى  للترشح باسم الأصالة والمعاصرة مع التضييق على النخب التي سعى العدالة والتنمية ترشيحها على قائمة لوائحه في الدوائر التي تعرف منافسة مع غريمه الأصالة والمعاصرة،[25] التضييق نفسه طال حزب التقدم والاشتراكية بالتضييق على مرشحيه من جهة ومن جانب آخر استصدار الديوان الملكي لبلاغ ينتقد فيه أمين عام الحزب لما انتقد التحكم ومؤسسي حزب الأصالة والمعاصرة والدعم الذي يحصل عليه كما أشرنا في السابق.
 
ولم يخلوا الصراع في الإعداد للانتخابات وتوجيهها لخدمة رهان السلطة من طرائف، حيث تم اللجوء إلى استعارة النموذج المصري في تشويه الإخوان المسلمين من طرف موالي النظام القديم واتهامهم بأخونة الدولة، التهمة ذاتها وبنفس الخطاب الإعلامي التحريضي، تم تنظيم مسيرة وطنية مناهضة لما سمي أخونة الدولة بالمغرب رغم اختلاف السياقات الوطنية لكن المد الإقليمي المناهض للديمقراطية والكابح لإرادة التغيير لم يكن يميز بين إصلاح وثورة أو قوة سياسية في المغرب لها رؤيتها وأخرى في مصر قد تختلف عنها، وقد اتضح فيما بعد تيسير السلطة لتلك المسيرة _التي كانت عبارة عن مهزلة لم يستطع أحد تبنيها لفشلها_ التي حشر الناس فيها من قرى وضواحي المدن بتعبئة من أعوان السلطة.
 
هذا المسلك غير المشروع في الصراع والذي أصبح مثار تنذر على المغرب،  لما انضاف إلى التضييق الحاصل على مرشحي الأحزاب المستقلة، أدى إلى تفجير الصراع بين وزير العدل والحريات المنتمي لحزب العدالة والتنمية مصطفى الرميد ووزير الداخلية محمد حصاد، وهما معا من أعضاء اللجنة المشرفة على الانتخابات التشريعية، فاعتبر الرميد في بلاغ نشره على صفحته “بالفايسبوك” أن الإعداد للانتخابات يعرف عجائب وغرائب، مهددا بالقول “وزير العدل لا يستشار ولا يقرر في هذا الشأن، ما يعني أن أي رداءة أو نكوص أو تجاوز أو انحراف لا يمكن أن يكون مسؤولا عنه”، هذا الخروج للرأي العام ببلاغ كشف بشكل جلي   رهانات السلطة وميولاتها في توجيه مخرجات الانتخابات التشريعية، كما شكل ضغطا على وزارة الداخلية التي سترد  التهم وتنفي التدخل لصالح أحزاب بعينها، وفي الآن ذاته يعتبر عاملا في دفع الدولة إلى تحمل كامل مسؤولياتها عن الانتخابات بحماية نزاهتها حماية للانتقال الديمقراطي وترسيخا للإرادة الحقة للدمقرطة.
 
في هذا الجو من الصراع السياسي مرت عملية الحشد والتعبئة الانتخابية، ولم يسلم منه يوم الانتخابات، الذي ستنجلي فيه خروقات أظهرت بجلاء عدم حياد السلطة المشرفة على الانتخابات وإرادة الدولة في التراجع عن مسار الانتقال الديمقراطي ، وهو ما جعل الصراع ثنائيا بين حزب العدالة والتنمية ووزارة الداخلية التي حاولت جاهدة تمهيد سبل الفوز لحزب الأصالة والمعاصرة، لكن أدوات الضغط الإعلامي من خلال وسائط الاتصال الحديثة التي تكشف الخروقات في حينها وتعمل على تأليب الرأي العام ضد الانحرافات التي تقع فيها السلطة، إلى جانب بيانات مسترسلة من حزب العدالة والتنمية وصلت إلى التلميح بالطعن السياسي في الانتخابات في حال تزويرها، وكذا انسحاب مصطفى الرميد وزير العدل والحريات من لجنة الإشراف على الانتخابات، كل ذلك ومعه تعبئة الحزب لأتباعه لمتابعة العملية الانتخابية عن كثب، خفف من حدة التأثير السلبي على الانتخابات، لتكون المبادرة بعد ذلك في الإعلان الأولي لنتائج الانتخابات من حزب العدالة والتنمية منعا لأي تزوير قد يطال النتائج ويفتح حدة الصراع أكثر.
 
مباشرة بعد إعلان حزب العدالة والتنمية عن النتائج وكشفه تصدره لها، ظهر وزير الداخلية ساعة بعد الوقت المقرر، ليعلن عن النتائج الأولية دون أن ينسى الطعن في السلوك الذي انتهجه العدالة والتنمية، بل ذهب إلى حد تشكيكه في ولائه لمؤسسات الدولة وعلى رأسها الملكية، وتلك كانت إشارة سلبية تبدي مدى الصراع وحدته، وتكشف إرادة السلطة في عدم رضاها عن تصدر الحزب الإسلامي النتائج ب 125 مقعدا على الأصالة والمعاصرة الذي حصل على الرتبة الثانية ب 102 من المقاعد، وهي المقاعد التي شكك فيها الفاعلون بعد الانتخابات.
 
ونورد النتائج الرسمية التفصيلية لانتخابات السابع من أكتوبر الماضي المشكلة للمجلس الذي يتكون من 395 نائبا برلمانيا من خلال الشكل التالي:

استنادا للنتائج المعلن عنها من طرف مجموع مكاتب التصويت على إثر انتهاء عملية فرز وإحصاء الأصوات بالنسبة لكل الدوائر الإنتخابية المحلية والدائرة الإنتخابية الوطنية
استنادا للنتائج المعلن عنها من طرف مجموع مكاتب التصويت على إثر انتهاء عملية فرز وإحصاء الأصوات بالنسبة لكل الدوائر الإنتخابية المحلية والدائرة الإنتخابية الوطنية
 
ج_ انعكاسات نتائج الانتخابات التشريعية على المشهد السياسي المغربي.
برز إلى المشهد السياسي بعد الانتخابات مباشرة أبعادا متعددة من النقاش السياسي بين المهتمين وتحركات للفاعلين السياسيين لاستيعاب أثر نتائج الاقتراع، نثيرها بشكل مجمل ثم ننظر في أثرها، فأول خطوة كانت سعي حزب الأصالة والمعاصرة الذي راهنت السلطة على فوزه وحل ثانيا، إلى تشكيل ائتلاف برلماني يوم 8 أكتوبر 2016 يرفض التحالف مع حزب العدالة والتنمية المتصدر للنتائج، وسينجلي فيما بعد أن هذا المخطط لم يتحقق في حينه بعد رفض أمين عام حزب الاستقلال الانخراط فيه وإعلانه الاصطفاف إلى جانب حزب العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية، رغم ذلك استمر  المخطط الذي وسم بكونه انقلابا ناعما، في صيغة أخرى  لإعاقة تشكيل الحكومة، حيث وجهت السلطة كل دعمها لحزب التجمع الوطني للأحرار الذي غير أمينه العام مباشرة بعد نتائج الانتخابات، وتم تعيين رجل الأعمال المقرب من القصر عزيز أخنوش رئيسا له، ليشكل ائتلافا رباعيا يطلع بالمهام التي كانت موكلة في المشهد الحزبي للأصالة والمعاصرة، وسيتقدم  بشروط تعجيزية _كما سنرى في المسار التفصيلي للتفاوض من أجل تشكيل الحكومة_ في التفاوض مع رئيس الحكومة، يحاول من خلالها إفراغ الحكومة المنتظرة من مضمونها السياسي والشراكة مع رئيس الحكومة في اختصاصاته التي يخولها له الدستور، وذلك أهم الأسباب التي عرقلت تشكيل الحكومة وأدامت الأزمة السياسية الغير مسبوقة في التاريخ السياسي المغربي قرابة الستة أشهر، إذ رفض عبد الإله بنكيران أدوات الإخضاع والتطويع التي مورست معه، كما سنرى مع سياقات أزمة تشكيل الحكومة، والتي تتجلى أنها إرادة تتجاوز الأحزاب السياسية المناكفة لرئيس الحكومة المعين، لتكون تعبيرا عن رغبة الدولة في إضعاف مخرجات الانتخابات وأفقها في تحقيق الانتقال الديمقراطي.
 
ثاني انعكاس ستتلقفه النخبة السياسية والأكاديمية بالدرس والتحليل، موضوع الثنائية القطبية الذي نال بعض الاهتمام عقب الانتخابات، وظهر فيما بعد أنه مجرد سجال إعلامي لا يعكس حقيقة المشهد السياسي المغربي وتموقع الأحزاب فيه، ومن ذلك أن حزب الأصالة والمعاصرة الحاصل على 102 من المقاعد، لم يحرز على الموقع الثاني في النتائج  بالاعتماد على قوته السياسية والمجتمعية الخالصة، وإنما بدعم السلطة ليكون في سدة التدبير كما هي عادة النظام السياسي المغربي في تعامله مع الواقع الحزبي والسياسي منذ الاستقلال، وبسبب ذلك تنامت قوته العددية وعاد الرهان عليه مقابل إضعاف الأحزاب الوطنية القريبة من العدالة والتنمية، إعاقة لأي تحالف سياسي، حيث إن أي اصطفاف سياسي للأحزاب التي تعد امتدادا للحركة الوطنية مع حزب العدالة والتنمية كان يشكل فوبيا للسلطة، ولذلك عملت جاهدة على عزله وإضعاف حلفائه السياسيين قبل الانتخابات وبعدها، وفي مقدمتهم حزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية.
 
ومن ذلك يمكن اعتبار  موضوع القطبية الذي أثير مجرد وهم لا يعكس حقيقة البنية الحزبية بالمغرب، لأن أغلب المقاعد البرلمانية لحزب الأصالة والمعاصرة _أو الأحزاب القريبة من السلطة_ لأعيان تمت استمالتهم بإغراءات أهمها تحصين مصالحهم والكسب من وراء السياسة، إذ كان ينتظر  في نظر السلطة  أن يكون حزب الأصالة والمعاصرة هو الفائز في الانتخابات والمشكل للحكومة، فالمرشحون على لوائح حزب الأصالة والمعاصرة أغلبهم ليسوا سياسيين، ومن تم لا يمكن أن يمارسوا معارضة سياسية للحكومة المقبلة في البرلمان وهو ما يعني حضورهم الضعيف في البرلمان والمرحلة الحكومية الحالية.
 
وما دام رهان الدولة على حزب الأصالة والمعاصرة فشل  ولم يكتب له التحقق، فإن مستقبل الحزب الذي كان مراهنا عليه انتهى سياسيا مع الانتخابات الماضية، وينتظره التفكك في أفق أي انتخابات مقبلة أو العودة لحجمه الطبيعي كسائر الأحزاب الإدارية التي لا يمكن أن تستمر بعيدا عن رعاية السلطة، وهو الأمر الذي أثبت فشله في ظل تنامي الوعي المجتمعي وعدم فعالية الآليات التقليدية في ضبط المشهد الحزبي الذي أصبح متفلتا، بل إن  رهان الدولة الذي ظهر عقب الانتخابات على حزب التجمع الوطني للأحرار  الذي اطلع بمهمة عرقلة تشكيل الحكومة، أو إفراغ اقتراع السابع أكتوبر من مضمونه السياسي بإخراج حكومة هجينة، ذلك الرهان الجديد  على حزب إداري آخر هو إعلان للنهاية السياسية لحزب الأصالة والمعاصرة.
 
ومما أثير عقب الانتخابات وكان له صدى في المشهد السياسي، متعلق بمدى احترام الملك للمنهجية الديمقراطية بتعيين أمين عام الحزب الفائز رئيسا للحكومة أو الاستغناء عنه بشخصية أخرى من داخل الحزب تعكس رضا القصر، فإن حزب العدالة والتنمية دبر ذلك بتمديد سنة لأمينه العام في مؤتمر استثنائي _كما أسلفنا في الآليات التي فعلها الحزب في معركة ما قبل الانتخابات_، بغاية استكمال أوراش الإصلاحات وتأكيدا لقواعد الحزب وقيادته على أداء أمينه العام في الحكومة، ثم قدمه للترشح للمساءلة الشعبية في الانتخابات التشريعية، فلم يكن أمام الملك _من حيث الظاهر_ غير مسايرة الإرادة العامة واحترام المنهجية الديمقراطية، حيث لا يمكن للملك أن يظهر للرأي العام على خلاف مع الاختيار الديمقراطي الذي يعتبر أحد ثوابت المملكة المضافة للدستور الجديد، وبذلك قام الملك بتعيين أمين عام حزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران  رئيسا للحكومة يوم 10 أكتوبر 2016 لتشكيل الحكومة، والتي سنتوقف مع سياق تعثرها والعوامل الفاعلة في ذلك.
 
خلفيات عرقلة تشكيل حكومة عبد الإله بنكيران وإجهاض الانتقال الديمقراطي مرة أخرى.
 خلفيات الصراع مع أزمة تكيل حكومة عبد الإله بنكيران.
بعد تعيينه من طرف الملك، باشر رئيس الحكومة المعين حينها عبد الإله بنكيران مشاوراته مع الأحزاب، وقصر التفاوض بداية في أحزاب الأغلبية السابقة (الأحرار، الحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية) إلى جانب حزب الاستقلال الذي أعلن اصطفافه القبلي مع العدالة والتنمية، لكن رئيس الحكومة _الذي تم إعفاؤه فيما بعد_ ظل ينتظر  مؤتمر حزب الأحرار لإعلان عزيز أخنوش رئيسا له، بعدها استمرت الزيارة الملكية لدول إفريقية قرابة الشهر، وكان رفقته عزيز أخنوش الذي يشغل منصب وزير للفلاحة والصيد البحري، بعد عودته وفي أول لقاء له ببنكيران أعلن تحفظه على حزب الاستقلال، وهو ما رفضه أمين عام العدالة والتنمية المكلف بتشكيل الحكومة، رغبة منه في إحياء التوافق مع أحزاب الحركة الوطنية، وكذا حفظا لموقف حزب الاستقلال الذي رفض الانخراط في عرقلة تشكيل الحكومة يوم 8 أكتوبر.
 
إن موقع حزب التجمع الوطني للأحرار  في التفاوض كما ذكرنا سابقا، ستسنده أحزاب أخرى قريبة من السلطة هي الاتحاد الدستوري والحركة الشعبية، إلى جانب الاتحاد الاشتراكي الذي جرده زعيمه وقيادته من مواقفه التاريخية ونهجه السياسي الديمقراطي المستقل في إرادته وقراره الحزبي الذي شهدنا بعض فصوله في حديثنا عن مراحل الديمقراطية المجهضة مع عبد الرحمن اليوسفي وقبله في السبعينات والستينات مع عبد الرحيم بوعبيد وغيره، فتشكل ائتلاف رباعي يقوده عزيز أخنوش يطالب بالدخول جملة إلى الحكومة، وهو ما رفضه رئيس الحكومة باعتبار أن تعامله مباشر مع أحزاب مفرقة وليس مع ائتلاف، فما كان ينقصه بداية لتشكيل حكومته هو انضمام حزب أو حزبين إلى جانب حزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية الذي يربطهما به تحالف استراتيجي ووفاق على إرادة الديمقراطية ورفض التحكم السالب لقرار الأحزاب والساعي لضبط المشهد السياسي.
 
في ظل التجاذب مع بداية التفاوض حول تشكيل الحكومة، ستبرز عدة قراءات للخروج من المأزق السياسي، منها  الداعية إلى تشكيل حكومة أقلية بين العدالة والتنمية وحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية، في ظل تعنت عزيز أخنوش في رفض حزب الاستقلال وبداية إرهاصات تشكيل تحالف سيمارس على رئيس الحكومة حينها نوعا من الضغط الذي عده بنكيران  تدخلا في اختصاصاته باعتباره رئيسا للحكومة، وأنه لا يعكس الوزن السياسي لحزب التجمع الوطني للأحرار الذي لم يحصل إلا على 37 مقعدا، وذلك ضد الإرادة العامة للمواطنين، معتبرا أن تشكيل الحكومة مهم لحزبه وللوطن، لكن الحفاظ على المبادئ والقيم أهم[26]، وتلك المبادئ والقيم في نظر بنكيران كانت تؤطرها احترام الشرعية الديمقراطية التي أفرزتها نتائج انتخابات 7 من أكتوبر.
 
خيار تشكيل حكومة أقلية ظل غير واقعي في ظل واقع سياسي هش وبنية دولة لم تتحول بعد إلى عهد الديمقراطية حتى يكون في مكنتها الذهاب إلى إعادة الانتخابات إذا لم تحز الحكومة على تنصيب أغلبية البرلمان لها، وإلى جانب كون هذا الخيار  طرحه لفيف من النخبة السياسية المغربية الديمقراطية ولم يسنده واقع سياسي قوي، فإنه ظل بعيدا في نظر بنكيران الذي سعى لإحداث توافق بدل مناكفة غير محسوبة في نظام يعتمد التوازن وتعدد المشروعيات في سلوكه السياسي، ومن تم كان توقف المفاوضات في تشكيل الحكومة مدة طويلة واكبتها طروحات سياسية متعددة بقيت مستهجنة نظرا لعدم دستوريتها ولا شرعيتها.
 
لم يتم تحريك الوضع السياسي حينها إلا بعد تصريح أمين عام حزب الاستقلال في أحد لقاءاته الحزبية، التي أشار فيها إلى كون موريتانيا تاريخيا جزء من الأراضي المغربية، كما تضمن تصريحه إشارة لدور مستشاري الملك فؤاد عالي الهمة وزليخة نصري في التأثير في قرار حزب الاستقلال بخصوص مشاركة الحزب في حكومة 2012، واعتبر أن حزب الأصالة والمعاصرة وحزب الأحرار يطلعان بذات الدور الساعي إلى عرقلة تشكيل الحكومة من أحزاب لها امتدادا للحركة الوطنية[27] ما يعني استقلالية كبيرة في القرارات الحكومية؛ هاته التصريحات ذي البعدين الداخلية والخارجي سيتم استغلالها ضد حزب الاستقلال وموقعه في الحكومة _التي لم تولد كما أرادها بنكيران_، خصوصا الموقف الذي له علاقة بموريتانيا، الذي جعله في فوهة انتقادات لاذعة من طرف وزارة الخارجية المغربية[28]، سيما أن موريتانيا استنكرت تصريح أمين عام حزب الاستقلال، والتي سيكلف الملك رئيس الحكومية بزيارتها لتبديد أثر التصريح إلى جانب اتصاله شخصيا بالرئيس الموريتاني.
 
في موازاة الانتقاد الرسمي، شن  الإعلام والنخب الموالية للدولة حملة قوية ضد أمين عام حزب الاستقلال، مما سيدفعه إلى الاعتذار لموريتانيا، والتأكيد على أن نقاشه السياسي كان بمثابة سرد معطيات تاريخية وحسب، لكن وبالرغم من اعتذاره وتراجعه، فإن الحادث أثر في إضعاف حظوظه داخل الائتلاف الحكومي _الذي كان منتظرا أو الذي شكله سعد الدين العثماني_، وذلك ما ظهر   مرة أخرى مع عزيز أخنوش عقب لقائه برئيس الحكومة الذي أعلن حينها انطلاق مرحلة جديدة من المفاوضات بعد قرابة ثلاث أشهر  عقب ابتعاث القصر مستشارين ملكيين لحث رئيس الحكومة على التسريع في تشكيل الحكومة، وقد كان أحد المستشارين رئيس لجنة صياغة الدستور.
 
كانت زيارة المستشارين الملكيين لرئيس الحكومة مبددة لكل التكهنات التي كانت تذهب إلى استبدال أمين عام حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة، لكنها في الآن ذاته لم تنزع كل فتيل الصراع على أرضية نتائج الاقتراع، حيث ظهر حجم العرقلة أكثر من السابق وانكشفت إرادة النكوص عن مسار الدمقرطة بحدة، رغم أن حزب الاستقلال  بعد حجم الضغط  الواقع عليه  من طرف الدولة بسبب حادث موريتانيا، أعلن مساندته لرئيس الحكومة سواء من داخل الحكومة المرتقبة أو من خلال الأغلبية البرلمانية[29]، مع تفهمه للضغوطات التي يلاقيها رئيس الحكومة من أجل التخلي عن حزب الاستقلال، وإرادة التراجع عن الاختيار الديمقراطي كامنة في بنية الدولة التي تريد إخراج حكومة عاجزة عن الإسهام الفعال في السياسات العامة التي تعتبر مسؤولة مباشرة عنها أمام الكتلة الناخبة، رغم أن أغلب الملفات الاستراتيجية محجوزة في يد المؤسسة الملكية، وبذلك يكون المسعى الارتدادي الذي انكشف بجلاء يذهب إلى ترسيخ الطابع التنفيذي للملكية الذي جاء دستور 2011 للتحلل التدريجي منه في أفق الملكية البرلمانية.
 
المسعى الارتدادي وإرادة الدولة في التراجع عن مسار الديمقراطية سيتجلى أكثر مع آخر مرحلة للمفاوضات في عهد بنكيران، من خلال اصطفاف الأحزاب القريبة من القصر مضاف إليها الاتحاد الاشتراكي، والذي حاول رئيس الحكومة الحيلولة دون أثره على مسار تشكيل الحكومة بحصر التفاوض  في الأغلبية الحكومية السابقة، لكن خروج الرباعي الحزبي G4 بقيادة أخنوش ببيان رسمي يعلنون من خلاله ضرورة التفاوض معهم كائتلاف موحد، دفع رئيس الحكومة المعين إلى وضع حد للمشاورات ببلاغ يعتبر فيه أن الكلام انتهى مع عزيز أخنوش، بعد أن تبين أن هذا الأخير “في وضع لا يملك فيه القدرة الإجابة”، وهو رد من بنكيران جاء بمثابة رفض للابتزاز  والضغط الممارس علي ووضع حد لمدى التنازلات التي يمكن أن يقدمها في سبيل تشكيل الحكومة، بل إن المؤرخ والمحلل السياسي المعطي منجيب، اعتبر أن المفاوضات الحقيقية  انطلقت بعد  بلاغ “انتهى الكلام” مع القصر الذي يعرقل تشكيل الحكومة بدل دفع الأحزاب القريبة منه الاندماج فيها وتذليل عقباتها.
 
والمقصود هو التفاوض بين حزب العدالة والتنمية والقصر، لاعتبار أن الأحزاب التي كانت تناوئ تشكيل الحكومة هي مجرد أدوات في المشهد السياسي المغربي، يتم توظيفها من طرف السلطة، فكان بلاغ بنكيران رسالة إلى قوى في الدولة راعية للأزمة السياسية، وتعمل على دفعه لإعلان فشله أو تشكيل حكومة هجينة يتم من خلالها إضعاف حزب العدالة والتنمية بتحمله المسؤولية عن السياسات العمومية دون خضوعها للحكومة كاملة، ومن تم التحكم في أفق انتخابات سنة 2022 حيث يكون الأداء الضعيف والسيء بمثابة إنهاء للانفراج السياسي الذي أعلن عنه مع سياق الربيع العربي، حيث سيكون حزب التجمع الوطني الحاصل على دعم السلطة هو متصدر الانتخابات، لكن كل ذلك تم كشفه من خلال البلاغ المذكور، حيث تعتبر المرة الأولى في التاريخ السياسي المغربي الذي يجد فيه تشكيل الحكومة تصلبا بهذا النمط مرفقا بكشف كل حيثيات التفاوض للرأي العام الذي أضحى سلطة فاعلة ومؤثرة، وهو ما تجلى طيلة مسار الأزمة السياسية الحالية.
 
اتضح جليا أن هناك إرادة قوية لإفشال تشكيل الحكومة ودفع رئيسها للاستقالة، بفعل المعبر عنه من النخب القريبة من القصر او المحسوبة عليه، فمعلوم في المشهد السياسي المغربي به أحزاب لا تملك إرادتها وإنما هي مجرد قنوات لقوى سلطوية متلحفة بالحكم، أو تعبير صريح عن إرادة القصر، وبذلك كانت هناك رغبة قوية من الدولة في إنهاء مسار الانتقال الديمقراطي، وهو الذي سنلحظه مع الطريقة التي أعفي بها عبد الإله بنكيران وتركيبة حكومة العثماني.
 
كانت إرادة إفشال تشكيل الحكومة مع عبد الإله بنكيران ودفع رئيسها للاستقالة كما يتم تسريبه ببعض الإعلام أو النخب القريبة من السلطة، باتت  حقيقة مع اللقاء الوزاري الأخير في سياق التفاوض لتشكيل الحكومة، والذي أكد فيه الملك من خلال بلاغ للديوان الملكي على ضرورة المصادقة على قانون انضمام المغرب للاتحاد الإفريقي، وهو  ما دفع إلى هيكلة مجلس النواب قبل تشكيل الحكومة والفرز بين الأغلبية والعارضة، وقد عرفت مرحلة ما قبل انتخاب رئيس مجلس النواب مفاوضات أخيرة بين الفرقاء السياسيين قدم فيه بنكيران تنازلات جديدة بغاية الحفاظ على رئاسة مجلس النواب داخل الأغلبية الحكومية المنتظرة، أو أن يعلن حزب الاتحاد الاشتراكي الذي تقدم للترشح للمنصب الثالث في هرم السلطة بالمغرب مساندة الحكومة دون المشاركة فيها أو إرجاء دخولها سنة من الآن، لكن ذلك لم يتم، فتقدم التحالف الرباعي مدعوما من الأصالة والمعاصرة بمرشح (الحبيب المالكي) عن الاتحاد الاشتراكي الذي حصل على مجرد 20 مقعدا في الانتخابات، أي في ذيل الترتيب، مقابل عدم تقديم أي مرشح من الأحزاب القريبة من العدالة والتنمية الذي صوت إلى جانب حليفه حزب التقدم والاشتراكية بورقة بيضاء كاحتجاج سياسي، فيما قاطع حينها حزب الاستقلال جلسة التصويت، وذلك كان بمثابة اكتمال فصول مخطط “انقلابي ناعم” أعد يوم 8 أكتوبر وأشرنا له سابقا، لم يتحقق في حينه، لكن بنوده بدأت بالانكشاف تباعا لإجهاض ما سمي الإصلاح في ظل الاستقرار.
 
انتخاب رئيس مجلس النواب قبل تشكيل الحكومة وتوظيف ذلك للضغط على رئيس الحكومة بنكيران، كان في حينه ذروة الأزمة السياسية التي رأى  سعد الدين العثماني رئيس المجلس الوطني للعدالة والتنمية، أن حزبه تعامل معها “بأفق وطني رحب”، حيث إن سياق تقدم المغرب للعودة للاتحاد الإفريقي كان محط إجماع الأحزاب السياسية، لكن تدخل القصر لانتخاب رئيس مجلس النواب بغاية المصادقة على بنود الانضمام للمنظمة الإفريقية، كان يمكن أن يتم لصالح تشكيل الحكومة قبل البرلمان، وبذلك سيكون المغرب قد ربح رهانين اثنين حسب مراقبين، رهان داخلي متعلق بمسار الدمقرطة واحترام إرادة الناخبين ورهان الانضمام للاتحاد الإفريقي، لكن الإرادة لم تتوفر لذلك، فكان ولوج الاتحاد الإفريقي بعطب داخلي  رغم أهمية انضمام المغرب للمنظمة القارية، حيث إن كسب القضايا الإقليمية والدولية والتموقع السليم معها، لا يمكن أن يتم بعيدا عن ترسيخ الديمقراطية الداخلية.
 
وعن انعكاسات التراجع عن المسار الديمقراطي على بنية الدولة وسيناريوهات ما يجري قبل أن تكتمل أركانه مع إعفاء عبد الإله بنكيران وإخراج حكومة معزولة عن الشرعية الديمقراطية، نشير إلى تنبيه إسماعيل العلوي رئيس مجلس رئاسة مجلس حزب التقدم والاشتراكية _وهو من قيدومي زعماء اليسار_ لخطورته ودور الملك في تجاوز الأزمة بالتفعيل السليم للدستور واحترام مقتضياته بما يخدم الديمقراطية والاستقرار،”إذا أراد الملك، فعلا، أن يُفعل دستور هذا البلاد بشكل مطابق لقناعاته، ولروح الدستور، الذي وافق عليه، إلى جانب موافقة شعبه، فسنكون قد تجاوزنا عددا من العقبات” مضيفا بالقول “لكن إذا لم يأخذ (الملك) هذه المبادرة، فالأطراف التي تحدثتم عنها ستصبح صاحبة القرار، ويمكن أن تهدد حتى المؤسسة الملكية في حد ذاتها”[30]، وهنا يتضح مع قيدوم السياسيين المغاربة أن دور الملك كان يمكن أن يكون لصالح الدفع بالمسار الديمقراطي عكس ما حدث، حيث اتضح أن تلك الأطراف التي تحدث عنها مولاي اسماعيل العلوي هي صاحبة القرار[31]، وهو ما يزكي قول عبد الإله بنكيران في الصيف الماضي بكون المغرب فيه دولتان، وهي ما يعني حدة الصراع داخل بنية الحكم ذاته، حيث إن إعفاء عبد الإله بنكيران شكل رغبة قوية للدولة في التراجع عن المسار الديمقراطي، وعدم قدرة نظام الحكم الذي يجمع بين الوجه السلطاني العتيق المتمثل في بنية المخزن كثقافة سياسية ومؤسسات  وشكل الدولة الحديثة (من خلال المؤسسات)، عن التصالح مع الديمقراطية التي ظل يناكفها طيلة القرن العشرين، منذ قبل الحماية في رفض التحديث ثم بعد الاستقلال كما رأينا سلفا، والآن مع إجهاض مسار وليد معبر عنه بلحظة الربيع العربي.
 
إعفاء عبد الإله بنكيران وإجهاض الانتقال الديمقراطي مع حكومة العثماني.
كانت خمسة أشهر من من عرقلة تشكيل الحكومة دالة على إرادة التراجع عن المكتسبات الديمقراطية التي فتح لها المنفذ دستور 2011، ومما زاد التأكيد على ذلك   إعفاء رئيس الحكومة المعين عبد الإله بنكيران من منصبه، وهو الأمر الذي اعتبره البعض غير دستوري، ويعود بالمغرب إلى عهد السلطوية، بل أكثر من الحنين للسلطوية كما عبرت بذلك الفقيهة الدستورية رقية المصدق معتبرة أنه “حتى في بنية تسلطية قد يكون هناك منطق قائم في التعامل بين المؤسسات، أما ما وقع في حادث إعفاء بنكيران فقد افتقد إلى المنطق أساسا، لقد كان أقرب إلى  نظام السخرة”[32]، ونظام السخرة يذكرنا في المغرب ببنية المخزن، أي عهد ما قبل الحماية، وبنية المخزن تحميها ثقافة راسخة كما يقول عبد الله العروي، وهي تتسرب الى كل مفاصل المجتمع ثقافة ومؤسسات، فالمخزن عنده “نظام مسيطر تصبح العلاقة المخزنية، بالاستصحاب والاستتباع، هي الغالبة على الزاوية والقبيلة وحتى على الأسرة، كلما تطابقت هذه التنظيمات استمسك المخزن وتجذر، تتعاقب الأجيال، يتتابع الحكام، يتبدل الأشخاص، ويبقى النظام على حاله، ثابتا راسخا، وكذلك الذهنية العامة”[33]، وفي هذا السياق من التحليل للعروي يمكن أن نفهم اشتغال البنية التقليدية للسلطة وما أسفر عنه المشهد السياسي الحالي من تراجعات، فهي لا تعمل وفق المنطق والعرف الديمقراطي، الذي ينظر للإرادة العامة باعتبارها سلطة رقابة، حيث تكون العلاقة بين المجتمع والدولة قائمة التعاقد، ويكون الشعب كتلة من المواطنين، إنما يتم النظر للإرادة العامة باعتبارهم رعايا، وهو مفهوم لا يزال دارجا في الخطاب السياسي المغربي، والرعايا تمتج أساسها من قاموس منطق القبيلة والمجتمع الأهلي، وليس منطق الدولة والمجمع المدني والفاعل السياسي والحزب، والإنسان باعتباره مواطنا.
 
في ذلك السياق السياسي والدستوري والثقافي كما وقفنا مع رقية المصدق وعبد الله العروي جاء إعفاء عبد الإله بنكيران، وبمجرد تعيين خلفه الدكتور سعد الدين العثماني في رئاسة الحكومة ظهرت التراجعات في مخرجات تشكيل الحكومة التي لم تأتي موافقة للإرادة الشعبية المعبر عنها يوم 7 أكتوبر، ما يعني إنهاء ما سمي المكتسبات التي قدمها دستور 2011 وإجهاض مقولة الانتقال الديمقراطي دون أن ندخل في تركيبة الحكومة حيث استحوذت الأحزاب القريبة من السلطة على القطاعات الاستراتيجية مقابل القطاعات الهامشية التي نالها حزب العدالة والتنمية، وهو ما يعني العودة إلى البعد الأمني والتقني عوض السياسي والدستوري والقانوني، وهي أزمة تجلي أولوية النظم المستبدة التي تعيش حالة فوبيا من الديمقراطية وسلطة الإرادة العامة واهتمام المجتمع بالسياسة والدستور، لأن ذلك يهدد الاستفراد بالسلطة، ومنه نجد الاهتمام بمقولات التنمية عوض الديمقراطية، بينما دروس الحاضر تقدم لنا خلاصة مفادها أن المجتمعات التي تغيب فيها الديمقراطية تغيب معها التنمية.
 
وفي ربط تاريخي لصيرورة المطالبة بالديمقراطية وإجهاضها ينبغي أن نستحضر مشروع النخبة الوطنية في المطالبة بالدستور في عهد ما قبل الحماية، حيث أن غياب الديمقراطية مهد سريعا للاستعمار، وكانت مطالب النخبة الوطنية حينها الإصلاح الدستوري لمجابهة الاستعمار، ثم لم تضمحل مطالباتها بالدستور الى جانب مقاومة الاستعمار، فكان كفاحها مزدوجا كما رأينا مع علال الفاسي ومحمد عابد الجابري، وبعد الحماية مع إجهاض تجربة عبد الله إبراهيم عقب الاستقلال وعبد الرحمن اليوسفيفي بداية الألفية، وعلى منوال ذلك يمكن أن نقول الآن، إن مقولة التنمية دون ديمقراطية كما عبرت عن نفسها في الحكومة الحالية، أو ديمقراطية شكلية ومزيفة، تزيد من تعميق الأزمة التي ظل المغاربة يسعون لتجاوزها طيلة القرن العشرين، ونحن الآن في مطلع القرن الواحد والعشرين، ولا يمكن تجاوزها دون قطع مع الازدواجية الموروثة في بنية الحكم، والانتقال الفعلي للديمقراطية وتفكيك بنى وثقافة الحكم الموروث، ونقصد بنية المخزن كثقافة ومؤسسات، بما يقضي بعصرنة الملكية وفق منظور الملكية البرلمانية، التي تمنح للشعب حق الرقابة والمحاسبة والاشراك في الحكم والتدبير، وفي ظل غياب ذلك ومع فقدان الثقة الجاري في المؤسسات والنخبة والمشهد السياسي عقب تراجعات السنة الحالية التي تجلي انفصال الدولة عن المجتمع، في عدم الاستجابة لتطلعاته في الدمقرطة والإصلاح، سيكون المجتمع المغربي في المستقبل فاقد للرهان على الإصلاح التدريجي أقرب للاستجابة لدعوات التغيير الجذري، سيما أن الربيع العربي لم تنتهي موجاته بعد.
 
ختاما: إن الانتخابات البرلمانية السابقة كانت محط اختبار حقيقي لإرادة الدولة والملكية في المغرب بإمكانية الانتقال الديمقراطي، وهو الذي رأينا فصوله في التراجع التي قد انطلقت مع انتخابات 4 شتنبر 2015، لتتم بدعم السلطة للأحزاب القريبة منها في انتخابات 7 أكتوبر 2016 مقابل التضييق على الأحزاب والقوى الوطنية الديمقراطية وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية، فالأزمة كانت تجلية  لصراع إرادات، بين إرادة سعت للنكوص والتراجع وإغلاق مسار الانتقال، مقابل إرادة استمسكت بضرورة الدمقرطة، والقوتين معا كانا يعلمان على أن الرهان المنتظر كسبه هو رهان استراتيجي، إما أن نجاح القوة الديمقراطية في المعركة السياسية الحالية، وبذلك تكون قد خطت خطوة متقدمة في مسار الانتقال الديمقراطي، حيث كانت ستكون الانتخابات المقبلة، موعدا رسميا لإقرار ديمقراطية تكون معها الأحزاب القريبة من السلطة أضعفت وتلاشت، ومعها ينعدم رهان الدولة على الميكنيزمات التقليدية في ضبط المشهد السياسي وتتم مراجعة نمط الاقتراع وقوانين الانتخابات بما يجعل المغرب يلج عهد الملكية البرلمانية.
 
أو في المقابل يؤدي نجاح السلطوية والاستبداد في إقرار إرادته، مدعومة بسياق إقليمي ودولي رافض للديمقراطية وقوى الإسلام السياسي معا التي يعتبر العدالة والتنمية أحد أوجهها في المغرب، إلى إجهاض مسار الانتقال الديمقراطي جملة، وهو ما حصل مع إعفاء أمين عام حزب العدالة والتنمية ومخرجات تشكيل حكومة الدكتور سعدين العثماني _من نفس الحزب_، حيث إن القوى التي ناهضت عبد الإله بنكيران هي ذات القوى التي يسرت سبل تشكيل حكومة العثماني، التي تعتبر في السياق المغربي فاقدة للسند الشعبي ومتحللة من الإرادة العامة المعبر عنها يوم 7 أكتوبر الماضي في الانتخابات البرلمانية، وهذا له خطورته على مدى استقرار المغرب الذي لا يمكن تصوره بعيدا عن دمقرطة الدولة والمؤسسات واحترام الإرادة الشعبية، حيث إن الوعي المجتمعي المتنامي قد يتجه مستقبلا نحو خيارات جذرية في العلاقة بالدولة، سيما مع الوعي بمراحل إجهاض الانتقال الديمقراطي التي عرفها المغرب على مراحل عدة في تاريخه، أهمها مع عبد الله ابراهيم بعد الاستقلال، ثم في السبعينات ومع اليوسفي في نهاية التسعينات، إذ تعرض لذات القوى المناهضة للتغيير التي أسهمت في إجهاض الانتقال الديمقراطي مع عبد الإله بنكيران، والترسيم الفعلي للملكية التنفيذية ومعها العودة لما قبل دستور 2011.
 
لتحميل الدراسة من هنا
 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2017

“الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات 

[1] مفهوم التحكم يعود إطلاقه للأمين العام لحزب العدالة والتنمية، وصار دارجا عند كل النخب الوطنية المقاومة لنزعات التسلط المعبر عنها من قوى داخل مربع السلطة بالمغرب
[2] نذكر من ذلك كتابات علال الفاسي في كتابه المتميز “النقد الذاتي”، والذي يعتبر من أهم الكتب الفكرية التي يضع فيها عالم واسع الثقافة ورحب الفكر، أسس النهوض في مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمغرب، ويقدم في كتابه تصورا دقيقا عن طبيعة النظام السياسي لما بعد الاستقلال ومؤسساته وطريقة تشكيلها، لكن رغم وجود التفكير في قضية الديمقراطية وبناء مغرب ما بعد الاستقلال، فإنه لم يكن مطروحا للنقاش السياسي والمجتمعي بين مختلف الطيف الوطني، باعتبار أن الرهان الأول كان على طرد المستعمر، وأن طبيعة النموذج الديمقراطي يدبر بعد الاستقلال باعتباره شأنا داخليا يخص أبناء الوطن الواحد.
[3] محمد عابد الجابري، الديمقراطية في المغرب من التأجيل إلى التزوير..التنديد بالحكم الفردي والانتصار للديمقراطية، ص: 13 مواقف..شهادات وإضاءات، عدد 4.
[4] علال الفاسي، الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها، ص: 53.
 
[5] المصدر السابق، ص: 53.
 

[7] جبهة الدفاع عن المؤسسات، واختصارا تسمى “الفديك”، أسسها صديق الملك الراحل الحسن الثاني رضا اكديرة لإضعاف تموقع الأحزاب الوطنية.
 
[8] جون واتربوري، أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية المغربية، ص: 91، ترجمة عبد الغني أبو العزم، عبد الأحد السبتي، عبد اللطيف الفلق.مؤسسة الغني للنشر، الطبعة الثانية، سنة: 2004.
 
[9] يمكن الاشارة لانتفاضة 23 مارس سنة 1965.
[10] للنظر بتفصيل في السياق السياسي لتلك الحقبة الزمنية وتفاعلات القوى الرئيسية في المشهد السياسي، سيما القوة الرئيسية للمعارضة السياسية آنذاك “الاتحاد الاشتراكي”، يمكن الرجوع إلى كتابي الدكتور محمد عابد الجابري مواقف عدد 9، و10، حيث يوجد يوجد بهما جرد لطبيعة المواقف السياسية التي حكمت المرحلة وموقف الفاعلين الرئيسيين فيها،  وذكر لحيثيات إجهاض التناوب.
[11] محمد عابد الجابري، “المؤتمر الاستثنائي: الجزء الثاني، مشروع التناوب يجهض..والاتحاد يطرح: الدولة الوطنية الديمقراطية”، ص: 28، مواقف عدد 9.
[12] المرجع السابق، ص: 28.
[13] للنظر في مضمون تصريح الحسن الثاني وإعلانه إطلاق مسيرة ديمقراطية جديدة، يمكن العودة للمرجع السابق، ص: 29.
[14] أنظر المهدري المنجرة، الإهانة في عهد الميغا إمبريالية، وهو الكتاب الذي يرصد فيها أوجه الإهانة والإذلال كآلية لنظم الحكم المستأثرة بالسلطة والثروة، ويعتبر المنجرة أن إهانة الشعوب وإذلالها سيؤدي إلى انفجار اجتماعي لاستعادة الكرامة المهدورة، وهو ما جرى مع الربيع العربي بعد عشر سنوات من صدور كتاب عالم المستقبليات المغربي.
[15] أحزاب بهاته السمة موجودة في كل الأقطار العربية، حيث كانت تحكم في أكثر من قطر في العديد من البلدان العربية حيث ارتبط اسم كل رئيس عربي بحزب معين، فجرفها الربيع العربي لما خلفته من ممارسة سياسية فاسدة، وترسيخ للاستبداد والتفقير الاجتماعي.
[16] محمد عابد الجابري، الانتقال إلى الديمقراطية في المغرب، أسئلة وآفاق، ضمن سلسلة مواقف، عدد 42. ويمكن الرجوع للدراسة على الرابط التالي لموقعه الإلكتروني: http://www.aljabriabed.net/n31_01jabri.htm
[17] المصدر السابق.
[18] تم الترويج لمقولة الإصلاح في ظل الاستقرار بداية من طرف حزب العدالة والتنمية في سياق احتجاجات 20 فبراير، والتي اختار فيها الحزب السياسي ذي المرجعية الإسلامية، خطا وسطا _الخط الثالث_ بين الثورة التي عرفتها معظم الدول العربية، والاستكانة في ظل نظام سلطوي مستبد، فكانت مقولة الإصلاح في ظل الاستقرار عنوان جملة من المقالات الافتتاحية التي صدرت عن جريدة التجديد القريبة من حزب العدالة والتنمية، والتي كان يدبجها مصطفى الخلفي وزير الاتصال في الحكومة المغربية السابقة عن نفس الحزب، وقد استثمرت الدولة ونخبها وأذرعها الإعلامية والثقافية في المقولة لتقدم المغرب كاستثناء عن باقي النماذج السياسية العربية الإقليمية، ويحلو للكثير الترويج للمقولة في عدة مجالات منها الدينية باسم “الإسلام المغربي”، وذلك لغايات سياسية محضة..وهكذا، غير انه في السياق السياسي، يبقى النموذج المغربي مستبد بطبيعته، لكنه استبداد ناعم يمارسه من خلال الوجه التقليدي للسلطة “المخزن”، وقد يكون إجهاض التجربة السياسية الحالية بمثابة ردة حقيقية في مسار الدمقرطة والانتقال من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي، ليتم ومعها تسقط مقولة الخط الثالث، أو ما أسماه المفكر الموريتاني محمد بن المختار الشنقيطي بالإصلاح الوقائي. (مقال منشور على موقع الجزيرة بعنوان “من الثورة الضادة إلى الإصلاح الوقائي”).
[19] توفيق بوعشرين، “الزوجة والعشيقة لا تجتمعان تحت سقف واحد”  افتتاحية أخبار اليوم المغربية، انظر الموقع:

نجاح طالبة في مسلكين للماستر بتطوان “كان جراء خطأ في إدخال البيانات” حسب الكلية


[20] المعطي منجيب، حوار على موقع اليوم 24: http://www.alyaoum24.com/619914.html
[21] انظر نص محاضرة عبد الرحمن اليوسفي على الرابط التالي:
http://www.lakome2.com/debat/17060.html
[22] عرف مفهوم التحكم في المشهد السياسي المغربي نقاشا قويا تضاربت حوله آراء مختلفة، حيث التجأت اليه كل القوى والنخب المدافعة عن الديمقراطية لتوصيف ممارسات لوبيات ضاغطة من داخل النظام، تعيق صيرورة الانتقال الديمقراطي، كما كان يشكل إزعاجا للنخب وأصحاب المصالح  والأحزاب التي توصف يكونها ممثلة للتحكم أو هي أدوات له في المشهد السياسي بغاية ضبطه وإخضاعه، في مقابل ذلك ظهرت آراء تقول بأن التحكم من طبيعة بنية النظام السياسي المغربي في صيرورته التاريخية التي تشكل فيها، وكان المفكر محمد جبرون القريب من العدالة والتنمية صاحب هذا الرأي الذي جر عليه انتقادات واسعة باعتباره تبرير للاستبداد، ويهمنا أن نشير هنا إلى أن التحكم بدلالته التي يمنحها له الفاعلون السياسيون يتطابق مع مفهوم القوة الثالثة التي برزت بعد الاستقلال وتلحفت بالسلطة حين صراع الحسن الثاني مع القوة الوطنية، ووظيفة القوة الثالثة كانت إعاقة الديمقراطية والحيلولة دون أي توافق بين الملكية والقوى الوطنية على أساس الديمقراطية.
 
[23] انظر تصريح بنكيران كاملا الرابط التالي:
http://www.lakome2.com/mobile/politique/15767.html
[24] رابط خطاب الملك لعيد العرش : https://www.maroc.ma/ar/
[25] وقد كانت هاته النقطة أفاضت الكأس بين وزير العدل والحريات ووزير الداخلية محمد حصاد.
[26] انظر موقع العمق المغربي: http://www.al3omk.com/detail/24882/
[27] http://www.alyaoum24.com/804288.html
[28]وقد سبق لوزارة الخارجية أن قامت بذات المهمة مع رئيس الحكومة في قضية دولية وهي القضية السورية، حيث انتقد عبد الإله بنكيران الدور الروسي في سوريا، داعيا روسيا إلى أن تكون طرفا في الحل لا جزء من الأزمة، فاستنكرت الخارجية المغربية تصريح رئيس الحكومة، وذلك دال على مدى التناقض وحدة الصراع وتوظيف مختلف الآليات منها القضايا الخارجية لتصفية حسابات داخلية.
[29]ينظر موقع حزب الاستقلال وجريدة العلم التابعة للحزب.
[30] حوار بجريدة المساء “المغربية”، 30 يناير 2017.
[31] أصبح يثار في الإعلام أن الصراع أصبح ثنائيا بين الملكية من جانب وحزب العدالة والتنمية، وذلك نظرا للشعبية التي أصبح يكتسيها زعيم حزب العدالة والتنمية في المشهد السياسي المغربي، حيث اعتبر البعض أن عبد الإله بنكيران وحضوره القوي في مخيال المجتمع المغربي وقربه منهم، أصبح ينافس الملك فيما هو رمزي والذي تتشكل عليه قواعد الزعامة، وهو ما ترفضه بنية المخزن حيث يظل الملك هو الشخصية الأولى صاحبة الحضور في كل المجالات، ولا يقبل المنافس له، بالمقابل ظل بنكيران يرفض منطق التنازع الذي يتم ترويجه، ويعتبر نفسه حزبا ملكيا دون انبطاح، مع تشبثه بالشرعية الانتخابية. وقد اهتم بدراسة أسلوب بنكيران الكثير من الباحثين المغاربة، نذكر منهم بعض إشارات رقية المصدق وكتابات الباحث مصطفى بوكرن والباحث في السيميائيات سعيد بنكراد.
 
[32] انظر الحوار المهم والذي أجرته معها جريدة أخبار اليوم المغربية، على رابط الموقع التالي:

نجاح طالبة في مسلكين للماستر بتطوان “كان جراء خطأ في إدخال البيانات” حسب الكلية


[33] عبد الله العروي، من ديوان السياسة، ص: 31.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى