الاصداراتترجمات

قواعد الميزانية والنفقات الاجتماعية

هل تنتقل الليبرالية المتطرفة من حالة الرفاهية إلى حالة التقشف؟

تشير العديد من الحقائق إلى أنّ الخطاب السائد اليوم في السياسات الاقتصادية يرتكز على خفض الإنفاق، لكن لماذا؟

-المال لتلبية الاحتياجات البشرية والبيئية:

جان مارك دوراند خبير اقتصادي، اللجنة الاقتصادية لصندوق PCF

الإنفاق العام هو العدو اللدود لليبراليين المتطرفين، المعاهدات الأوربية من الأسواق الكبيرة حتى مجموعات مركز التسوق هي جوهر الإيديولوجية التي أدّت إلى تدهور الإنفاق العام.

تبلورت هذه الإيديولوجية في فرنسا في أنظمةٍ مختلفةٍ مثل RGPP  )مراجعة السياسات العامة) وMAP (تحديث الإجراءات العامة) و Réate )إعادة تنظيم الإدارة الإقليمية) وقانون NOME  )إعادة تنظيم سوق الكهرباء)، الخيط المشترك بين كل ما سبق هو إزالة الوظائف (وليس الموظفين فقط) وتجاوز القوانين.

ما هي الطريقة الأكثر أمانًا لخفض الإنفاق بحيث تكون بديلًا عن خفض الوظائف العامة؟ ليس فقط تقليل عدد الموظفين بل وأيضًا إنقاص الوظائف أو إزالتها نهائيًا، أي إزالة بعض المهام الوظيفية أو على الأقل نقلها إلى وظيفةٍ أخرى أو تقليصها.

على سبيل المثال، تقليل عدد الأطباء يعني تقليل عدد الاستشارات الطبية، وبالتالي خفض تكلفة الرعاية العامة والصحة، من هنا يمكن لأي شخصٍ أن يرى مدى كارثية هذا الأمر، من التصحر الطبي إلى المواعيد والحجوزات الفلكية، وكذلك إغلاق المشافي ومراكز رعاية الأمومة.

إيمانويل ماكرون، كونه رئيسٌ ذو خلفيةٍ ماليّة، يعلن عن إزالة ١٢٠ ألف وظيفةٍ من الخدمة العامة خلال ثلاث سنواتٍ، هذا “البتر” الجديد للإنفاق العام وعلى الرغم من التصريحات المطمئنة سوف يضع الاقتصاد في صعوباتٍ أكبر.

سبب هذه الصعوبات هو أنّ الانخفاض المستمر في الإنفاق العام يسير مع فترةٍ من النمو البطيء والضعيف، بالتالي ستصبح الثروات والموارد غير كافيةٍ لدرجة أنّها لن تسمح حتى بمعالجة اليسير من حالة الهشاشة الاقتصادية والبطالة.

النفقات العامة ليست أموالًا يتمّ إنفاقها بطريقةٍ ساذجة، إذ أنّ الإنفاق العام يعني الوظائف مدفوعة الأجر، وبالتالي سيتم توفير مستهلِكين، وهو أيضًا مجموعةٌ من البنى التحتية التي يتوجب إنشاؤها، الأمر الذي سيعزز النشاط والحركة الاقتصادية للبلاد.

الإنفاق العام هو مفهومٌ جيدٌ لاستخدام الأموال، سواءٌ كان ذلك عن طريق جني المال من البنوك أو الأرباح من الشركات أو الضرائب عن طريق الدولة.

والدولة تستخدم هذه الأموال لتلبية الاحتياجات البشرية والبيئية، وبالتالي تمنع تأجيج حالة المضاربة وارتفاع الأرباح، ذلك على عكس السمعة السيئة لCice )ميزة ضريبية للشركات التي توظف موظفين وهي ما تعوض انخفاض مساهمات الضمان الاجتماعي) التي تُعتبر هدرًا حقيقيًّا للمال العام.

من ناحيةٍ أخرى يلعب الإنفاق العام دورًا اقتصاديًّا أساسيًّا، فهو وسيلةٌ للاستجابة لتحديات تنمية القدرات البشرية وحماية البيئة (المستشفيات، الطرق، البنى التحتية للأنهار والسكك الحديدية…).

لكن لا داعي للقلق كثيرًا، إذ يجب أن نعلم أنّ الإنفاق العام في فرنسا يمثل ٥٦٪ من الناتج المحلي الإجمالي، أي أعلى بكثير من الجارة ألمانيا أو الولايات المتحدة، وهذا ما يستحق البحث والنظر.

إذا كان مرجعنا الناتج المحلي الإجمالي فسيكون التقرير سابق الذكر صحيحًا، ولكن إن تحدثنا عن الإنفاق العام حسب عدد سكان كل من هذه البلدان، فإنّ النتيجة ستكون مختلفة.

ففي هذه الفرضية تحتل فرنسا المرتبة الثامنة وألمانيا الثانية عشر وأمريكا المرتبة الحادية عشر عالميًّا في الإنفاق العام.

ومرةً أخرى نُعيد النظر في التقرير السابق، فعند حساب الإنفاق العام يتم تضمين مصروفات التقاعد في فرنسا، في حين يتم استبعادها في ألمانيا والولايات المتحدة لأنها تأتي من مؤسسات خاصة، من هنا إذا ما تمّت إضافة هذه المبالغ إلى مبلغ الإنفاق العام سيكون معدلها أعلى من المعدل في فرنسا.

هذا الموقف يوضح بشكلٍ متناقضٍ نقص إنتاج الشركات الفرنسية، وبالتالي قدرتها على المساهمة في نمو الناتج المحلي الإجمالي.

من هنا يُطرح سؤالٌ مزدوج: هل الإنفاق العام مرتفعٌ جدًّا أم أنّ نمو الناتج المحلي الإجمالي منخفض؟ وما الذي يجب تفعيله لتشجيع الشركات على المساهمة في رفع الموارد.

-خَلْقُ دخلٍ عالمي:

غاسبار كوينج مدرس فلسفة في ((Sciences-po Parisورئيس مركز الأبحاث (جينيراسيون ليبر).

لا يمكن إنكار أنّ الإنفاق العام قد ارتفع في فرنسا بشكلٍ مطّرد منذ سبعينات القرن الماضي، ويرجع ذلك إلى ارتفاع الفوائد الاجتماعية.

اليوم وصل إلى مستوى قياسي لا يضاهيه سوى مستوى بلدان الشمال الأوربي، حيث وصل إلى أعلى بمقدار عشر نقاطٍ من المتوسط الأوربي.

لم تلتزم أي حكومةٍ فرنسية منذ عهد بومبيدو (رئيس وزراء فرنسا في عهد ديغول1962-1968 ثم رئيسًا حتى وفاته) بخفض مستوى الإنفاق في حين أنّ العديد من الدول المجاورة تمكنّت من ذلك.

وافق الديغوليون والاشتراكيون على الحفاظ على دور الدولة وتوطيده ورفض الإصلاحات الليبرالية الجديدة المشهود لها إلى حد كبير في بقية دول العالم.

هناك حقيقتان يجب ذكرهما، الحقيقة الأولى هي أنه يمكن اعتبار فرنسا من الدول المتقدمة عالميًا في مستوى الرفاهية، ولكن لا يمكن إنكار أنّ الخدمات العامة والمزايا الاجتماعية قد تدهورت في الفترة الأخيرة.

انتشر الفقر في البلاد، وعدم الاستقرار أثّر كثيرًا حتى على الموظفين بعقودٍ دائمة. على هذا يستنكر المدافع عن الحقوق جاك توبون في تقريره الأخير الخدمات العامة التي أصبحت بعيدة المنال كثيرًا، وكذلك أصبحت أكثر تعقيدًا ويغمرها تدفقٌ هائلٌ بالطلبات، والأهم هو استحالة الوصول إليها من قبل الكثير من الشرائح الاجتماعية.

وللتوضيح كمثال عن تجربة، بالذهاب إلى اللقاء مع الجمعيات التي تكافح الإقصاء الاجتماعي في الشهر الماضي في مدينة ليل، وعلى الرغم من التفاني المثير للإعجاب، والكفاءة المهنية التي لا تشوبها شائبة، فإنّ تقليل الموارد مقارنةً بزيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون في محنة يضعهم في موقفٍ لا يُحتمل.

أمّا الحقيقة الثانية هي أنّ حركة السترات الصفراء تطرح قضية أنّ المرء يعيش في حالةٍ سيئةٍ بشكلٍ متزايد في فرنسا، بل وبطريقةٍ مَرَضِيّةٍ أيضًا.

اليسار يرفض الاعتراف بالحقيقة الأولى (تدهور الخدمات) واليمين يرفض الاعتراف بالثانية (الحالة السيئة للسكان)، إذًا لا حلّ سوى ارتباطهما ممّا يُمكّنهما من إثارة نقاشٍ حقيقي بينهما.

كلّ ذلك يوجهنا إلى طرح سؤال هام جدًا: مع مستوى إعادة توزيعٍ فريدٍ من نوعه في العالم، كيف يمكن أن يولد لدى المرء هذا الشعور بالبؤس؟ أين ذهبت الأموال؟.

لقد مرّت بالآلات البيروقراطية لنظامٍ مشوشٍ للغاية، على سبيل التوضيح فإنّه ما لا يقلّ عن ١٨٠٠٠ قاعدة وقانون مختلفة يتمّ تطبيقها على ٩٠ مليار يورو مطروحة للخدمات الأساسية.

ما يحصل معنا كسكان هو أنّنا يجب أن نكافح لنصل إلى أبسط حقوقنا كالحق في الحصول على مساعداتٍ خيرية (الصدقة العامة)، نفس المنطق ينطبق على الوصول إلى حق الإسكان والتأمين ضدّ البطالة وما إلى ذلك.

دولة الرفاهية هذه لا تتعدّى كونها دولةً بوليسية، لهذا السبب يجب توفير دخلٍ ذو نطاقٍ عالمي خاضع للتأمين التلقائي ومتحرّرٌ ويتكيف مع مجتمعٍ أقل اعتمادًا على الأجور.

لقد حان وقتُ التشكيك في نموذج فترة ما بعد الحرب لبناء نظامٍ اجتماعي أكثر عدلًا وفاعليةً وأكثر احترامًا وباختصارٍ أكثر ليبرالية.

-هل هو هدرٌ أم إنفاق؟

جان ماري هاريبي خبيرٌ اقتصادي، مؤسسة كوبيرنيك

كيف يمكن أن نتصور الغالبية العظمى من السكان تعاني من تدهور الخدمات العامة والحماية الاجتماعية والخصخصة، وكيف يمكن تصور أنّ الحكومات المتعاقبة يمكنها مواصلة أعمال التدمير دون إيقافها.

في البلاد المستشفيات على وشك الانهيار، وتكاد تختفي مراكز العناية بالأمومة في البلدات الصغيرة، ومكاتب البريد في القرى تغلق أبوابها تباعًا، وكذلك يتمّ التضحية بشبكات السكّة الحديدية الثانوية، والمدارس بدأت تُطبّق نظام الحمية الغذائية، وقد يتمّ التضحية كذلك بالمعاشات التقاعدية وما إلى ذلك.

كلّ هذا ويأتي الرئيس ماكرون ليطرح خفض ١٢٠ ألف وظيفةٍ في الخدمة المدنية بما في ذلك ٧٠ ألف وظيفةٍ في الحكومات المحلية، يجب أن نفهم أنّ كلّ المتحولين إلى الليبرالية الجديدة الساعين إلى تفكيك ما يسمى بالدولة الاجتماعية لديهم سلاحٌ إيديولوجي ضارٌ بقدر فعاليته.

يُجادل هؤلاء أنّ الإنفاق العام يمثل نحو ٥٦.٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا كما يقولون كثيرٌ للغاية، ويقولون أنّه لا يتبقى سوى ٤٣.٥٪ للنفقات الخاصّة.

كلّ ما قيل خاطئٌ وينطوي على كذبةٍ لا يمكن أن تنطلي على أحد، هم يمارسون عملية غسيل دماغٍ وتضليل.

أول تضليل هو في الأرقام الرسمية للإنفاق العام، إذ يحتسبون الاستهلاك الوسيط (مواد أولية وطاقة) بينما هذا الاستهلاك في جميع الدول يتم حسابه من الناتج المحلي الإجمالي وليس من الإنفاق، إذّا نسبة ٥٦.٥٪ ليس إلا هُراء.

التضليل الثاني: من هذه النفقات الواضح أنّ أكثر من نصف مبالغ الحماية الاجتماعية تذهب إلى الأسر وسيتم استهلاكها، ثم يتمّ الادعاء أنّ هؤلاء فرنسيون يعملون لصالح الدولة من أول كانون الثاني حتى ٢٣ تموز (يوم التحرير الضريبي/بالنسبة للبرجوازية)، وهذا أيضًا غباءٌ مفرط.

التضليل الثالث: بناء المستشفيات والمدارس والجامعات التي يتمّ تنفيذها من قبل الشركات، هل يمكن اعتبار هذه الاستثمارات إنفاقًا أم أرباحًا خاصة؟.

التضليل الرابع: محيط الأعمال غير السوقي شديد التباين مقارنةً مع الدول الأخرى، على سبيل المثال في الولايات المتحدة يعود قسمٌ كبيرٌ من المجال الصحي إلى القطاع الخاص، ويكلف ١٧٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

أمّا في فرنسا غالبيته قطاعٌ عام ويكلّف ١١٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي، لذلك وبمقارنة الإنفاق العام بين الدول يتضح الغباء الشديد الآخر في طرح نسبٍ مزيفة.

التضليل الخامس: الرئيس ماكرون نفسه قال”إننا ننفق على التشغيل والاستثمار في القطاع العام أكثر من نصف ما ننتجه كلّ عام” ولكن ومع ذلك كشف الرئيس عن عدم الكفاءة الاقتصادية.

وفقًا لمؤسسة (insée) في عام ٢٠١٧ أنفقت الإدارات ٧٧ مليار يورو من إجمالي رأس المال الثابت (إجمالي الاستثمار لتجديد وزيادة المرافق العامة).

التضليل السادس: يجب خفض الإنفاق العام لأنّه بحكم تعريفه “سيكون قاضمًا للاقتصاد”، بينما من يعمل في الخدمة المدنية (الموظفون المدنيون والموظفون بموجب القانون الخاص) هم منتجون ليس فقط من الخدمات المفيدة من تعليم ورعاية وغير ذلك، بل أيضًا من حيث القيمة الاقتصادية التي يمكن إضافتها إلى إجمالي الناتج المحلي، بما في ذلك الأجور المدفوعة بدون أرباح.

هذا التضليل يهدف إلى تخدير الوعي بقضايا الشأن الاجتماعي، ذلك يحدث عندما لا يعرف نظامٌ ما كيف يعثر في أزمةٍ ما على القطاع الذي يكون فيه رأس المال مفيدًا.

بيير شايان لصحيفة لومانيتيه  ٩نيسان/أبريل ٢٠١٩

رابط المقال الأصلي من هنا

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات © 2019

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى