دخلت الجزائر مرحلة جديدة بعد انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، وسعيه إحداث تغييرات في أجهزة الدولة وأهمها المؤسسة العسكرية والأمنية، ونفذ تبون نيسان/أبريل مجموعة إقالات وتغييرات وُصفت بالجريئة، عندما أقال مدير الأمن الخارجي بجهاز الاستخبارات العقيد كمال الدين الرميلي، وعين خلفًا له اللواء محمد بوزيت. كما تمت تنحية المدير العام للأمن الداخلي الجنرال واسيني بوعزة وإحالته إلى السجن بسبب قضايا اعتداء على المحتجين وفساد، وتعيين نائبه الجنرال عبدالغني راشدي خلفًا له، وتم ذلك عقب إقالة مدير دائرة التحضير والعمليات في الجيش الجزائري، اللواء محمد بشار، وعُين خلفًا له اللواء محمد قايدي([1]).
هذه التغييرات أثارت عدة تساؤلات حول قدرة الرئيس الجزائري الجديد على إجراء هكذا تغييرات في بنية الدولة العميقة وما تحمل هذه الخطوة من دلالات على مستقبل المؤسسة العسكرية التي قادت المرحلة الانتقالية بقيادة رئيس الأركان الراحل الفريق أحمد قايد صالح بعد تنحي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عن السلطة، وكان لها دور بارز في حماية البلاد من الدخول في مرحلة من الفوضى السياسية.
ولم يتوقف الأمر على الإقالات، إنما قام الرئيس عبد المجيد تبون بعد ذلك بإصدار مرسوم رئاسي يحدد مهام الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني وصلاحياته، ويكلفه للمرة الأولى برفع تقرير دوري عن مجموع أنشطة وزارة الدفاع، ويضع الأمين العام للوزارة في مقام مساعد لوزير الدفاع الوطني – وهو الرئيس- في إدارة الوزارة وتسييرها بتنشيط الهياكل التابعة لها وتنسيقها ومراقبتها وكذا بالسهر على السير الحسن لهياكل وزارة الدفاع. ويمنح لرئيس الجمهورية إمكانية تكليف الأمين العام لوزارة الدفاع، وتخويله أية صلاحية أو مهمة خاصة يسندها إليه وزير الدفاع (الرئيس)، والإمضاء باسمه على جميع العقود والمقررات بما فيها القرارات مع إعلام الرئيس([2]).
لكن بالمقابل أشارت خطوة تبون إلى وجود نية لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية بما يتوافق مع مطالب المحتجين من جهة وبما يضمن تثبيت أركان سلطته بعدم السماح لأي إمكانية انقلاب تكون لصالح (الحرس القديم) من ضباط موالين للرئيس بوتفليقة. وعليه يثار النقاش حول الجدوى من إجراء هذه التغييرات وأثرها على الوضع السياسي لمستقبل الجزائر خصوصًا وأن أي تغييرات حساسة في المؤسسة العسكرية بما فيها الاستخبارات قد تقود إلى فوضى أو على الأقل أزمة سياسية جديدة.
دور المؤسسة العسكرية في نظام الحكم
نظم دستور 23 فبراير 1989 عمل مؤسسات الدولة الجزائرية، باعتباره مرجعية ناظمة لعمل المؤسسة العسكرية للجزائر حاليًا، وأكد -حتى في تعديلاته التي جرت خلال عدة أعوام آخرها في 2006- على حصر مهام الجيش في الدفاع عن السيادة والوحدة الوطنيتين وهذا ما أوضحته المادة 24 من الدستور، حيث نصت على “تنتظم الطاقة الدفاعية للأمة ودعمها وتطويرها حول الجيش الوطني الشعبي. تتمثل المهمة الدائمة للجيش الوطني الشعبي في المحافظة على الاستقلال والدفاع عن السيادة الوطنية. كما يضطلع بالدفاع عن وحدة البلاد وسلامتها الترابية وحماية مجالها البري والجوي ومختلف مناطق أملاكها البحرية”([3]).
وفي فترة تولي بوتفليقة للرئاسة عام 1999، كان مصير البلاد في أيدي جنرالات سيطروا على معظم جوانب النظام السياسي الجزائري. وأدت دائرة الاستعلام والأمن، وهي جهاز الاستخبارات الجزائري، دورًا حاسمًا في تشكيل المشهد السياسي في الجزائر ولكن بمجرد توليه المنصب قام الرئيس بوتفليقة بالمناورة من أجل تقليل سلطة الجنرالات ذوي النفوذ من خلال إعادة تجميع الجيش وأجهزة الاستخبارات وإعادة هيكلتها. وقد كان أهمها عندما أحال الرئيس الجنرال محمد توفيق مدين عام 2015 من منصبه كرئيس دائرة الاستعلام والأمن، وأصبحت الدائرة تابعة للرئاسة. لكن صحة الرئيس المتدهورة قد أوجدت إمكانية عكس هذا التراجع في السلطة العسكرية([4]).
بعد ذلك، حل الجيش محل دائرة الاستعلام والأمن كمحاور رئيسي بين الفصيل الرئاسي والجهاز العسكري الأوسع. وأصبح الجنرال أحمد قايد صالح، وهو رئيس أركان الجيش ووزير الدفاع رجلًا قويًا في الجزائر، حيث مارس نفوذًا كبيرًا على الحكومة أكثر من أي فصيل آخر في النظام. وقد كان في ذلك الوقت يمتلك علاقات جيدة مع بوتفليقة([5]).
حاول الرئيس السابق إعادة ضبط الأمور لصالحه، فأجرى عام 2016 تغييرات في أجهزة المخابرات، فحلّ جهاز دائرة الاستعلام والأمن وعوضه بمديرية المصالح الأمنية، المكونة من ثلاث مديريات هي الأمن الداخلي والأمن الخارجي والمديرية التقنية (الفنية) على ألا تتبع وزارة الدفاع الوطني إنما تُلحق برئاسة الجمهورية. كما أتبع هذا القرار بتغييرات تهدف إلى إنهاء سيطرة المخابرات على الإعلام الحكومي والأمن في الوزارات والمؤسسات الحكومية لتصل إلى فرق النخبة المسلحة المتخصصة في مكافحة الإرهاب([6]).
بدوره قام رئيس الأركان قايد صالح بتنفيذ حملة تغييرات عام 2018 شملت 20 منصبًا حساسًا في الجيش أبرزها الأمين العام لوزارة الدفاع، -وهو بحكم المنصب الرجل الثاني في المؤسسة العسكرية- وقائد القوات البرية الذي يعتبر الرجل الثالث تنظيميًا، إضافة إلى قادة النواحي العسكرية الأولى والثانية والثالثة والرابعة، ومدير أمن الجيش، والمراقب العام للجيش، إضافة إلى مدير المالية، والعتاد والإمدادات، وقائد القوات الجوية([7]).
وتحولت بذلك المؤسسة العسكرية إلى صراع نفوذ غير معلن بين القصر الرئاسي ورئاسة الأركان وضباط في المخابرات، وقد يكون هذا أحد الدوافع الرئيسية لقايد صالح من أجل تبني مطالب المحتجين عندما انطلقت المظاهرات ضد حكم الرئيس السابق بوتفليقة. ففي تلك المرحلة أعلن صالح دعمه للمتظاهرين وذكر في عديد من خطاباته مرافقته للحراك وحمايته له، وكان له دور بارز في الضغط على تنحي بوتفليقة وتخليه عن الحكم، بعدما خرج في خطاب دعا فيه إلى وجوب تطبيق الدستور الذي ينص على إعلان شغور منصب الرئيس بسبب عارض صحي، وتنظيم انتخابات رئاسية مسبقة. وهو ما حدث بالفعل([8]).
استراتيجية تبون في التعامل مع المؤسسة العسكرية
يعمل الرئيس الجزائري الحالي على توسيع نفوذه داخل المؤسسة العسكرية والأمنية حيث تعد الصلاحيات التي منحها لنفسه بالمرسوم الجديد الذي أقره مؤخرًا، توسيعًا لمهام أمين عام وزارة الدفاع وربطه برئيس الجمهورية مباشرة، وتعتبر هذه الصلاحيات جديدة مقارنة مع تلك التي كانت مدرجة في مرسوم سابق صدر في أغسطس/ آب 2004 في حكم بوتفليقة، لكن مرسوم تبون استثنى من مهام وصلاحيات الأمين العام لوزارة الدفاع، صلاحية الإشراف على قيادة أركان الجيش، باعتبارها هيئة عملياتية يقودها في الوقت الحالي اللواء سعيد شنقريحة، وعمد تبون إلى هذه التدابير لتلافي تعيين نائب له وزيرًا للدفاع، كما كان الحال في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، من 2004 حتى استقالته في إبريل/ نيسان 2019، وظل الأمر على هذا الحال حتى ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إذ كان رئيس أركان الجيش الفريق الراحل أحمد قايد صالح يشغل منصبًا دائمًا في الحكومة كوزير للدفاع بتعيين من بوتفليقة -يعتبر رئيس الجمهورية وزير الدفاع ورئيس الأركان نائبه الأول لكن بوتفليقة غير هذا القانون- ويشارك في اجتماعات الحكومة ومجلس الوزراء ويدير وزارة الدفاع الوطني([9]).
لذلك يهدف تبون إلى تقييد قرارات رئاسة هيئة الأركان وتؤيده مجموعة من الضباط داخل الجيش، كما “بات الإعلام الحكومي يصرّ على صلاحيات دستورية لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، كوزير للدفاع الوطني القائد الأعلى للقوات المسلحة حتى حين يتعلق الأمر بنشاط سياسي وحدث ذلك، بعد تنويه افتتاحية مجلة الجيش التي توصف حال المؤسسة العسكرية بما سمّته “الانسجام الكامل بين رئيس الجمهورية والجيش الوطني الشعبي، وكانت الافتتاحية محل تساؤل في أوساط مراقبين بسبب غياب أي عارض يستدعي التذكير بهذا الانسجام، إذ ذكرت المجلة أن الجيش الجزائري يتمتع بثقة رئيس الجمهورية، كونه الراعي الأمثل لهذا الائتمان، ماضيًا، حاضرًا ومستقبلًا”([10]).
وبالمحصلة يوجد لدى الرئيس تبون مقاربة جديدة داخل النواة الصلبة في المؤسسة العسكرية باتفاق مع قيادات من هيئة الأركان، لكن لا تعد استراتيجية الرئيس عبد المجيد تبون هذه خالية من المخاطر إذا حاول المضي قدمًا بمزيد من التغييرات والإقالات، ما قد يثير حفيظة بعض جنرالات الجيش من (الحرس القديم) والذين لا يزالون يمتلكون سلطة قوية في أجهزة الدولة، ما قد يؤدي إلى إشعال الأزمة السياسية في الجزائر مجددًا خصوصًا وأن المؤسسة العسكرية والأمنية شهدت صراعات نفوذ وسلطة في آخر مرحلة حكم بوتفليقة([11])، وكذلك بعد رحيل الرجل القوي داخلها رئيس الأركان السابق أحمد قايد صالح([12]). فهل ستثير سياسات تبون أزمة سياسيّة في البلاد تقودها المؤسسة العسكرية وجنرالاتها القدماء، أم تتجّه مؤسسات الدولة إلى مرحلة توازن افتقدتها لسنوات؟
([1]) “إقالات تبون بالمخابرات والجيش بالجزائر: هيكلة تدريجية للمؤسسات الأمنية”. العربي الجديد، 15-4-2020. https://bit.ly/2yDIkWi
“تبون يعيد هيكلة المخابرات الجزائرية.. إقالات بالجملة”. العربية نت، 16-4-2020. https://bit.ly/3grYpPT
([2]) “الرئيس الجزائري يوسّع صلاحياته في إدارة الجيش”. العربي الجديد، 23-4-2020. https://bit.ly/2TMmMOG
([3]) “تاريخ الجيش، الجيش الوطني الشعبي…من جيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي”. موقع وزارة الدفاع الجزائرية، تاريخ الزيارة 28-5-2020. https://bit.ly/2ZKSeRg
“الدستور الجزائري”. الجزيرة نت، 27-5-2015. https://bit.ly/3c9mozZ
([4]) “هذه خلفيات توالي الإقالات في صفوف جنرالات الجيش بالجزائر”. هسبرس، 24-8-2018. https://bit.ly/3c89F0v
([5]) “قايد صالح ومستقبل الجيش الجزائري”. معهد واشنطن للدراسات، 16-10-2018. https://bit.ly/2ZEDC5Q
([6]) “الجزائر: بوتفليقة يحل جهاز الاستخبارات ويشكل جهازا جديدا تابعا للرئاسة”. فرانس 24، 25-1-2016. https://bit.ly/3cbs2S8
([7]) “هيكلة واسعة في الجيش الجزائري تطيح بـ 20 لواءً”. الوطن، 2-9-2018. https://bit.ly/3dbxINg
([8]) “من الثورة إلى الحراك.. أبرز محطات أحمد قايد صالح”. يورونيوز، 24-12-2019. https://bit.ly/2TJ8cqY
“لهذه الأسباب لا نتوقع أن يتدخل الجيش لحسم أزمة الجزائر”. إضاءات، 10-3-2017. https://bit.ly/2zAMgYg
([9]) “الجزائر تدخل مرحلة «التخلص» من إرث قائد الجيش السابق”. صحيفة الشرق الأوسط، 16-4-2020. https://bit.ly/3eD9wEb
“إعادة هيكلة النظام السياسى فى الجزائر”. الشروق، 16-5-2020. https://bit.ly/2AbXylQ
انظر المرجع رقم 2.
([10]) “الجيش الجزائري يتهم جهات بالتشويش على تغييرات تبون”. إنديبندينت عربية، 19-4-2020. https://bit.ly/3cbEIbP
([11]) “الجيش الجزائري يصفي حساباته مع نفسه”. مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 7-8-2019. https://bit.ly/2B9Itli
([12]) “القصة الكاملة: كيف يعيق الجيش الجزائري مسار الثورة؟”. إضاءات، 6-12-2019. https://bit.ly/2ZInv7b
“أحمد قايد صالح: وفاة “رجل الجزائر القوي”. بي بي سي، 23-12-2019. https://bbc.in/2zBYO1H