نبل الشهادة لا يكفي… صناعة تكتل شعبي دولي لإيقاف الحرب
الدكتور: نبيل الفولي
ما زلنا نرى في كل الثقافات شخصيات فاضلة تعبر عن الحقيقة وتتمثل الفضيلة، وتدافع عنهما بنُبل وسمو يأسِر القلوب، ويثير الدهشة والإعجاب، وربما تحوَّل إعجابنا بهؤلاء النبلاء إلى أناشيد وملاحم يتردد صداها خلال الدهور، وصارت أهازيجُ التغني بهم وبمآثرهم مع تقادم الزمن مرجعية تاريخية تعبر عن جذور الأخلاف وانتمائهم.
ونشيد البطولة والشجاعة المجاوزة للمألوف هو الأكثر استحواذًا على إعجاب الخاصة والعامة من الناس طوال التاريخ؛ ربما لأنه يتجاوز التضحية بما يمكن تعويضه إلى ما لا يمكن تعويضه في هذه الحياة إن سُلب، وربما لأن للقوة العادلة سحرَها الذي يترجم عن تعلق الإنسان الفطري بالعدالة وبغضه للظلم.
ولا شك أن الساحة الفلسطينية؛ خاصة في غزة، هي الآن، ومنذ أزيد من عام، الأكثر تمثيلاً لنبل البشرية في هذا الجانب؛ وذلك بإلحاحها على نيل حقوقها، والحصول على حريتها بالأثمان الغالية التي تدفعها، وليس لديها ثمن آخر تدّخره لمناسبة أخرى!
وقد زاد من جلاء النموذج النبيل الذي تقدمه غزة الآن أنها تكافح في عصر الفضاءات المفتوحة والمعلومات المتدفقة والتواصل المتاح بصورة لحظية، وهو أمر لا يكافئه إلا التقدم الهائل في الأسلحة الفتاكة موجَّهةً وغيرَ موجهة وبطيار وبدون طيار، بحيث يمكن أن نفسر مشهد الحرب في جانب كبير منه على أنه صراع بين الصورة والمعلومة وبين القنبلة والصاروخ حتى يقضي الله أمرًا.
الشهيد في نظر الجميع إنسان يضحّي لا من أجل أن يبقى في هذه الدنيا، ولكن ليبقى شعبه ووطنه وما يمثلانه من قيم وثقافة، وذلك مما يرفع الإنسان إلى مستوى الرمز والنموذج، ويحوّله إلى أيقونة لها تأثيرها المعنوي العميق فيمن يبقون بعده.
إننا متفقون – على كل حال – على نُبل الشهيد ونبل نشيد التحرير الدامي الذي يكتبه الفلسطينيون الآن ومنذ عقود في وطنهم لأجل حريتهم، لكن متى كان النُّبل بمفرده كافيًا للوصول إلى النصر، أو على الأقل إيقاف آلة الحرب الفاتكة؟!
إن أي حركة تحريرية لا يمكنها أن تنتصر على عدو قوي، أو له مدد مفتوح وهي تقف في الميدان وحدها محاصَرة من كل جهة بدون ظهير مباشر؛ لذا لا يكفي أن يلهمنا التعاطف مع غزة الأناشيدَ والأهازيج التي نمدح بها الشهيد، ونثني بها على الثابتين في وجه المحن العظيمة في غزة.
يجب أن يلهمنا التعاطفُ مع غزة – الذي يفرضه الدين والإنسانية والضمير – مزيدًا من الأفكار التي تطوّر مواقفنا في إنقاذ الإنسانية المهدَرة فوق أرض غزة وحولها، ومن ثقب الإبرة يمكن أن يبدأ حل، فيتسع ويتسع إلى أن يلحلح المواقف، ويحرك الأمواج الهادرة في اتجاه يوقف هذه المجازر، ويعطل الماكينة الحربية التي لا تتوقف عن القتل والحرق والتدمير.
الدول:
لكن هل نلتمس الحل في مواقف الدول؛ إذ هي الأقدر على الفعل بإمكاناتها المادية وأجهزتها الدبلوماسية؟ ولا يخفى أن الدول التي تتعاطف أنظمتها الحاكمة مع غزة – مثل جنوب أفريقيا وإسبانيا وقطر وماليزيا وتركيا – قليلة العدد نسبيًا، وأكثرها بعيد جغرافيًّا عن منطقة الأحداث، وبعضها يمثل جهده ضغطًا مهمًّا لكنه لا يكفي لإيقاف الحرب كما هو مشهود، ولا تملك هذه الدول – مجتمعة ولا فرادى – قوة سياسية ولا عسكرية كافية تمكّنها من الضغط والتأثير الحاسم في المشهد.
وماذا عن روسيا والصين؟ لا تتمنى أي منهما في الحقيقة توقف الحرب في غزة تمامًا؛ لأنها تشغل الولايات المتحدة الأمريكية عنهما بدرجة ما، وتستنزف بعض قوتها، وتكشف عن مزيد مما في الترسانة العسكرية الأمريكية من أسرار، وإن كانت موسكو وبكين تنتقدان من وقت إلى آخر العنف البالغ الذي يمارسه الجيش الصهيوني ضد “المدنيين”، ولا تريدان أن تتحول الحرب إلى صدام إقليمي كبير يتدحرج إلى حرب عالمية جديدة.
الحراك الجماهيري:
ومع هذا فباب الحلول بكل أنواعها لا ينغلق، وأي حل يُطرَح يجب أن يُطوَّر مع الوقت، و”ثقب الإبرة” الذي مثلته مواقف سابقة حكومية (مثل شكوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل) وجماهيرية (مثل التظاهرات الجامعية وغير الجامعية في مختلف أنحاء العالم)، يقبل هذا الثقب التوسعة؛ كي نتطور على الأقل كما تطور العدوان حتى نوقفه.
ما يمكن التعويل عليه في اللحظة الراهنة هو تطوير الحراك الجماهيري الموجود في مختلف أنحاء العالم بحيث يتحول من جزر صغيرة متناثرة على مستوى العالم إلى قارة متواصلة تملك قدرات على الضغط المنسَّق على النظام الدولي الذي يقود الحرب على غزة في الحقيقة، والفرق سيكون كبيرًا حينئذ قياسًا إلى ما هو قائم؛ وذلك أن مثل هذا البدن الجماهيري الكبير سيجتذب إليه – إن أحسن الحراك ونسّقه وتغلب على المعوقات الكبيرة التي ستواجهه – ملايين أخرى في أنحاء العالم، ويزيد ضغطه وضغطها على الحرب وتجارها.
تبدأ المسألة بدعوة من هنا، أو من أي منبر آخر قويّ لتأسيس هذه الجبهة أو المحور الشعبي المعارض للحرب والإبادة على مستوى المدن، ثم الأقطار، ثم العالم الواسع، ويكون له مجلس تنسيق مقره في دولة معارضة للحرب ولا يُثار في وجهها غبار التهم الجاهزة؛ كإسبانيا؛ حتى يجد من يدير الحراك الشعبي مساحة أوسع للحركة الحرة والتواصل والسفر وتلاقي رؤوسه.
لا يمكن في الحقيقة لمثل هذه السطور أن تقدم الفكرة متكاملة؛ نظرًا لأنها تحتاج إلى عدة عقول تفكر فيها أولًا، كما أن التفاصيل ليس موضعها في المقالات العاجلة، بل البحوث المفصَّلة، لكن في كل الأحوال أؤكد في ختام هذه السطور على ثلاث نقاط مهمة في نظري؛ الأولى: يجب السعي إلى استقطاب الشخصيات العامة المعارضة للحرب في أنحاء العالم إلى هذه الجبهة الإنسانية الشعبية لتعزيز وتسويق مواقفها، والثانية: ينبغي السعي إلى التواصل مع الداخل الإسرائيلي المطالب بإيقاف الحرب للتعاون في هذه النقطة وإن اختلفت منطلقات الطرفين، والنقطة الثالثة: أن هذا الجهد لا يلغي أي جهد آخر يسعى إلى وقف الحرب وحماية المدنيين المتضررين منها، بل يصب معه في اتجاه واحد..
إنه أوان استيقاظ الشعوب وإدراكها لقوتها إذن!
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2024