الاصداراتالدراسات الاستراتيجية

مقاربة في العقد الاجتماعي السوري

المقدمة:

يُعتبر موضوع الدستور السوري القادم موضوعًا جوهريًا في منظومة الحلول المشار إليها في مسار المفاوضات لدى الأمم المتحدة في جنيف، أو خارج نطاقها في مساري أستانة الكازاخية وسوتشي الروسية، لذا فإن إقرار البحث من قبل جميع الأطراف المتصارعة في سوريا، بإعادة النظر في الدستور وهيكلته أو إصلاحه أو استحداث آخر جديد، يمُثل اعترافًا فعليًا على بُطلان الدستور القديم ونهاية صلاحياته التي بدأت على وقع المظاهرات التي أطلقها السوريون في عام 2011، وإن شملت المطالبات فيما بعد بسقوط كامل لمنظومة الحكم، فهذا لأنَّ خللًا قد حدث داخل كيانات وأجهزة الدولة عكس بصورة مباشرة نهاية التعاقد بين الشعب والسلطة الحاكمة، ولما كانت الدولة والسلطة هي نتاج اتفاق مع الشعب وفقَ شروط مسبقة، فهذا يعني أنَّ إمكانية الخلل وعدم التزام أحد الأطراف بالاتفاق هو أمر وارد بأي وقت وزمان، ومن هنا تأتي إشكالية التعاقد والاختلاف بين الأطراف حول مفهوم الدستور المستحدث من فكرة العقد الاجتماعي والذي كان سببًا ملموسًا في تطور المجتمعات والحضارة في القرنين السابع والثامن عشر، والارتقاء بالأفراد والجماعات من حالة المجتمع البدائي إلى مرحلة النضج وإعمال العقل في المجال السياسي.

لذا فإن أهمية التطرق إلى فكرة التعاقد ومعرفة جذورها وتطورها التاريخي الفلسفي وإعادة صياغة الأفكار في قالب جديد، قد يُسهم من جهة في تعزيز ملكات الفهم والوعي عند مكونات المجتمع السوري، بمعرفة أبعاد المفهوم، ومدى أهمية مضامين فحوى الدستور، وطريقة صياغته وشروطه، وكل تفاصليه ليس فقط من ناحية قانونية وسياسية، إنما من ناحية اجتماعية واقتصادية، تضمن لكل الأفراد حقوقهم الاجتماعية أولًا والحقوق الاقتصادية والسياسية ثانيًا، ومن ناحية ثانية قد يُسهم في تعزيز أكثر لتبني قضايا الحريات في دول الصراع، وإعادة النظر في سلم الحريات ومنظومة الأمن والسلم الأهلي.

إنَّ أهمية البحث والنظر في فكرة التعاقد الاجتماعي، تكمن في إشكاليات تحديد الرؤى والاختلافات لمفهوم التعاقد في حقبة زمنية تعكس في جوهرها إرادة الشعب السوري على مدى حاجته اليوم في تنظيم علاقاته مع السلطة والدولة والمجتمع. وتهدف هذا الدراسة إلى:

  1. إعادة النظر في إشكالية العقد الاجتماعي من منظور اجتماعي فكري بهدف تقديم تصور واضح عن مفهوم العلاقة بين السلطة والشعب.
  2. توضيح  الرؤى والاختلافات للمفهوم، بمقاربة فكرية سياسية، على اعتبار أن هذه الاختلافات حاضرة اليوم في منظومة الحلول السورية المختلف عليها في صياغة الدستور السوري.

ومن خلال إطار التعاقد الاجتماعي عند (جون لوك- توماس هوبز- جان جاك روسو) وإظهار الاختلافات بينهم بأسلوب المقارنة، سنحاول قياسًا استحداث مفهوم وتصور نظري للدستور من الناحية الشكلية، مختلف تمامًا عن الجانب الحقوقي القانوني.

وستتضمن الدراسة ثلاثة فصول. الفصل الأول: تفصيل العقد الاجتماعي لرواد المفهوم المُمهد لظهور الدساتير الحديثة. الفصل الثاني: مقاربة مع الحالة السورية باتباع أسلوب المقارنة والقياس. الفصل الثالث:

خُصِّص  للبحث في صياغة عقدٍ اجتماعٍ سوريٍ جديد.

الفصل الأول: مضمون العقد الاجتماعي (هوبز-لوك-روسو)

بالإضافة لعوامل قيام الدولة (السكان-الإقليم الجغرافي-السلطة العليا) يبقى قيامها الفعلي يحتاج إلى اتفاق بين الشعب والدولة، عُرف اصطلاحاً “بالعقد الاجتماعي” الذي ظهر في القرنيين السابع والثامن عشر، على أيدي “توماس هوبز”- وجون لوك- وجان جاك روسو” حيث يُعتبر هؤلاء  أبرز من طوّر فكرة “العقد الاجتماعي” إلى نظام سياسي، مبني على ضمان الحقوق الطبيعة للأفراد وممارسة الحريات. وقد قدم الثلاثة تصوراتهم قبل ولادة المجتمعات تحت عنوان (الحالة الطبيعية) واختلفوا في أفكارهم حيث يرى هوبز” أن فطرة الإنسان همجية وميالة للشرور، ولضرورة كبحها تستلزم تنازل الفرد عن كامل حقوقه لجهة ثانية مطلقة في الحكم، على أن تقدم الأخيرة للفرد الأمن  والاستقرار”[1]، وبهذا المعنى يُرجح “هوبز” نظام الحكم الملكي[2] على التعددي، على اعتبار أن الشعب غير قادر على حكم نفسه بنفسه. أما “جون لوك” فقد عارض نظيره “هوبز” من خلال كتابه “محاولة في الفهم الإنساني”[3] وآمن بالطبيعة الخيرّة للفرد وبحقوقه الفطرية، مضيفاً بأن السلطة السياسية هي تراضٍ مشترك بعقد إرادي وأن الجميع متساوون بالحرية، لذا فإن أساس الاجتماع الحرية، والغرض من “العقد الاجتماعي” صيانة الحقوق الطبيعية لا محوها من قبل الحاكم، كما رفض السلطة المطلقة التي نادى بها “هوبز” واعتبرها بأنها محض استعباد[4]، واعتبر بأن أفضل أشكال الحكم الديمقراطي الذي يستند إلى برلمان، ففيه تذوب الحقوق الفردية في إرادة عامة وتتحول الحقوق الفطرية إلى حقوق اجتماعية تحت سلطة قانون دستوري. ثم جاء “روسو” وتوسع في مفهوم “العقد الاجتماعي”  وانطلق من مقولته الشهيرة: “ولد الإنسان حراً وهو في كل مكان مكبلاً بالأغلال”[5] وهي مقولة تُشير إلى اتخاذه موقفاً وسطاً بين “هوبز- ولوك” بحيادية طبيعة الإنسان بين الخير والشر، لكنه اختلف معهم حول طبيعة الحكم  معتبراً بأن إرادة الشعب هي مصدر السلطة ولها وحدها السيادة المطلقة دون الرجوع لأي أحد لأنها تمثل مجموع إرادات الأفراد، وهي الغاية لتحقيق روح الجماعة النافذة في تنفيذ وحماية مصالح الشعب، وبذلك تتحقق المساواة بين الجميع وتنشأ الدولة التي ستقوم بتنفيذ القوانين الصادرة عن تلك الإرادة. وبتصور مختلف عن نظيريه، ميز بين أنواع وأشكال الحكم ورأى بأنها لا تخرج عن الأشكال التقليدية، المعروفة، لكنه أضاف أن شكلًا من الأشكال الحكم الديمقراطي أو الاستقراطي أو الملكي، لا يكون شرعياً إلا إذا استمد السلطة والسيادة من الشعب، ومع ذلك كان روسو أميل إلى الحكم الديمقراطي الخالي من الطغيان والفساد بحسب اعتقاده[6].

وبناء على ما أوجزنا من أفكار فلاسفة “العقد الاجتماعي”، وعلى الرغم من أن أفكارهم لم تكن تروق للسلطات الحاكمة آنذاك إلا أنها نبَّهت الشعوب بضرورة دورهم في المجتمع، وإن صح قياس الماضي على  الحاضر فإن الحالة الطبيعية للسوريين ستكون أساسًا لأي عقد اجتماعي جديد يُعيد تنظيم العلاقة بين الشعب والدولة.

الفصل الثاني: مقاربة العقد الاجتماعي في الحالة السورية

  1. الحالة الطبيعية السورية

تُقارب أفكار”العقد الاجتماعي”، الحالة السورية في الصراع الراهن، و يبدو لنا المشهد في سورية أقرب إليه للحالة الطبيعية البدائية التي انطلق منها الفلاسفة، سيما بعد عودة الفرد السوري إلى الاحتكاك والتعامل مع الطبيعة بهدف تأمين مستلزمات الحياة التي فقدها في أغلب المناطق السورية، بفعل ما أفرزته ظاهرة العنف سواء على مستوى الأفراد والجماعات أو على مستوى الأفراد والجماعات مع الحكومات ومؤسسات الدولة، إلا أن هذا لا ينفي صبغة السوريين في طبيعتهم الخيرية واستماتتهم في الدفاع عن حقوقهم الفطرية التي آمن بها “لوك”، وقد أثبت السوريون ذلك من خلال تأكيدهم الحصول على حياة كريمة في مجتمع تتوفر فيه عوامل الاستقرار، ودولة يسودها العدل والقانون، وهي غايات لا تتعارض مع أي مقام لمفهوم الخير. إلا أن تباعد وجهات النظر في مسألة الحقوق والواجبات والصلاحيات وتعدي السلطة السورية على الحقوق الطبيعية للسوريين أحدث خللًا في مفهوم تنظيم العلاقات ووسع من دائرة الهُوة بينهما، فظهرت فروقات بين حقوق الشعب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبين رغبات الدولة التي اختزلت مفهوم السيادة في تكريس نظرية الشخص الفرد.

ولعل قرار إعلان نهاية الدستور السوري من قبل غالبية الطبقة الوسطى في سوريا، جاء نتيجة هدم كل جسور الثقة والتواصل مع رأس الهرم في الدولة السورية، والذي أبى تلبية تطلعات شعبه في جملة الإصلاحات والحريات السياسية والحقوق والواجبات الاجتماعية والاقتصادية، كما أن إقرار النظام معالجة الوضع السوري بالمعادلة الأمنية دفع الشعب إلى الانخراط في صراع مسلح سعى من خلاله في استرداد حقوقهم الطبيعية على رأسها الحق في ممارسة الحريات الشخصية والانخراط في العمل السياسي، على اعتبار أن الدستور السوري المعمول به حاليًا يغيب عنه كامل حقوق الشعب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويتيح من طرف آخر احتكار كامل السيادة والسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والمؤسسة العسكرية بيد شخص واحد، وهو ما يعني أن الدستور السوري لا يمت بأي صلة لأي عقد أو ميثاق قائم على أساس المشاركة المتبادلة، على عكس الدساتير الغربية التي تؤمن بالإنسان الفرد وتساوي بينه وبين الآخرين أمام القانون وتعتبر الشعب أساس ومصدر للسلطة والسيادة[7].

  1. من الطبيعة إلى المجتمع

ثمة وعيًا جمعيًا سوريًا يهدف إلى وضع نهاية لحالة النزاع، والانتقال من حالة الفوضى إلى الاستقرار وإلى مجتمع تسوده المساواة بين الجميع، خصوصًا أنَّ الحرب مزقت أوصال الروابط الاجتماعية واستنزفت الموارد الاقتصادية، وشكلت فروقات بين الأفراد والجماعات، والطبقات، بل إن الحرب أنهت الطبقة المتوسطة في المجتمع، والتي كانت تُشكل غالبية الشعب السوري، لينتقل المجتمع اليوم إلى طبقتين طبقة غنية. وأخرى شبه معدومة. وقد شكلت ظاهرة التهجير القسري، والتغيير الديمغرافي انهيار معايير وركائز المجتمع السوري، بالإضافة إلى جملة من عوامل خارجية وإقليمية ساهمت بشكل أو بآخر بتأجيج حالة العنف على حساب مصالحها الجيوسياسية، ترتب على ذلك تنازل السوريين عن الكثير من حقوقهم الشخصية وحرياتهم وممتلكاتهم مقابل حصولهم على الأمن والاستقرار.

إزاء حالة الاستعصاء وانهيار مقومات وجود المجتمع والدولة، أصبح لزامًا على النخب السورية أن تتولى مهمة النهوض وإصلاح المفاسد الكلية، وإذا ما كانت هذه النخب مهمشة سابقًا فإن ضرورة المرحلة الحالية تحُتِّم على كل مفكر ومثقف أن يُبدع من مكانه وفي مجاله، لتفعيل الوعي الجمعي وقيادة مسؤولية إخراج الجمهور من حالة الفوضى إلى مأسسة مجتمع جديد، وإن أول خطوة في هذا المقال تتطّلب الانطلاق من تطورات الواقع الحالي ودراسة الحالة السورية، بهدف وضع لبنة أولى تتناول وضع الأسس والمبادئ للعقد أو الدستور، وليس لدراسة التقنيات والآليات المختزلة بنصوص قانونية جامدة.

ولعل أكبر إسهام لرواد العقد الاجتماعي يكمن في أنهم وضعوا مبادئ عقد أسهم في تعزيز السيادة الشعبية، على عكس ما يتم التطرق له سورياً، في سعي جميع الأطراف من أحزاب سياسية ونظم سلطوية على إنكار إرادة الشعوب، وتعزيز دور الوصاية، وقد أصاب  المفكر السوري برهان غليون بمطالبته بضرورة تأسيس عقد وطني يؤسس لاجتماعنا السياسي والمدني[8] حيث اعتبر المبادئ هي نقاط التوافق المشتركة التي من دونها لا تقوم أي علاقة بين طرفين ولا يمكنها أن تستمر من دون احترامها من الجميع، مضيفًا أن أي تفاهم مشترك بين طرفين متعاقدين لا يقبل بشكل طوعي مبادئ أولية للتعايش المشترك لتكون مرجعية ثابتة فإن هذا الاتفاق لن يدوم وسينهار قبل حدوثه.

واعتبر أن أي عقد اجتماعي أو وطني يجب أن يؤسس لمبادئ وقيم أساسية مطلقة تُشكل مرجعية للجميع وتتطرق لمسألة الحرية الفردية، وجعلها معيار المساواة والعدالة الاجتماعية لاجتماعنا السياسي. من هذا المنطلق نرى أن غليون حاول أن يضع  مبادئ فكرية وتصورات لعقد اجتماعي يقود الجميع  للمساواة والعدالة، وهنا يلتقي بأفكاره مع روسو في نموذجه الديمقراطي المبني على تشاركية الإرادة العامة، والتي أساسها تفعيل سيادة إرادة الشعب وجعلها أساس ومصدر السلطة والسيادة.

الفصل الثالث: نحو صياغة عقد اجتماعي سوري جديد

بدا واضحًا أنّ مشكلة الصراع في سورية، تم اختزالها وتحويرها من مشكلة حقوق وحريات إلى مشكلة نصية دستوري أو إجراء تعديلات عليها، وعلى الرغم من أن نص الدستور الحالي 2012[9] تضَّمن مبادئ اجتماعية واقتصادية تكفل لأفراد الشعب حرية الحصول عليها، إلا أنها بقيت معطلة دون تنفيذ على أرض الواقع.

وقد مر على سوريا دساتير كثيرة، دستور منها: 1920 ودستور 1930 الذي  تم تعديله في 1948 أعقبه إقرار دستور 1950- 1952 و دستور 1973 الذي عُدل في 1981 – ودستور 2000 ليصل أخيرًا لدستور 2012، الذي ساهم بشكل مباشر في إقصاء أي دور للشعب، ووسع من صلاحيات الرئيس بشكلٍ أفضى إلى احتكاره كامل السيادة والسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ومؤسسات الأمن والجيش.

لذا فإن أي عقد يغيب عنه الآليات والتطبيق الفعلي نتاجه الفشل، فالمشكلة إذًا ليست في صياغة المبادئ بل في تطبيقها، وما يقوم به مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا “استيفان ديمستورا” من جهود تفعيل لجنة دستورية وفق دستور 2012 يُخالف كل ما نص عليه بيان جنيف 1 وفق المادة 4 بأن إعادة تشكيل الدستور يأتي بعد تشكيل المرحلة الانتقالية وفقَ قرار 2254 -2118 بممثلين عن الشعب السوري وبدون أي صلة لأيادي خارجية، إلا أن الوقائع تُفيد بأن جميع الدول المنخرطة في الصراع تريد المشاركة في صياغة دستور بمعزل تام عن مشاركة للشعب السوري، ما يفسر رغبة هذه الدول في استمرار ممارسة دور الوصاية وتكريسها لأنظمة شمولية، وإن كان هذا الطرح يعكس حقيقة توجه سياسات خارجية، فهو يمس بشكل مباشر المبادئ الأخلاقية للعقد الاجتماعي، والتي يجب أن تكون أساسًا لأي عقد جديد لسورية، كما أن كيانات المعارضة السورية شكلت بشكل أو بآخر عائقًا أمام صياغة هذا العقد، فصحيح أنها مارست دورًا في صياغة مسودة دستورية تنهي نقاط الخلاف حول العلاقة ببين السلطة والمجتمع إلا أنها فشلت في التوصل إلى مسودة فعلية يمكن الاستناد عليها، ويعود هذا لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية.

وقد ارتبطت فكرة الدستور في العملية السياسية السورية منذ انطلاق المباحثات في جنيف1 _2012م، وتم طرح فكرة الحكم المشترك عل أساس إجراء تعديلات دستورية، ثم تجددت الفكرة في جنيف2- في 2014م، وانتقلت إلى مؤتمر فيينا 2015م، والذي عزز فكرة محاصصة الحكم مع النظام وتوزيع شكلي للسلطات، ثم جاءت فكرة “سلال ديمستورا الأربعة” حيث خصص سلة للدستور، وإن ثمة مرجعية للدستور فإن كل ما سبق استندت عليه المعارضة كمرجعيات لها في مسيرة جولاتها التفاوضية، إلا أن النظام وبالرغم من أنه لم يكن يتوانى عن القدوم للمحافل الدولية، لكنه لم يناقش ولا مرة موضوع الدستور معتبراً إياه شأناً داخلياً سورياً يمس سيادته بشكل مباشر، حتى أنه لم يناقش إلا ملف الإرهاب كذريعة لمنع أي تقدم في أي مفاوضات قد تُفضي إلى نهاية حكمه، مع ذلك ومع تعثر عجلة مباحثات جنيف على حساب التقدم في مساري “أستانة وسوتشي” الروسيين في -2017-2016م، قدمت روسيا مسودة لدستور سوري رفضه النظام والمعارضة[10]، ليُعاد الملف من جديد إلى أيدي ديمستورا والذي استطاع مؤخراً بتكليف من الأمم المتحدة تفعيل لجنة دستورية بقبول جميع الأطراف حيث سلّم كل من المعارضة والنظام لديمستورا أوراقًا تضمنت ممثلين عن كلا الطرفين لتفعيل اللجنة الدستورية، ثم الانتقال من خلال سير العملية السياسية لإجراء تعديل على دستور 2012 أو كتابة دستور جديد، ومن خلال المعطيات الحالية فأي حديث عن كتابة دستور جديد كامل أمر غير وارد كلياً، فكل المؤشرات تتجه نحو إحداث تعديل على الدستور الحالي فقط، يُقلص من صلاحيات رئيس الدولة ويحدد صلاحية السلطات، ما يرشح إنعاش النظام الحالي بشخص بشار الأسد مع إمكانية ترشحه لدورة رئاسية جديدة، هذا من حيث الشكل العام، أما من حيث الجوهر فمن الممكن حسب رؤية الأمم المتحدة استبعاد بشار الأسد ووضع نهاية لكامل حكمه من خلال إعادة بناء الدستور، وهذا المصطلح فضفاض يدخل في إطار عملية كلية شاملة، بالاستناد إلى التجارب التاريخية ودور الأمم المتحدة في عمليات دعم الديمقراطيات، عبر بناء الدساتير الحديثة التي انتعشت بعد فترة الحرب الباردة منتصف تسعينيات القرن الماضي في دول “كوسفو والبوسنة وجنوب افريقيا والصومال”[11] وبناء على المعطيات التي ذكرناها في ورقة البحث، فإن قبول المعارضة المشاركة في عملية الدستور إلى جانب النظام، يعني مراهنتها على نهاية النظام الحالي من خلال العملية الدستورية الكلية، بمعنى إن أي تقدم في بناء الدستور سيفضي حسب اعتقادها بالتقادم إلى تقليص دور النظام الحالي وصولاً إلى خروج رئيس الجمهورية من سدة الحكم، وغير هذا الهدف لا يوجد مبرر لاستمرار المعارضة في العملية السياسية بعدما انحصرت كل جهود الحل السياسي السوري في موضوع الدستور، وقد يستبعد هذا الطرح في حال اكتفاء المعارضة بالمشاركة بهدف حصولها على مناصب مستقبلية فقط، ما يعني رضوخها التام للأطراف الخارجية والتخلي والانحياز عن مهمتها الأساسية المشروعة في ثوابت تطلعات السوريين. وعند الوقوف عند فكرة بناء دستور جديد لسوريا، فالأمر يتطلب وفقاً للتجارب السابقة وانطلاقاً من الحالة السورية، إحداث توافق مشترك بين كل الأطراف لتحديد جملة المبادئ العامة للدستور وهذا من شأنه أن ينقل سوريا من صراع عسكري إلى سياسي، ومن حالة الصراع إلى الاستقرار، وتُقر المبادئ “فوق الدستورية” من خلال مفاوضات جدية تُحدد القيم الأساسية والثوابت الممثلة في (فصل السلطات -السيادة الشعبية- حقوق المواطنين- الحريات والمعتقدات والأديان- شكل الدولة- نوع الحكم- اللغة الرسمية- وعلم الدولة).

وأي نجاح في الخطوة الأولى لعملية بناء الدستور، قد يُفضي إلى الانتقال بالتوافق لمواضيع أخرى كالتوافق على إصلاح مؤسسات الدولة والإضافة عليها كأجهزة رقابية إصلاحية [12] وتوزيع السلطات وتحديد أدوارها وصلاحياتها. وما يعزز نجاح عملية بناء الدستور مشاركة أطراف خارجية كمساعد وداعم للعملية الديمقراطية، وقد تتعدد الأطراف الخارجية الداعمة لبناء الدساتير الحديثة كدول ومؤسسات دولية، ومنظمات غير حكومية ومستشارين دوليين، على أن تقتصر مشاركتهم في دفع العلمية الدستورية دون التأثير في مضمون الدستور[13].

و في ظل الجهود الرامية نحو صياغة وثيقة دستور، لابد من أخذ الأمور الآتية في الاعتبار:

1_ ضرورة الاعتماد على صياغة وثيقة عقد اجتماعي وجعلها مبادئ فوق دستورية، تعكس الإرادة السياسية لكل أفراد المجتمع والتأكيد على مشاركتهم الفعلية على أرض الواقع.

2_ لا بد من التأكيد على أن هذه الوثيقة هي ضمان للحقوق الاجتماعية والاقتصادية للأفراد وتفعيل دور سيادة الشعب واعتباراها مصدرًا في سيادة المجتمع والدولة.

3_ التأكيد على تحديد دور أطراف العقد وتوضيح كيفية وآلية المشاركة المتبادلة سواء في تنظيم العلاقة بين الأفراد والجماعات، أو بين الشعب والسلطة.

5_ صياغة وثيقة العقد تكون ضمن إطار مؤسساتي يشترك فيه نخبة المجتمع من حقوقيين وسياسيين ومفكرين وفلاسفة.

6_الاستفادة من تجارب الدول السابقة مع التركيز على الأهداف والنتائج التي أدت إلى تطوير مجتمعاتهم وضرورة الإحاطة بكل المتغيرات السياسية والاجتماعية الحاصلة في المجتمع والدولة.

7_ عدم إشراك أي جهات خارجية في صياغة وثيقة المبادئ وحصرها بيد السوريين وحدهم.

8_ العقد يجب أن يشمل كافة مكونات المجتمع السوري، ولا يجوز الاكتفاء بفئة على حساب فئة أخرى.

الخلاصة:

لقد أثبتت تجارب التاريخ أن العقود الاجتماعية والدساتير الحديثة، وسيلة وضرورة ملحة للانتقال بالدولة من حالة الفوضى إلى الاستقرار، ومن خلالها يمكن استرداد الحقوق المدنية للشعوب، وتعزيز دورهم في المستقبل، وإن ثمة انفراج لسورية المستقبل فقد يكون عن طريق بوابة الدستور الذي سينهي حالة الاستعصاء السوري على مدار السنوات السابقة، وبعد توضيح مشكلة التشظي السوري والوقوف على تداعياته في تفتت وتفكيك المجتمع والدولة، وعجز كل الأطراف عن تقديم مشاريع بديلة، أصبح لزاماً على كل الأطراف المتناقضة الوقوف على بناء عقد اجتماعي جديد يضع حداً أولاً لحالة الهدم المجتمعي، ثم الانتقال إلى طور البناء والترميم، ولعل إعادة ترميم منظومة الأخلاق السورية هي واجب أخلاقي لتأسيس لبٍنة أولية يُراد  من خلالها النفاذ إلى أرضية مناسبة للبناء عليها.

ولأن موضوع الدستور السوري الجديد ارتبط بشكل ديناميكي في العملية السياسية، فإن تفعيل المسؤولية الكلية السورية حاجة وضرورة في آن واحدٍ معاً، تفرضهما حساسية المرحلة الراهنة، وإن أي خطوة عملية قادمة في مباحثات الدستور ستكون مدخل أولي للانتقال من سورية الحالية إلى سورية المستقبل وعلى أساس عملية بناء الدستور أو صياغة آخر جديد أو الاكتفاء ببعض التعديلات فهي جميعها سترسم معالم وشكل نظام الحكم وتحدد العلاقة بين الشعب والسلطة، بمعنى آخر ستكون كافة مكونات الشعب السوري أمام تحدي واستحقاق أخير ومعركة سياسية دستورية مع أطراف مناهضة لحرياتهم، وهو ما يستوجب الاستعداد للخوض في عملية بناء الدستور والإحاطة بكل تفاصيله ومبادئه من خلال إعادة النظر بنظريات العقد الاجتماعي وظهور الدساتير الحديثة والاستفادة من تجارب الدول التي انتقلت عبر الدستور إلى الديمقراطية المنفتحة.

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية © 2018

 

 

[1] عبد المعطي محمد علي، تيارات فلسفية حديثة. ن-1984. ص 16.

[2] إمام عبد الفتاح إمام،  هوبز، أشكال الحكم. ص 388.

[3] كتاب محاولة في الفهم الإنساني مقسم لأربع مقالات. الأول: جاء في الرد على نظرية المعاني الغريزية. والثاني” في تقسيم المعاني بسيطة ومركبة. والثالث: في اللغة ودلالة الألفاظ والمعاني وتأثيرها على القكر. والرابع: في نظرية المعرف والأخلاق.

واشترط لوك بأن تكون الملكية خاضعة لشرطين. الأول: المالك لا يدع ملكيته تتلف. الثاني: أن يدع للآخرين ما يكفيهم واعتبر أن هذا حق طبيعي لهم. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص141-143.

[4] كلمة استعباد جاءت من خلال رفض لوك لسطلة الحكم الإلهي للملوك، فقد كانت الملوك تعامل الرعية من منظور سلطة مطلقة باعتبارها مستمدة من الله إلى عبيده في الأرض، من هنا نادى لوك بفصل الدولة عن الكنيسة. ينظر: محمد علي أبو ريان، تاريخ الفكر الفلسفي. ( القاهرة: دار المعارف، 1996).

[5] برتراند رسل، ترجمة: فتحي الشنيطي، تاريخ الفلسفة الغربية. (1977).  ص 302.

[6] علي عبد المعطي محمد، تيارات فلسفية (1984). ص 443.

[7] https://bit.ly/2M722Q0

قراءة في الدستور، – مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية، شوهد بتاريخ 8/8/ 2018م.

[8] برهان غليون، الحوار المتمدن، ضرورة عقد وطني يؤسس لاجتماعنا السياسي والمدني، نشر بتاريخ-31/1/2003م.

https://bit.ly/2Kzq8x3

[9] دستور الجمهورية العربية السورية لعام 2012 وجاء فيه في الباب الأول والثاني: توثيق مبادئ الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والمبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمبادئ التعليمة والثقافية.

https://bit.ly/2AUogzd

[10] رضوان زيادة، النسخة الروسية للدستور السوري، صحيفة الحياة، نشر بتاريخ-20،ديسمبر،2017.

https://bit.ly/2PRrS8A

[11] فيفيان هارت، تجربة جنوب أفريقيا في تدوين الدستور، معهد الإمام الشيرازي الدولي للدرسات- واشنطن.

https://bit.ly/2opU9Xe

 [12]محمود إبراهيم، مركز الاستطلاع القانوني لتشكيلات الدفاع والأمن الوطني –أمان، مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية 4-يوليو-2018

 https://bit.ly/2opotBD

[13]  المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، بناء الدستور في مراحل ما بعد الصراع، ص 12-13

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى