الاصداراتمتفرقات 1ملخصات كتب

قراءة في كتاب"ما بعد الصهيونية"

مابعد الصهيونية (1)
مقدمة:
تميل الصهيونية في وعي كثير من العرب إلى أن تكون مرادفاً لشر غامض يختلط فيه الديني بالقومي والعسكري، ويتجرد كحقيقة لا تختلف بمرور الزمن أو يعتريها التغير. وهو إدراك ربما عززه كل من الخطاب القومي والإسلاموي اللذان أخرجا الصهيونية من إطارها التاريخي لتشكل عنصراً يمكن تسكينه كعدو في مثل هذه الرؤى الأيديولوجية. وعلى الرغم من أن هذه التصورات قد ساعدت على حشد الملايين في استعداء العرب للكيان الصهيوني، إلا أنها لم تفلح في تقديم رؤية جادة للقضاء عليه فضلاً عن العمل على تنفيذها. الأمر الذي تفسره مقولة المفكر الفلسطيني خالد عودة الله أن “أنسنة العدو شرط لمقاومته”[1]. فلا يخرج المجتمع الصهيوني عن كونه جماعة بشرية تتأثر بالسياق الحضاري الذي تعيش فيه، وتتفاعل فيها المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. كما لا تخرج العقيدة الصهيونية عن كونها أيديولوجية سياسية تُظهر الممارسة العملية لمقولاتها مواطن الضعف والتناقض.
وفي هذا الإطار تأتي أهمية كتاب ما بعد الصهيونية، إذ يرصد كيف يرى تيار آخذ في الاتساع ضمن المجتمع الإسرائيلي أن الصهيونية كرؤية ومشروع سياسي تتهاوى شرعيتها؛ إذ عجزت عن تقديم إجابات على الأسئلة الكبرى التي أثارها تأسيس الدولة، كهوية الدولة ونظامها السياسي وقومية الشعب وعلاقته بالآخر وموقفه من اليهود خارج إسرائيل والمساحات بين الديني والعلماني وبين التقليدي والحداثي. (ص32) إلى حد يدفع بهذا التيار إلى تقويض مقولاتها والدعوة لتجاوزها، باتجاهات تباينت بين تجديدي وانتقادي وانقلابي. يتأسس الأول منهم على رؤية إيجابية للصهيونية إذ نجحت في تحقيق أهدافها إلا أنها بحاجة إلى تطوير طروحاتها بما يخدم الدولة اليهودية ويحافظ على مكانتها. بينما يشير الاتجاه الانتقادي التساؤل حول هذا النجاح المزعوم وما إذا كانت الصهيونية قد حققت الأمن ليهود إسرائيل. في حين ينزع الاتجاه الانقلابي إلى معاداة الصهيونية وإسقاط شرعيتها، الأمر الذي يحد من فاعليته وتأثيره في المجتمع الإسرائيلي. (ص53)
تستعرض أطروحة الكاتب كاظم مهدي، ابتداءً، سياق نشأة ما بعد الصهيونية والأسباب التي ساعدت على تبلور ملامحها كتيار وظاهرة لا يمكن إنكارهما. فقد مثّل تأسيس الدولة أولى محطات مساءلة الصهيونية حول ما يمكنها أن تقدمه بعد أن تحققت غايتها وانتهت الحاجة إليها. الأمر الذي تعزز بعد حرب 1967 التي حققت أقصى أهداف الحركة بتثبيت دعائم الدولة. لكن حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973 فتحت مجالاً للتساؤل حول قدرة الصهيونية على الصمود في هذا الوضع الإقليمي. ولا شك أن هذا الاتجاه قد ترسخ خلال الثمانينيات مع ما تكبدته إسرائيل بغزو جنوب لبنان ثم بالانتفاضة الأولى عام 1987. وفي العقد نفسه كانت أبحاث ما بعد صهيونية، تعيد النظر في الرواية الصهيونية للتاريخ، قد أخذت طريقها للنشر استناداً إلى وثائق عن حرب تأسيس الدولة 1948، كانت قد أتيحت للاطلاع منذ السبعينات. ومنذ مطلع التسعينات تغلغل مصطلح ما بعد الصهيونية في المجال العام. (ص 33،34)
ويعد انتشار مفاهيم ما بعد الحداثة[2]، والثورة المعرفية في العلوم الإنسانية في الغرب ورفض المسلمات مثل مطلقات حركة التنوير والعقلانية والتقدم، من أهم الأسباب التي مكنت هذه الحركة النقدية داخل المجتمع الإسرائيلي من الظهور والتطور. كذلك فإن تواصل الحروب وارتفاع كلفتها زادت وطأته منذ الثمانينيات وهو أمر تجلى في ظله استقرار يهود الشتات. (ص35)
وعلى هذا يقدم الكاتب تعريفاً لـما بعد الصهيونية بأنها:
” تيار فكري إسرائيلي ظهر نتيجة الأزمة الفكرية المستمرة في الصهيونية منذ نشأة الدولة اليهودية وحتى الوقت الحاضر، يضم مجموعة من المؤرخين الجدد وعلماء الاجتماع الانتقاديين وبعض الكتاب في مجالات الفكر والثقافة والفن ضمن إطار اتجاهات تجديدية وانتقادية وانقلابية للصهيونية. وتدور أطروحاته الفكرية حول جعل إسرائيل دولة اسرائيلية طبيعية لكل مواطنيها”[3].
كما يتعرض المؤلف لعدد من المفاهيم المقاربة التي لطالما برز الحديث عنها في مناقشات ما بعد الصهيونية. كمفهوم ما بعد الحداثة وما بعد اليهودية والصهيونية الجديدة وحركة السلام الآن والمؤرخون الجدد؛ بغرض الكشف عن مساحات التقاطع والاختلاف بين هذه المفاهيم ومفهوم ما بعد الصهيونية. فيوجز تعريف ما بعد الحداثة في أنها “التشكيك في السرديات الكبرى”، ويؤرخ لانتشارها في إسرائيل بمرحلة ما بعد حرب 1967 ثم يبين انعكاسها على النقد ما بعد الصهيوني في إقراره لنسبية الحقائق ولا حيادية التاريخ ورفض السرديات الكبرى والإيمان بالتعددية الاجتماعية والثقافية وتبني التسوية السلمية للنزاعات. (ص45)
أما عن مصطلح ما بعد اليهودية فيشير -بحسب الدراسة- إلى تيار ظهر بالتوازي مع تيار مع بعد الصهيونية في عقد السبعينيات كرد فعل على الهجوم الديني المتزايد على إسرائيل العلمانية، معبراً عن نزوع للتخلي عن اليهودية كهوية وإطار ديني لصالح قيم العقلانية والتنور كي يتوافق المواطن الإسرائيلي مع المواطن العالمي ما يعني قطع الصلات مع يهود الشتات وإنكار علاقتهم بإسرائيل والأهم فصل الدين عن الدولة وهي الفكرة التي أيدها ما يقرب من 54% من اليهود الإسرائيليين في دراسة شاملة أجراها معهد لويس غوتمان عام 1993. (ص43)
وبينما تتقاطع مفاهيم ما بعد الحداثة وما بعد اليهودية مع مفهوم ما بعد الصهيونية يأتي مفهوم الصهيونية الجديدة في اتجاه معاكس تماماً، مشيراً إلى التيارات التوسعية المتشددة التي تكونت بعد تمدد الدولة بحرب الأيام الستة عام 1967 ليطالب بعدم التخلي عن أي أرض تم ضمها بل ويتركز خطابه حول أرض إسرائيل أكثر من دولة إسرائيل ويؤكد الطابع اليهودي للدولة ويأخذ بالهوية الدينية الإثنية في مواجهة الهوية المدنية. وبهذا تعتبر الصهيونية الجديدة تفسيراً متطرفاً للصهيونية الكلاسيكية، يعتمد في تكوينه على الحاخامات الأرثوذكس والمستوطنين القوميين المتطرفين. (ص50)
وتوضح الدراسة حجم الاختلاف بين حركة السلام الآن التي تكونت عام 1977 إثر تسلم اليمين الإسرائيلي سدة الحكم وتيار ما بعد الصهيونية. إذ لا تمثل الأولى سوى حركة صهيونية يسارية لا هي بالمسالمة ولا تناهض المؤسسات الحاكمة، بل هي دوماً على استعداد للقتال دفاعاً عن إسرائيل وهي جزء من النسيج الاجتماعي والسياسي الإسرائيلي. كما أنها تجعل من الولاء للدولة موضوع الاهتمام الرئيسي. وتميل الحركة إلى التسويات السياسية المرحلية، لا الشاملة، مع الفلسطينيين بما يساعد على وقف العنف والمقاومة. ولذلك فإن مواقف هذه الحركة هي –عادة- موضوع الطروحات الانتقادية لتيار ما بعد الصهيونية.(ص48)
أما المؤرخون الجدد وعلماء الاجتماع الانتقاديون فتعتبرهم الدراسة عماد تيار ما بعد الصهيونية ومؤسسيه. وهم الجيل الرابع من مؤرخي الحركة الصهيونية الذين انتقلوا بالنقاش من مساحة انجازاتها، إلى ثمن هذه الانجازات فضلاً عن كشف النقاب عن الاخفاقات مع تفكيك ادعاءات الدولة الطوباوية حول الأرض والقومية. ويعتبر ظهورهم سابق على تشكل تيار ما بعد الصهيونية. (ص41)
ومن بين طروحات ما بعد الصهيونية تركز هذه الدراسة على انتقاداتهم لبعض الأفكار المحورية في الأيديولوجية الصهيونية كالدولة والمجتمع والهوية والديمقراطية والهولوكوست ورؤاهم تجاه العلاقات مع الآخر من العرب والفلسطينيين وما يعتقدونه بشأن قضية اللاجئين والتسويات السلمية.
فحول الدولة ترصد الدراسة الجدل الذي تثيره كتابات ما بعد صهيونية بشأن هوية الدولة بين اليهودية والعلمانية ودلالات كل منهم على وظيفتها، حيث تفيد بأن “أرض اسرائيل” كحيز إقليمي لم تكن سوى اختراع، فما ذُكر في التوراة لا يشمل سوى أراضي السامرة، وقد ظلت الأرض المقدسة في الفكر اليهودي بعيدة عن التصور السياسي للوطن، ولم تتحول إليه إلا في مطلع القرن العشرين. وبالتالي فدولة إسرائيل الحالية تعتبر “مصادفة تاريخية أكثر منها مصيراً تاريخياً “. كذلك تقوض الانتقادات مزاعم الصهيونية حول ارتباط أمن الأقليات اليهودية بدولة قومية لليهود يعيشون فيها كأغلبية؛ إذ يزداد الخطر المادي عليهم في إسرائيل أكثر من أي مكان في العالم. وقد اهتم علماء الاجتماع الانتقاديون بدحض الروايات الخيالية عن إسرائيل كدولة قومية اشتراكية مثالية إذ كان واقعها السياسي والاجتماعي مجرد واقع استعماري. ويقر دعاة ما بعد الصهيونية بالظلم المروع الذي أوقعته هذه الدولة على الفلسطينيين وتهدف انتقاداتهم إلى جعل إسرائيل دولة لكل مواطنيها بصرف النظر عن الدين أو الطائفة أو العرق. وأن يتم فصل الدين عن الدولة كما يميلون إلى إنهاء علاقة إسرائيل بيهود الشتات وتعديل قانون العودة إلى صيغة أكثر إنسانية-ليبرالية تعطي حق الملجأ للمضطهدين في مجتمعاتهم من اليهود أو الفلسطينيين. (ص54-61)
وانطلاقاً من القراءة الجديدة لتاريخ المجتمع، اهتم تيار ما بعد الصهيونية بكشف جوانب المحنة والبؤس في رواية الجيل الأول من المجتمع الإسرائيلي، بحيث بدا أقل تحضراً وسلمية ومساواة. ثم تبنى التصريح عن حالة الإحساس الجمعي بفقدان الأمل والتفكك التي ضربت المجتمع بعد زلزال 1973 وتوابعه في الثمانينيات. ويتركز هجومهم على الممارسات الصهيونية في تكوين المجتمع بتمييز الأشكناز-الغربيين المؤسسين واضطهاد اليهود الشرقيين والمجتمع الفلسطيني المحلي على نحو يجعل من المجتمع الإسرائيلي نموذجاً لمجتمع كولونيالي استيطاني؛ الأمر الذي يدعمه ترسيخ الثقافة العسكرية، التي استهدفت توحيد فئات المجتمع. ولذلك فإن ما يرجوه دعاة ما بعد الصهيونية أن يتحول المجتمع من العسكرة إلى المدنية مع قبول تعدد الأعراق والثقافات وتضمين مفهوم المواطنة كمصدر للحقوق والواجبات ويستبدل الولاء العرقي بالوطني. (ص61-69)
ويبين تيار ما بعد الصهيونية حجم التناقض الذي تقوم عليه المقولات الصهيونية في مسألة الهوية والديمقراطية، فقد علمنت الصهيونية التراث الديني اليهودي بإضفائها طابعاً قومياً على الهوية اليهودية وحددت القومية بهذا الإطار الديني، وما من تعريف محدد لمن هو اليهودي؟ الأمر الذي يترك السؤال مجالا للتنازع بين العلمانيين والمتدينين في إسرائيل فانتصار الأول يعني قطع الصلة مع التراث الديني تماماً، وإلا تتحول إلى نموذج أصولي منغلق.(ص69-73) وكذا يؤكد مفكرو ما بعد الصهيونية أنه ما من ديمقراطية يهودية، فتعريف إسرائيل كدولة يهودية يستبعد العديد من الفئات والأقليات ابتداء ويضعهم بمنزلة أدنى فالتمييز يترسخ فيها قانونياً ضد الأقليات غير اليهودية، كما أن جزءاً من التشريع والقضاء فيها تمت مصادرتهما من نطاق الدولة إلى نطاق ديني يتولى البت فيه تيار حصري هو التيار الأرثوذكسي ما يميل بها إلى أن تقترب من النموذج الثيوقراطي.(ص74-79)
وكما حظي الهولوكوست بمكانة فريدة في بنية الأيديولوجية الصهيونية، اهتم المؤرخون وعلماء الاجتماع الانتقاديون بإعادة النظر في وقائعه التاريخية وغائية الأسطورة ليتمكنوا من فهم فعاليتها السياسية. فالهولوكوست في قراءتهم ليس سوى صناعة ابتغت الصهيونية إيصال ألم الماضي فيها إلى حده الأقصى ثم استثماره لتحقيق أكبر قدر ممكن من الربح السياسي. والذي تمثل في تحريم كل انتقاد لليهود والمشروع الصهيوني، فضلا عن الابتزاز الواضح لألمانيا وسويسرا وغيرهما من البلدان بما يجعل من الهولوكوست – في الواقع- أكبر جريمة سرقة في التاريخ.(ص79-86).
وتحلل الدراسات ما بعد الصهيونية كيف شكلت العقيدة الصهيونية رؤى الإسرائيليين حول القضية الفلسطينية لتبين جوانب اللاأخلاقية والتغييب والتزييف إلى حد ينفي وجود مسألة فلسطينية إذ الصراع بين العرب واسرائيل. وهو ما ترسخه مقولة ” أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، كما لو كان الفلسطينيون جماعة من الرعاع لا ترقى لأن تكون شعباً. وما تؤكده القراءة التاريخية أن المثقفين والقادة الصهاينة كانوا واعين بالوجود الفلسطيني لكنهم قرروا تصفية اسم فلسطين والسكان الأصليين من الذاكرة ومساحات الإدراك. وعلى هذا فإن الوعي بالمسألة الفلسطينية والاعتراف بالفلسطينيين هو جزء من تحرر اليهود وخطوة لاندماجهم في تاريخ المنطقة ومستقبلها. (ص87-90) أما بالنسبة لـمشكلة اللاجئين فإن دعاة ما بعد الصهيونية لا يقدمون أكثر من تفنيد لادعاءات القادة الصهاينة بأن البلدان العربية هي المسؤولة عن خروج الفلسطينيين من أراضيهم إذ هي أمرتهم بالفرار كي تتمكن من تحرير الأرض من اليهود. وذلك بالعودة إلى فكرة الترانسفير في جذور الفكر الصهيوني عند هرتزل وزانغويل وبن غوريون بما يضعها في سياق الخطة السياسية أكثر منها حادثة ضمن نتائج الحرب. (ص91-99)
وبشأن الرؤية الصهيونية تجاه العرب، يعيد مفكرو ما بعد الصهيونية النظر فيها من خلال مناقشة رواية الدولة حول حرب عام 1948 وقضية السلام. فعن الأولى ينفي المؤرخون الجدد السردية الإسرائيلية الرسمية التي تصور حرب التأسيس على أنها حرب القلة المستضعفة ضد الكثرة المتوحشة والتي يسهل مقاربتها بمشهد داوود وجالوت؛ إذ تشير روايتهم إلى أن الوجود اليهودي لم يكن يواجه خطر فناء حقيقي ولم يعانِ ضعفاً عسكرياً، بل ربما تمتع بتفوق عسكري أمام جيوش لم تكن مهيئة للقتال ولم تزود بأسلحة فضلا عن غياب التنسيق التام فيما بينها. ولا تغفل روايتهم تسليط الضوء على المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق العرب والتي لا يشار إليها في الرواية الرسمية كمجازر وإنما كحوادث أو عمليات تتم في سياق الحرب الطبيعي. (ص100-102) أما التسويات السلمية فتتناولها طروحات ما بعد الصهيونية بالتشكيك في جدية الطرف الصهيوني؛ إذ يرون أن قادة إسرائيل يدركون خطورة تحقيق السلام العادل على طموحاتهم الصهيونية، ولذا فإن التخلي عن الصهيونية والدخول في مرحلة ما بعد الصهيونية هو المبدأ الذي يمكن أن تقوم عليه تسوية سلمية. (ص105-106)
ويتناول كاظم مهدي في دراسته مسألة الرؤية العربية لتيار ما بعد الصهيونية، ورد فعل المجتمع الإسرائيلي على هذا التيار. فيرى أن النخبة العربية قد استقبلت طروحات ما بعد الصهيونية بترحيب بارد على اعتبار أنها لم ترق لأبعد من حالة جدل داخلي غايته تطهير الذات لا التأثير على الواقع، كما تعيق الأجواء المناوئة للتطبيع مع إسرائيل أي تفاعل جاد مع هذا التيار.(ص109) ويصنف مهدي مواقف المثقفين العرب من ظاهرة ما بعد الصهيونية إلى اتجاه متفائل يعتقد بأهمية النقد الذي تعرضت له الرواية الصهيونية للتاريخ بتضمين أصوات فلسطينية وسفاردية، كما يحتفي بإدخال سؤال الأخلاق في الأبحاث حول إسرائيل والمشروع الصهيوني الأمر الذي من شأنه هزيمة هذه الأفكار وتعظيم فرص انتصار القضية العربية. وبـالموضوعية، يصف الكاتب اتجاه فريق آخر من المثقفين العرب يرون أن طرح المؤرخين الجدد ينضوي على تناقض واضح لكن الجيد أنهم يدفعون التناقض الصهيوني إلى حدود لم تكن واضحة للإسرائيليين بل ولكثير من العرب. فهي تحدث صدمة أخلاقية في الوعي الإسرائيلي لكنها في نهاية المطاف لا تمثل انسلاخاً منه أو تمرداً عليه، فولاؤهم للمشروع الصهيوني وما جهودهم إلا لتحسينه. أما الاتجاه الأخير فيظهر تشاؤماً كبيراً تجاه تيار ما بعد الصهيونية، إذ يعتقد أنه ربما يكون أكثر التيارات فائدة للمجتمع الصهيوني بما يمكن لأطروحته أن تنال من ترحيب في الأوساط الدولية ولدى العرب. فهو لا يتعدى كونه محاولة لإيجاد مخرج من المأزق الأخلاقي الذي وقعت فيه اسرائيل.(ص110-117) وانطلاقاً من هذه الرؤى ينقسم المثقفون العرب حول التطبيع مع تيار ما بعد الصهيونية إلى مؤيد يعتقد بمسؤولية المثقف العربي في توجيه خطاب نقدي للمجتمع الإسرائيلي ومناقشة دعاة ما بعد الصهيونية بعقلانية وشجاعة، ومُعارض يظن الأفضل أن يُترَك هذا التيار ليكمل تفاعلاته داخلياً وتقتصر المداخلات الخارجية عنه على الأكاديميين الفلسطينيين؛ إذ هم أقدر على توجيه هذا التيار إلى مساحات أكثر راديكالية.(ص118-120) والانقسام نفسه يشهده الجدل حول قيام مدرسة مؤرخين جدد عربية تحاول وصل ما بدأته المدرسة الإسرائيلية. فالمؤيدون للدعوة يرون أن العرب بحاجة لدراسة نقدية لتاريخهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحديث، على الأقل لكشف أسباب انهيارهم السريع. بينما يحذر آخرون من الفكرة باعتبارها استدراجاً سيؤدي لتطبيع ثقافي وأكاديمي. (ص121-122)
ومن أهم ما تتناوله دراسة كاظم مهدي حول ظاهرة ما بعد الصهيونية، هو رد فعل المجتمع الإسرائيلي عليها والذي تنوع بحسب الكاتب بين تيار متفاعل، يعتقد بأهمية إسهامات هذا التيار في حماية المجتمع الإسرائيلي من الدوغمائية وكشف ثغرات الاتجاه التقليدي في كتابة تاريخ الدولة، وتيار متجاهل، يعتقد في عدم تجانس أفكارهم وأنها تنحصر في فئة علمانية من خلفية تعليمية رفيعة ما يؤدي إلى محدودية أثرها، خاصة وأنها لا تخرج عن إطار الطرح الثقافي، والتغيير مرهون بالمجال السياسي.(ص123،125) ولم تغفل الدراسة انعكاسات تيار ما بعد الصهيونية على المجتمع الإسرائيلي ومساحات التعليم والثقافة فيه.
فيرصد مهدي مسارات تأثير دعاة ما بعد الصهيونية في المجال الأكاديمي بشكل خاص وفي الثقافة الشعبية بوجه عام، وقد تمثلت في أفلام سينمائية ووثائقية تجنبت النزعة الأسطورية في رواية التاريخ الإسرائيلي ومسرحيات ذات طابع عدمي، بل وفي مناهج دراسية، خاصة في منظومات التعليم البديل التي تميل إلى تضمين المنظور الفلسطيني للواقع.(ص134) وتطور الوضع لانتقاد التجنيد الإجباري من قبل بعض الأكاديميين، وتشبيه بعض السلوكيات العسكرية بسلوكيات نازية.(ص132) ولا يخفى أثر تيار ما بعد الصهيونية على الاحتفالات الوطنية والدينية كاستغلال ذكرى الهولوكوست لإثارة الجدالات العامة حوله.(ص132) أو تحول هذه الأعياد من مناسبات جماهيرية عامة إلى احتفالات عائلية محدودة تتمحور حول الشواء والتنزه في الحدائق العامة.(ص130) ورغم اتساع دوائر تأثير دعاة ما بعد الصهيونية إلا أن الكاتب يؤكد وجود صعوبات جدية في مواجهة هذا التيار إلى حد تعرضهم للتضييق في النطاق الأكاديمي بتأخير ترقياتهم أو حتى فصلهم. كما لا يتوقف السياسيون من التيار اليميني عن مهاجمتهم واتهامهم بالخيانة والمطالبة بإقصائهم عن المجال التعليمي. (ص136)
وأخيراً، يختم كاظم مهدي دراسته حول ما بعد الصهيونية بتعليق يرى فيه أن إسهامات هذا التيار قدمت تشكيكاً ونقداً سعت فيه لتفكيك الأيديولوجية الصهيونية لكنها عجزت عن تقديم بناء جديد، ورغم ما يتهددها من التيارات الفكرية الصهيونية فإن الكثير من المؤشرات تنبئ باستمرار وتنامي دورها في المشهد الإسرائيلي. (ص143،144)
وتعتبر الدراسة مدخلاً جيداً للاطلاع على تيار ما بعد الصهيونية، خاصة وأنها من أوائل الدراسات في موضوعها بالمكتبة العربية. غير أنها لا تقدم رؤية تفسيرية حول الظاهرة أو نقداً لما كتب عنها. إذ تركز اهتمام كاظم مهدي على استعراض الآراء المختلفة حول كل موضوع دون تحليل أو مساءلة لأي منهم. وعلى الرغم من أن الوعي المبدئي بتيار ما بعد الصهيونية مهم في حد ذاته، إلا أن الدراسة تتركه غامضاً، يثير الأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات. ولهذا فإن أهم ما تشير إليه الأطروحة هو الحاجة إلى إيلاء هذا الموضوع حقه من البحث والدراسة في أروقة الجامعات والمراكز العربية. كي يمكن الوقوف على مدى أهمية هذه الظاهرة وتكوين رؤية جادة بشأنها تصلح لتأسيس مواقف ثقافية أو سياسية عليها.
لتحميل القراءة من هنا
عودة الله، خالد. “حوار حول نظرية اللعبة: أنسنة العدو شرط لمقاومته”، قديتا.نت [
1] [2] رغم ما تقنعت به الحركة الصهيونية من صبغة دينية إلا أنها استبطنت كل مقولات النظام العلماني الحداثي، الأمر الذي انعكس عليها مع تفكك هذا الخطاب منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
[3]  مهدي، كاظم. “ما بعد الصهيونية”، مركز دراسات الوحدة العربية، (2016). ص 40.
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2017

“الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى