كوفيد-١٩: هل هو هرمجدون اقتصادي؟
في جزءٍ من قريةٍ غير معروفةٍ بالقرب من ووهان انتشرت جائحةٌ عالمية عمّت الكوكب بأسره، قامت الصين _أول دولةٍ تأثّرت بها وبشكلٍ كبير_ بتصدير كوفيد-١٩ بكفاءةٍ أعلى من أي شيءٍ آخر أنتجته وصدّرته للعالم.
لعدّة أسابيعٍ وضعت الأسواق الماليّة العالمية أهميةَ هذه الظاهرة في منظورها الصحيح على الرغم من شبه الإغلاق لـ”المصنع العالمي”.
ولكن يومي الإثنين ٩ آذار/مارس والخميس ١٢ آذار/مارس حدث ما حدث: فشلت أسواق الأسهم فجأةً مع انخفاضٍ حادٍّ في الأسعار وانهيارٍ مذهلٍ في أسعار النفط، وكانت الأيام القليلة التي تلت ذلك شاهدةً على الارتباك الشديد في الأسواق، ولم ينتهِ الأمر.
كان متوقعًا رغم ذلك انتشار الوباء إلى أوروبا، ولكن ما بثّ الشكوك والقلق هو حجم انتشاره في إيطاليا التي دمّرها الفيروس حرفيًّا منذ نهاية شباط/فبراير، وكذلك الزيادة الكبيرة والسريعة في بقية أنحاء أوروبا وتوسّعه في الولايات المتحدة الأمريكية.
أدّى وصول كوفيد-١٩ إلى هذا الجزء من العالم _أوربا والولايات المتحدة_ حيث يشكّل الاستهلاك قلب الاقتصاد إلى إثارة شبح الركود الكبير، ذلك مع خسائر الشركات التي تواجهها صعوباتٌ كبيرةٌ أعظمها الإفلاس.
تَوقّعَ المستثمرون العواقب وباعوا كمياتٍ كبيرةٍ من الأسهم التي أحرقت أصابعهم، كان أملُهم اللجوء إلى السندات السيادية للدول التي يمكن أن تُعتبر آمنة، وبدوره استجاب الانخفاض الحادّ في أسعار النفط لهذه المشاكل الاقتصادية، قبل أن تتفاقم وتوّلّد بدورها مشكلةً أخرى بسبب حرب الأسعار بين المملكة العربية السعودية وروسيا، وهي حربٌ ذات هدفٍ مزدوج: الحفاظ على الحصص السوقية لكلّ منهما في مواجهة تراجع الطلب، ورغبةٌ مشتركةٌ بلا شك في إغراق النفط الصخري الأمريكي.
يتساءلُ الجميع الآن أين سيأخذنا كلّ هذا، وخاصّةً في فرنسا؟ يقوم كلٌّ من صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بتخفيض أسبوع النمو العالمي أسبوعًا تلو الآخر، الكلّ يعرف أنّ عام ٢٠٢٠ سيكون عامًا قاسيًا وسيّئًا للغاية بالنسبة للاقتصاد العالمي، من هنا هل يجب أن نخشى أزمةً ماليّةً واقتصاديةً خطيرة؟
قد يبدو السؤال السابق ساخرًا في ظلّ سوداوية الصدمة البشرية لهذا الوباء التي تحمل أثرًا أكثر سوءًا من الأثر الاقتصادي، ولكن لا يمكن لذلك السؤال إلا أن يفرض نفسه ويُطرح وبجديّةٍ أكبر في المستقبل.
إن الهبوط الهائل في سوق الأسهم (أكثر من ٣٠٪ في غضون أسابيع قليلة) ليس مشكلةً تخصّ الأغنياء فقط، فالشعور بالرعب من الإفلاس الذي قد يسببه هذا الانهيار في الفئات الاجتماعية _العليا_ له تأثيرٌ كبيرٌ على استهلاك العديد من السلع الفاخرة التي توفّر عملًا لملايين الناس.
وعلى عكس ذلك، فإنّ الانخفاض الهائل في أسعار النفط لا يمكن وصفه بالكارثة، ذلك لأنّه سيخفّف فاتورة العديد من البلدان المستوردة ممّا سيمثّل مكسبًا كبيرًا للقوّة الشرائية لمليارات الأشخاص حول العالم.
ثمّ إنّه لا يمكن صبغ كلّ شيءٍ دائمًا صبغةَ التشاؤم، فالصين _مهد الوباء_ قالت إنها: “تكسب المعركة بفضل الإجراءات الصارمة التي اتّخذتها”.
من ناحية أخرى فاليابان والنمور الآسيويين (تايوان وكوريا وفيتنام وسنغافورة وهونج كونج) تواصل مقاومة هذه الجائحة، والهند تحاول النجاة بنفسها كما حصل وفعلت وقت سارس ٢٠٠٣، وعلى ما يبدو كذلك فإن أفريقيا وأمريكا اللاتينية لم تتأثّر كثيرًا بالوباء.
إذا معظم أشواط اللعبة تُلعب في الغرب، ويُخشى أن تواجه أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية عشرات الآلاف من الحالات وآلاف الوفيات في الأسابيع المقبلة، والتي ستضعها في اختبارٍ حقيقي.
مع تفاقم أزمة الوباء، بدأت الحكومات تدريجيًّا في اتّخاذ تدابير احتواءٍ صارمة، ولا تزال هذه التدابير ساريةً منذ أسابيع: “سوف يستغرق الأمر بعض الوقت، لكنّنا سنخرج منه”.
ومع ذلك فإنّ الأضرار الاقتصادية للوباء ستكون هائلةً وستضرب كلًّا من الدول والأنظمة المصرفية، بدأت الأولى في خططٍ علاجيةٍ بحجمها الكبير التي تجعل المرء يشعر بالدوار بمجرد سماع مبالغها التي تصل إلى ٣.٥ تريليون دولار (مع برنامج ٢٠٠٠مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها).
ستتجاوز هذه الأرقام ما تمّ الالتزام به في خطط محاربة أزمة عام ٢٠٠٨، وتتسبب في تدهور العجز والديون العامة بطريقةٍ لا يمكن أن تُمحى من التاريخ، وستتفاقم المشكلة بسبب انخفاض إيرادات الضرائب والإيرادات الاجتماعية الملازمة لأي تراجعٍ اقتصادي وحشي.
ربما سيتعين وقتئذٍ على صندوق النقد الدولي أن يتدخل لإنقاذ بعض الدول الناشئة، أما في أوروبا ستحتاج إيطاليا خطة إنقاذٍ باهظة الثمن، وستطالب أن يُثقل هذا الثمن بشكلٍ أساسي على ألمانيا التي كانت على مدى عقودٍ الفائز الأكبر في هروب رأس المال الإيطالي.
كذلك ستشهد البنوك تخلّف العديد من المدينين عن السداد، حيث سيكون العنصر الأكثر إثارة للهلع هو المديونية الضخمة جدًّا للشركات الأمريكية؛ ١٠ آلاف مليار دولار، أو وفقًا لصندوق النقد الدولي ٤٧٪ من إجمالي ديون الشركات في العالم.
بل وبجنون أكبر، سيذهب جزءٌ كبيرٌ من المال لإعادة شراء الأسهم التي سبق أن بيعت من أجل رفع أسعارها من جديد.
ما يجب تجنبه بشكلٍ أساسي هو أن الصعوبات التي تواجه الشركات المدينة ستجرّ في أعقابها البنوك إلى صعوباتٍ أكبر، في مثل هذا السيناريو ستتوقف البنوك عن الإقراض، الأمر الذي سيُثير ذُعرًا كبيرًا بين المودعين وأصحاب المؤسّسات والأفراد.
تلتزم البنوك المركزية ولا سيما بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي بضمان السيولة لها، حيث خفّضت معدل إعادة تمويلها وخفّفت كذلك معايير الملاءة المالية _الملاءة هي قدرة الشركات على الوفاء بالتزاماتها.
لكن الشيء الأهم لتجنّب أزمةٍ ماليّةٍ جديدة هو أن تتعهد الولايات المتحدة والدول الأوروبية بدعمٍ من آلية الاستقرار الأوربية MES -إذا لزم الأمر- بإعادة رسملة البنوك وشركات التأمين التابعة لها، هذا إذا ما انتهت أزمة الوباء وكانت تلك البنوك والشركات في حالة ضعفٍ شديد بسبب صدمة كورونا.
لكن هذا الدعم سيكون بشروطٍ تناسب السلطات العامّة، وبالتأكيد معاقبة المستثمرين من القطاع الخاصّ بقسوةٍ شديدةٍ في حال عدم الوفاء.
أعلن كذلك البنك المركزي الأوربي في ١٢ و١٨ آذار/مارس عن استئناف شراء الديون السيادية والخاصّة بقيمة ١.٠٥٠ يورو حتى نهاية العام، ستكون هذه الخطوة في الاتجاه الصحيح، لكن ستكمن المشكلة في أنّ هذا الإعلان سيُطبّق على الولايات المتحدة بما يتناسب مع حصّتها في رأس مال البنك المركزي الأوروبي، نتيجةً لذلك فإنّ ألمانيا ستستفيد أكثر من غيرها، وستكون بأمسّ الحاجة لمثل هذه الاستفادة.
في رؤية استعادة الحُكم الذاتي النقدي للدول يجب أن تكون البلدان الأكثر تعرضًا للتهديد في منطقة اليورو قادرةً بشكل استثنائي على مطالبة مصرفها المركزي بالعمل وفقًا لاحتياجاتها الوطنية المشروعة والمعقولة، كما أشارت مؤخّرًا مارين لوبان رئيسة التجمع الوطني.
في فرنسا أعلن إيمانويل ماكرون عن خطّ سيره، لا حدود إذًا للإنفاق العامّ والدّيون لمكافحة هذا الوباء الخطير جدًّا، وتعهّد وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير بضمان ٣٠٠ مليار يورو لإقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة، و٤٥ مليار يورو لمساعدتها، المبلغ الذي اعْتُبر غير كافٍ أبدًا.
كما تعهّد لومير بالجمع بين تأجيل الرسوم والضرائب وتوسيعٍ كبيرٍ لآلية البطالة الجزئية، وكذلك بصندوقٍ لدعم الشركات الأكثر تضرّرًا من الانكماش، وذكَّر الوزير بإعادة الرسملة المحتملة من قبل الدولة للخطوط الجوية الفرنسية وبعض الشركات الاستراتيجية.
فيما يتعلق بفرنسا، يبدو من الضروري استخدام بنك الاستثمار العامBPİ في إعادة رسملة الشركات المتوسطة، ولكن أيضًا وقبل كلّ شيءٍ الآلاف من الشركات الصغيرة، بل وعشرات الآلاف من الشركات الصغيرة جدًّا والتي من المحتمل أن تكون الأكثر تضرّرًا من هذه الأزمة.
هذه المؤسّسة _بنك الاستثمار العام_ هي أفضل من سيعمل لصالح هذه الشركات التي تشكّل جزءًا من النسيج الاقتصادي في مختلف المناطق الفرنسية.
سيتعين إذًا على بنك الاستثمار ابتكار وإيجاد آليّاتٍ لإعادة الرسملة البسيطة والمرنة والسريعة التي تتكيّف مع احتياجات وحجم المستفيدين، سيكون بذلك قادرًا على تمويل هذا البرنامج الضخم من خلال إصدار الدَّين الذي يجب اقتناؤه من قبل السوق المالية وتمويلها عن طريق شراء الأصول من البنك المركزي الأوروبي.
ولكن هل ستكون _حِزَم الميزانية_ كافيةً لضمان تأثيرٍ يتكيّف مع معاكسة التقلبات المحتملة؟ كلّ شيء يعتمد على مدّة هذه الأزمة الصحية.
أمّا إن أردنا التحدث عن العجز، فسيكون عام ٢٠٢٠ عند ٣.٩٪ وستستقرّ نسبة الدين إلى الناتج المحلّي بقوّةٍ فوق ١٠٠٪، وذلك حسب وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير.
لكن هذه الأرقام تتوقّع انخفاضًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ١٪ فقط في عام ٢٠٢٠، هل يمكن تصديق ذلك في الوقت الذي تحدّثت فيه رئيسة البنك المركزي الأوربي لاغارد في ١٧ آذار/مارس عن توقّع _ركودٍ كبير_؟
أمّا عن البطالة فهناك خشيةٌ كبيرةٌ أن يتوقّف تحسّنها، لذلك سيكون التساؤل المرعب كم ستكون التكلفة كبيرةً في هذه المرحلة الخطرة؟
ما هو مؤكّدٌ هو أننا سنخرج من هذا الكابوس الصحي في غضون بضعة أشهرٍ مع ضُعْف فرنسا أكثر من أي وقتٍ مضى، وأنّ عودتها إلى وضعها الطبيعي لن يكون في عام ٢٠٢١.
سيجدُ الفرنسيون أنفسهم في عام ٢٠٢٢ عند أسفل الجدار يُثقلهم شعور “فترةٍ خمسية من أجل لا شيء”، وسيكون عليهم بعد ذلك الاختيار بين الاستمرار بمنطقٍ أدّى على مرّ السنين والحكومات التي تعاقبت، فمنها الاجتماعية الليبرالية ومنها الليبرالية الجديدة، ولكنها دائمًا تتجه بمفهوم العولمة الذي وصل بها إلى هذا المأزق الاقتصادي أو اختيار مسارٍ آخر واستراتيجيةٍ أخرى.
تحدّث ماكرون في ١٢ آذار/مارس أنه في نهاية هذه الأزمة ستواجه فرنسا “تمزّقاتٍ” سببها إدانة أخرى “للانكماش القومي”، هذا يعني تجميلٌ جديدٌ للعولمة والتوجه إلى مزيدٍ من أوروبا وليس إلى هجرةٍ أقل.
ما نحتاجه هو عولمةٌ أقل والمزيد من فرنسا ووقفٌ للهجرة، لكن الأمر الأكثر إلحاحًا في الوقت الحالي هو خطّة الانتعاش الاقتصادي الهادفة إلى استعادة القدرة التنافسية، وذلك من خلال التخفيض المستهدف والشرطي للضرائب على الشركات، وحماية الاقتصاد من الوحش الروسي المفترس.
ستحتاج فرنسا إلى استردادٍ قوي لماليتها العامة من خلال إجراءاتٍ قويةٍ ضدّ خسارة الإيرادات الضريبية (الاحتيال، الثغرات الضريبية.. الخ).
ستحتاج كذلك إلى وضع خياراتٍ واضحةٍ للميزانية المتجهة نحو الخدمات العامة والاجتماعية والسيادية على حساب الهدر للمال العام الذي يدمّر البلاد واقتصادها.
جان مسيحة وفريدريك أمودرو
لا تروبين ٢٦ آذار/مارس ٢٠٢٠
الرابط الأصلي من هنا
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020