في 8 يوليو-تموز 2019 أعلنت الإمارات تخفيض عدد قواتها وإعادة انتشارها في اليمن، والانتقال من حالة العسكرة إلى استراتيجية تحقيق السلام، وقد أثار هذا الإعلان غير الرسمي، جدلًا رسميًا في الأوساط الرسمية العربية والغربية، من حيث دلالات التوقيت والغاية والتداعيات على مستقبل اليمن، والارتدادات على التحالف الدولي بقيادة المملكة العربية السعودية، منذ 2015، بأهداف معلنة تتمحور في دحر الانقلابين على الحكومة الشرعية في اليمن والحفاظ على مؤسسات الدولة وإعادة الاستقرار.
وبدا أن هذا الإعلان صادرٌ عن تحول في استراتيجية الإمارات المتبعة في اليمن، خصوصًا أنها جاءت في ظل احتدام المشهد الإقليمي في بحر العرب، بعد تصاعد التوتر الأمريكي الإيراني، وتنامي مُهددات جماعة أنصار الله الحوثي في رفع منسوب الأخطار على حركة الملاحة البحرية في الممرات المائية الرئيسية في المنطقة، كمضيق هرمز وباب المندب، بعد استعراض الأخير للقدرات القتالية المتطورة بصواريخ كروز المجنحة والطائرات المسيرة، التي استهدفت منشآت نفطية سعودية إماراتية في 14 مايو/ أيار 2019، وفرض حالة من الخطر الأمني على طول الحدود الجنوبية للمملكة.
ووسط تعقيدات المشهد تُطرح عدة تساؤلات عن المقصد الاستراتيجي من وراء خفض عدد القوات الإماراتية في اليمن، كونه جاء متزامنًا مع عدة متغيرات إقليمية في المنطقة، إلى جانب ظهور منعطفات داخل الأزمة اليمنية، وعن دلالات توقيت هذا الإعلان في وقت استطاعت فيه حكومة أبو ظبي بعد مضي أربع سنوات من مشاركتها في عمليات التحالف العربي، تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية في المناطق التي عززت حضورها فيها كجنوبي اليمن، وموانئ الساحل الغربي على ساحل البحر الأحمر وميناء عدن الاستراتيجي، فهل هذا الإعلان ينم عن رضاها بما حققته من مصالح جيوسياسية طوال السنوات الماضية، وبالتالي لم يعد هناك حاجة لتواجد عسكري كبير لقواتها خاصة وأنها أسست خليط من قوات غير نظامية تضمر لها الولاء في إدارة وحماية مناطق نفوذها في جنوب اليمن، أم أن هناك أسباب أخرى.
من جانب آخر تتُهم الإمارات أنها تسعى من وراء إعلانها الأخير التهرب من حجم الضغوط والاتهامات المُوجهة ضدها، سواء على صعيد محلي يمني من قبائل يمنية تعترض على سلوكها وتتهمها بتقويض جهود الشرعية اليمنية والانحراف عن أهداف التحالف، أو على صعيد دولي باتهامها في انتهاك حقوق الإنسان، وتحميلها جزء من المسؤولية عن أكبر أزمة إنسانية في القرن الحالي.
وبنفس السياق ساد اعتقاد عام عن أن المقصود من وراء إعلان تخفيض القوات، يعود لأسباب داخلية في الأزمة اليمنية، من حيث الوعي بإطالة أمد الصراع، واستحالة حسم الأمور عسكريًا، وارتفاع حجم الخسائر والتكلفة الاقتصادية للحرب، ما دفعها لاتباع تكتيك جديد في التملص تدريجيًا من التزاماتها المعلنة مع التحالف، والتوجه نحو الحفاظ على المكتسبات الفردية، عن طريق أذرعها في المنطقة، تمهيدًا لدفع أبناء المنطقة الجنوبية لتحقيق مشروع انفصال الجنوب عن الشمال، على غرار ما حدث في تسعينات القرن الماضي.
ورغم كل الفرضيات المذكورة فمن الصعب ترجيح إحداها على الآخر، من دون إعادة النظر في التطورات الأخيرة التي شهدتها الأزمة اليمنية قُبيل أسابيع من إعلان الإمارات المُمهد للانسحاب التدريجي أو إعادة الانتشار، إضافة إلى معرفة مناطق التوزع والانتشار الإماراتي في اليمن، والمناطق التي تم الانسحاب منها، والنظر في أهميتها الحيوية، وصولًا إلى طبيعة الدوافع لمثل هذا التحول، والتداعيات على مستقبل التحالف ومصير اليمن ضمن إطار الجهود الدولية بالحل السياسي، لاسيما بعد التفاؤل باتفاق ستوكهولم المُوقع بين أطراف الصراع برعاية الأمم المتحدة 2018، والخاص بتحديد مصير مدينة الحديدة [1]، فرغم مضي عام على الاتفاق وتهرب الأطراف الموقعة من تنفيذ كامل بنوده، إلا أنه نجح في خفض وتيرة الأعمال العسكرية، ورغم عدم تطبيق شامل لبنود الاتفاق، إلا أن مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن مارتن غرفيث لا يزال يُعول على عودة إحيائه كمخرج رئيسي لإيقاف الحرب ودفع جميع الأطراف لتسوية سياسية شاملة.
مناطق التوزع والانتشار
منذ تدخل الإمارات في اليمن اعتمدت على تطبيق خطة انتشار وتوزع لقواتها في المناطق الواقعة على طول خليج عدن والبحر الأحمر، كونها مناطق حيوية تستطيع من خلالها إنشاء موانئ بديلة لمضيق هرمز الدولي، كميناء عدن والذي تنظر إليه كهدف استراتيجي حيال نجاحها ربطه بموانئ دبي العالمية عبر إحياء اتفاقية تشغيله التي ألغيت منذ 2012[2]. أو من خلال بسط السيطرة عليه ووضعه تحت قيادتها بشكل مباشر إلى جانب السعي الدؤوب لبسط السيطرة والتحكم في الممرات البحرية الهامة. وعبر الشكل أدناه يتضح جليًا كيف أن خطة الموانئ البديلة أصبحت قيد التحقيق[3].
وبعد عامين من عمليات التحالف العربي، استطاعت الإمارات تحقيق انتشار وتواجد عسكري كبير، تركز بشكل خاص داخل قواعد عسكرية، ومراكز قيادة في مناطق ساحلية مُطلة على خليج عدن والبحر الأحمر، وتشمل مناطق رئيسية وفرعية ذات أهمية جيوسياسية، في محافظة عدن، وميناء المخا التابع لمحافظة تعز، ومطار المكلا في محافظة حضرموت، وميناء بلحاف، بمحافظة شبوة جنوبًا، وشمالًا في محافظة مأرب، فضلًا عن التواجد في العاصمة المؤقتة عدن في مناطق لحج وأبين والضالع وتعز.
كذلك لها حضور في الساحل الغربي، وتشمل محافظات، الحديدة وحجة والمحويت وريمة. وفي الجزر الجنوبية المطلة على محافظة المهرة وسقطرى ومنطقة حضرموت ومدينة المكلا.[4] وبنفس السياق عملت على تأسيس مجموعة من الفصائل المسلحة تابعة لها وتحت إشرافها، حيث تم تأسيس تلك القوات عبر برامج تدريبة منها داخل اليمن، وأخرى داخل الإمارات، في الفترة ما بين 2015- 2016، وأوكلت لها مهام مختلفة بناءّ على الأهداف والمصالح المُراد تحقيقها، (ألوية العمالقة، قوات المقاومة الوطنية، قوات الحزام الأمني، قوات النخبة الحضرمية، القوات المشتركةـ، قوات النخبة الشبوانية)[5]. ويتضح توزعها كما في الشكل.
أهداف التدخل في حرب اليمن
يغلب على الدور الإماراتي في حرب اليمن طابع المصلحة الخاص على حساب المصالح المشتركة مع التحالف العربي، فبعد مضي أربع سنوات على الصراع، اتضح جليًا كيف أن خريطة النفوذ منقسمة لمناطق نفوذ سعودية أغلبها في الشمال، مقابل وجود إماراتي في الجنوب وبعض موانئ الشمال والساحل الغربي، وهو الذي كشف عن أن الجهود الإماراتية جاءت لتحقيق مآرب أخرى من وراء الشراكة في التحالف العربي، والمدخل كان استغلالها حالة الفوضى والفراغ السياسي والأمني في البلاد، الذي خلفه سقوط العاصمة صنعاء بأيدي الحوثيين 2014، والانقلاب على الشرعية، ما دفعها لتحقيق سلسلة أهداف استراتيجية أولها محاولة الوصول للمحيط الهندي عبر ميناء عدن، وبسط النفوذ على الموانئ الجنوبية بهدف إحكام السيطرة على حركة الملاحة في بحر العرب، وإضعاف الدور الريادي البحري لسلطنة عُمان والتي تعطي أهمية كبيرة للبعد الجيوبوليتيك للمناطق المتصلة معها بحرًا وبرًا خاصة في منطقة المهرة البوابة الشرقية لليمن، حيث يربطها مع عُمان أكثر من منفذ بري. لذا فإن عُمان تخشى من أن يؤدي تنامي النفوذ الإماراتي في جنوب اليمن لتطويق مشاريعها الاستثمارية في المنطقة[6] .كما لم يكن الوصول للمحيط الهندي وميناء عدن هو لغاية تحجيم الدور العُماني فحسب، بل سعت الإمارات إلى تنامي نفوذها الجيوسياسي في ما وراء بحر العرب وصولًا لخليج السويس، وخليج عدن، إلى جانب التحكم في ستة قطاعات نفطية يقع ثلاثة منها قبالة السواحل اليمينية المُطلة على البحر الأحمر، وثلاثة منها في خليج عدن والتي سبق وأن منحت الحكومة اليمنية في 2013 حق التنقيب فيها لشركة توتال الفرنسية[7].ومن جملة الأهداف الأخرى المطروحة حول دورها أنها تقوم بتشكيل دولة موازية في جنوب اليمن، تمهيدًا للإعلان عن الانفصال، في حال آلت الجهود الدولية للتوجه نحو هذا السيناريو، كحل ينهي الصراع في اليمن، ولعل الهدف من وراء ذلك رغبة الإمارات الاستفادة من الخيرات والثروات الطبيعية التي تتمتع بها المنطقة، والخاضعة لنفوذها، واستخدامها في إطار الشراكة التنافسية الدولية مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ووفقًا لبعض المصادر فإن الإمارات تعتبر الوجه الغربي في اليمن لتمرير مشاريعهم في المنطقة والحصول على موطئ قدم لهم ضمن سلسلة الامتيازات والاستثمارات النفطية، والاستفادة من الموانئ اليمينة في حركة الملاحة البحرية[8]، وقد نجحت الإمارات عن طريق سياسة الاستقطاب لأبناء قبائل الجنوب والتيارات السياسية وشخصيات سياسية، في تشكيل تحالفات مشتركة أسهمت في إضعاف جهود الحكومة الشرعية من جهة، ودعم أبناء الجنوب من خلال تشكيل المجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات والذي تم تأسيسه 11 مايو/ أيار 2017.[9]
كما لا يغيب عن الجهود الإماراتية رغبتها في تعزيز موقفها السياسي في مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربيةـ، ورغم أن المجلس يفتقر لفعالية القرار السيادي العربي، إلا أن وجوده يعد ضرورة رمزية في نظر الإمارات والتي تحاول من خلاله رفع رصيدها في المنطقة عبر تبني الجامعة هدف محاربة الإرهاب، وهي الورقة التي تسعى الإمارات من خلالها تمرير مصالحها الاستراتيجية في المنطقة تماشيا مع بقية الدول كمصر والسعودية إلى جانب الدول الغربية.
كما أن البعض يرى أن الإمارات ترغب في درء كامل الشبهات عنها في دعمها لبعض الجماعات الإرهابية كالاتهامات التي وجهت لها في الأزمة الليبية في دعم جماعات متطرفة لإحداث فوضى وتقويض الاستقرار الليبي، عبر اتهامات موجهة ضدها في دعم جهود اللواء خليفة حفتر في معاركه ضد من وصفهم بالإرهابيين[10].
مناطق الانسحاب ( أسبابه ودوافعه)
لا توجد معلومات كاملة عن المناطق التي تم الانسحاب منها، خصوصًا مع عدم وجود إحصائية دقيقة عن عدد القوات الإماراتية المتواجدة، سوى الصادرة منذ في 2015 بتعداد وصل إلى خمسة آلاف مقاتل [11]. ووفقًا لبعض المصادر فإن مناطق الانسحاب شملت سحب بطاريات باتريوت من قاعدة صرواح في مأرب، وبعض العتاد الثقيل من الساحل الغربي، وتم الاستعاضة عنها بقوات سعودية[12]. كما أن مصادر محلية رصدت في عدن تحركات عسكرية شملت مغادرة عربات وآليات عسكرية، يُعتقد أنها تابعة للإمارات في مدينة عدن، أعقبها وصول آليات أخرى عبر ميناء “الزيت” و تم نقلها إلى قاعدة التحالف في منطقة الشعب [13]. وفي ظل الغموض والسرية عن معرفة مناطق الانسحاب إلا أن مصادر أكدت تخفيضًا للقوات الإمارتية في قاعدة العمليات الأمامية في مدينة عصب الإريترية، وإخلاء معسكر الخوخة وجزء كبير من جنوب الحديدة مع بقاء الإدارة الإماراتية تابعة لها عن طريق قوات ( الحزام الأمني وقوات النخبة) [14] .
وعلى الرغم من التخفيض الجزئي للقوات الإماراتية في المناطق المذكورة، إلا أنه يلاحظ أنها مناطق غير حيوية مقارنة بالمناطق الجنوبية التي لم يُشهد فيها أي تحرك، بل على العكس حافظت الإمارات على قواتها على امتداد المناطق الجنوبية ويظهر توزعها كما في الشكل [15].
التوزع الحالي يؤكد أن الهدف من عملية الانسحاب إعادة انتشار وتموضع وفق استراتيجية جديدة في التعاطي مع الأزمة اليمنية تحت شعار الانتقال نحو السلام، وبشكل يتناسب مع الظروف والمتغيرات في الساحتين العربية والإقليمية، والتي يمكن من خلالها تفسير أسباب ودوافع القرار الإماراتي الجديد وفق ما يأتي:
أولًا: لم يكن قرار انسحاب الإمارات من اليمن وليد التطورات الأخيرة في بحر العرب، بل يعود لما قبل عامين، حيث شهدت الساحة اليمنية تصعيدًا عسكريًا في ميناء ومدينة الحديدة يُعد الأعنف منذ 2015، حينها كانت حكومة أبوظبي تسعى لحسم مصير المدينة كتتويج لأهدافها الاقتصادية، وتطبيق خطة البدائل في بسط السيطرة على آخر الموانئ البحرية للساحل الغربي في اليمن المطلة على البحر الأحمر بهدف تعزيز مكانة ميناء دبي العالمية وفق معادلة فرض النفوذ والتنافس على موانئ البحر الأحمر والتحكم بممرات التجارة الملاحية الدولية[16] إلا أن اختلاف الرؤى مع شريكتها السعودية وتدخل المجتمع الدولي، حال دون حسم المعركة لصالح أي طرف، وتوقفت الأعمال بموجب توقيع اتفاق ستوكهولم، واضطرت الإمارات آنذاك لسحب جزء من معداتها العسكرية خارج مسرح العمليات، ما أدى إلى انخفاض وتيرة المعارك في معظم الجبهات لأكثر من 70%. وبناء عليه بدأت الإمارات عمليًا التفكير بمراجعة حساباتها في اليمن، وفق الآتي:
_ إعادة النظر في مسار العلاقات والمصالح المشتركة مع المملكة العربية السعودية في اليمن، بعد قيام الأخيرة بالضغط على الحكومة الشرعية اليمنية لتوقع اتفاق ستوكهولم، ومنع الإمارات من حسم المعركة لصالحها[17].
_ تقييم كامل للموقف الدولي ورسم خطط بديلة للحفاظ على استمرار التحكم بمصير جنوب اليمن والموانئ البحرية، بعد تأكيدها على عدم وجود رغبة دولية في إنتاج حل سياسي و تسوية ترضي جميع أطراف الصراع.
_ إعادة النظر في نتائج معركة الحديدة وتقييم شامل لمناطق التوزع العسكري بهدف وضع خطط استراتيجية تستطيع من خلالها استكمال مشاريعها في اليمن وتضمن بقاء نفوذها مستقبلًا.
ثانيًا: إن الملابسات التي ظهرت قُبيل إعلان الانسحاب بين السعودية – الإمارات في قضية “سقطرى” دفعت الإمارات نحو التفكير ببراغماتية منفردة وبعيدة عن رؤية المملكة، وكانت سببًا في موضوع إعادة الانتشار لمحدد رئيسي مفاده:
_ محاولة الإمارات تعويض خساراتها في معركة الحديدة، وتحركها بشكل منفرد للسيطرة على الجزر الهامة المطلة على المحيط الهندي، والقريبة من القارة الإفريقية أبرزها سقطرى وشبوة، لكنها فشلت بعد اعتراض الحكومة الشرعية، والتي قامت عن طريق بعثة اليمن في الأمم المتحدة برفع شكوى لها واتهمت الإمارات بعدم شرعية وجودها في سقطرى، إلى جانب دعم السعودية موقف الشرعية، ولعبها دور وسيط، وقد نجحت بذلك عبر توقيع اتفاق قضى بسحب الإمارات قواتها خارج مطار وميناء سقطرى.[18]
ثالثًا: تصاعد وتفجر الخلافات في ملف اليمن بين حكومتي أبو ظبي والرياض، في مراحل الصراع اليمني منذ 2015 وفق الآتي:
_ اختلاف في أولوية تحديد العدو الأول، فالسعودية تعتبر ” جماعة أنصار الله الحوثي” المدعوم إيرانيًا العدو الأول لها، يليها التنظيمات الجهادية والإسلامية، بينما الإمارات تعتبر أن التيارات الإسلامية والجماعات الراديكالية هي العدو الأول لها يليها ” جماعة أنصار الله الحوثي”.
_ اختلاف في إدارة بعض المعارك كمعركة “شبوة” حيث دعمت المملكة العربية السعودية شيوخ القبائل التي تؤيد الشرعية في مطالبها بخروج الإمارات من جنوب اليمين، بينما توجهت السعودية حينها للاستفراد ومحاولة السيطرة على مدينة المهرة[19].
رابعًا: التطورات الطارئة في بحر العرب وخليج عمان، بفعل التصعيد الأمريكي الإيراني في المنطقة، سبب حالة من الإرباك بين شركاء التحالف، فقد نالت المملكة النصيب الأكبر من أخطار الحوثي على حدودها الجنوبية، بينما الإمارات لم تتعرض لأخطار إلا لمرة واحدة في ميناء الفجيرة، وهو ما يدعو للتساؤل عن سبب التفضيل في استراتيجية الحوثيين في تهديد أمن المملكة، دونًا عن الإمارات التي أعلنت في ظل ذروة التصعيد الراهن عن تخفيض عدد قواتها في اليمن، وهو ما يعكس نية الدوافع الخفية لدى الإمارات في تبنيها سياسة النأي بالنفس ودرء المخاطر عنها والحفاظ على مصالحها بعيدًا عن أهداف التحالف العربي، وما يعزز ذلك “وفق مصدر خاص” محاولة طهران الداعمة للحوثيين ممارسة الضغط على الإمارات للانسحاب التدريجي من اليمن، كي لا تكون هدفًا لها في حال قررت الأخيرة توسيع سيناريو الفوضى في المنطقة للضغط على أمريكا[20].
رابعًا: قرار انسحاب الإمارات يأتي رغبة في امتصاصها الضغط الدولي وحرف الأنظار عن الاتهامات الموجهة ضدها في قضايا انتهاك حقوق الإنسان، وتأسيس سجون سرية داخل اليمن [21]، و اتهامات أخرى في مسائل صفقات السلاح المشبوهة في ليبيا والسودان، والتحالف مع بعض الجماعات الإرهابية.
خامسًا: هناك سبب ثانوي يدخل في سياق دوافع الانسحاب، هو اعتقاد الإمارات أنها أدت مهمتها في إطار تحالفها مع التحالف العربي، ودفعت كلفة باهظة على الصعيد السياسي والعسكري واللوجستي، ونجحت في المهمة الرئيسة في جنوب اليمن عبر طرد الحوثيين في 2017، وقدمت جهود كبيرة في ملاحقة التنظيمات الإرهابية في جزيرة العرب عبر تنفيذ طلعات جوية مع الولايات المتحدة، وبالتالي لم يعد هناك حاجة لتعداد كبير من القوات البرية داخل اليمن خصوصًا بعد انخفاض مستوى العمليات العسكرية.
مع ذلك بعض المراقبين يرى أن الإمارات استطاعت عبر تجنيد 90 ألف مقاتل وتدريبهم في اليمن منذ 2016، تشكيل دولة موازية تستطيع عبرها إدارة مناطق نفوذها وحماية مصالحها الاقتصادية والسياسية في الساحل الغربي ومناطق الجنوب، وبالتالي إعلان خروجها يأتي للنأي بنفسها أمام الرأي العام، في حال قامت المليشيات برفع حالة الفوضى في الجنوب تمهيدًا لاقتطاع الجنوب اليمني وإخضاعه لقيادتها، لذا فإن قرار الإعلان يأتي في محاولة للتهرب من المسؤولية أمام المجتمع الدولي، وترك المملكة وحيدة في مواجهة الضغوط والتداعيات الدولية.
التداعيات على التحالف العربي ومستقبل اليمن
لاشك إن قرار الإمارات سواء كان القصد من وراءه إعادة انتشار وتموضع أو انسحاب تدريجي مستقبلًا، سيُلقي بظلاله على المملكة السعودية وسيزيد من حجم الضغوطات عليها في ظل عجز واضح في مواجهة أخطار الحوثي المدعوم من طهران، لا سيما أن الأخير أظهر قدرات قتالية عالية عبر استعراضه تقنيات متطورة يمتلكها، أو تلقاها من إيران، كصواريخ كروز المجنحة، وطائرة مسيرة قادرة على إصابة أهداف على بعد 1400كم في العمق السعودي، دون أن تستطيع منظومة الدفاع الجوية السعودية اكتشافها[22].
كما أن المملكة فشلت في عدة جهود سابقة في تخفيف وردع الحوثيين، عن تهديد أمن المملكة في الوقت الذي تقوم به الإمارات بتقديم قوة عسكرية وجوية للتحالف، خاصة في محاربة التنظيمات الإرهابية في جزيرة العرب، ونجاحها في طرد الحوثيون من مدينة عدن وكامل مناطق الجنوب. لكن مع تفجر الخلافات وتباعد الرؤى والاستراتيجيات في مصالح البلدين وأولوياتهم وارتفاع منسوب الأخطار في بحر العرب، أصبحت الإمارات وكأنها تنأى بنفسها، عبر التركيز على المناطق الحيوية الخاصة بها، تاركةً وراءها مهمات صعبة على عاتق المملكة، لذا فقد يبدو من الغير الممكن أن تستطيع السعودية منفردةً مواجهة الأخطار المتنامية خصوصًا أنها طرف يتبنى بشكل علني مواجهة إيران، فضلًا عن أنها طرف القيادة الأول في مشروع عاصفة الحزم، ومرحلة إعادة الأمل.
ومع إخلاء مساحات واسعة قد يكون من الصعب حدوث عملية التعبئة بقدرات سعودية خالصة، بل من الممكن أن يستثمر الحوثيون تصاعد الخلاف السعودي الإماراتي ويعملون على توسعة رقعة السيطرة والاستيلاء على مناطق أكثر على حساب تراجع جهود المملكة.
وبناء عليه فإن خيارات المملكة قد تكون ضيقة بعد كل ما ذكرنا من متغيرات ذاتية متعلقة بأزمة اليمن ذاتها، وأخرى متعلقة بالمتغيرات الدولية في المنطقة وتوجيه الأنظار على تأمين حركة الملاحة الدولية بعد تعرض ميناء هرمز مؤخرًا لمحاولات قرصنة بحرية بين إيران وحلفاء أمريكا في منطقة الخليج العربي. وفي حال استمرار الإمارات في سياسة الانزواء والتملص تدريجيًا من أهداف التحالف العربي، فلن يكون أمام السعودية سوى خيارين:
الخيار العسكري
_ الانزلاق أكثر في الخيار العسكري بشكل منفرد، واللجوء إلى تحريك جبهات كانت متوقفة بقرارات سياسية كتحريك جبهة الحديدة عبر شن أعمال عسكرية برية، تهدف من خلالها لإغلاق منافذ تهريب السلاح للحوثيين، لكن هذا الخيار يبقى مستبعدًا لعدة أسباب:
_ السعودية تعتمد في معاركها البرية بشكل كبير على الإمارات في استمالة العنصر البشري سواء عبر مشاركة قوات إماراتية خاصة، أو عن طريق المليشيات التي جندتها، ومع لجوء الإمارات لتخفيض عدد قواتها، وتوجيه المليشيات لحماية مصالحها في مناطق نفوذها، فسيكون من الصعب على المملكة ملء فراغ العنصر البشري للاستمرار في الأعمال العسكرية.
_ منذ تدخل التحالف العربي بشكل مباشر في حرب اليمن، اعتمد استراتيجية السيطرة الجوية، وتجنب خيار بناء قدرات الجيش اليمني، واستعاضت عنها بمليشيات يمكن الاستغناء عنها متى اقتضت الحاجة لذلك، كما لم يُسمح للشرعية اليمنية بأن تكون قوة حقيقية تتولى إدارة المناطق المحررة وتستمر في كسب المزيد من الأراضي، وقد لعبت الإمارات دورًا كبيرًا في تقويض جهودها، في عدة مناطق آخرها تركها لمدينة مأرب ساحة مكشوفة أمام الحوثي، بعد سحبها لمنظومة الباتريوت [23].
_ معارضة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي أي تصعيد عسكري جديد في اليمن حفاظًا على جهود التسوية السياسية وعدم السماح لأطراف الصراع التسبب في انهيارها، ومن جانب آخر تخشى الولايات المتحدة من أي محاولة تصعيد في اليمن تؤدي إلى دفع طهران زيادة للحوثيين، والانتقال إلى استهداف مصالحها في جبهات أخرى كسورية والعراق.
_ ظهور عجز السلاح الجوي السعودية في درء مخاطر الحوثيين وعدم قدرتها على حسم الصراع لصالحها بعد تنفيذ آلاف الطلعات الجوية، يثبت من ناحية أخرى عدم قدرتها بشكل منفرد على الاستمرار بالخيار العسكري في المدى القريب.
العودة إلى التفاوض
إن عجز التحالف العربي عن تحقيق أهدافه المعلنة منذ أربع سنوات، وترك المملكة شبة وحيدة في مواجهة الحوثيين، والذي زاد من وتيرة تأثيرها أكثر ما كان عليه قبل التطورات الأخيرة، قد يدفع بالمملكة للعودة لمسار المفاوضات المباشرة مع الحوثيين، بهدف تهدئة الصراع ودفع الأخير للتوقف عن تهديد أمنها، وهذا ما يقود إلى الرجوع لنقطة الصفر منذ بدء المفاوضات بين الطرفين في 2016 والذي عرف باتفاق طهران، وصولًا لاتفاق جهود السلام اليمني واتفاق ستوكهولم، فبعد أحداث 14- مايو/ أيار 2019 والذي كان نقطة تحول في استراتيجية الحوثيين، بدأت المملكة بإحياء القنوات السرية مع قيادات الحوثي، وأجرت عبر جهود بريطانية محادثات سرية انتهت بالفشل [24] بسبب تمسك الحوثي بشروط لا تناسب تطلعات المملكة، وهو ما يطرح تساؤل عن مدى إمكانية لجوء المملكة لاحتواء الحوثيين بعد إعلان الإمارات الأخير تخفيض عدد قواتها، والذي يعكس رغبتها في عدم الانخراط في المواجهة مع إيران والحفاظ على منشآتها النفطية. كذلك تسعى إدارة ترامب بموقفها الظاهري تجنب أي مواجهة مع إيران، منعًا من أن يقود ذلك لإشعال كامل المنطقة، لذا فهي قد تمارس ضغوط على المملكة لدفعها نحو الانخراط بمباحثات مع الحوثي.
فيما تبقى المعضلة الكبرى أمام السعودية أنه من غير السهل أن تذهب كليًا مع هذا الخيار وتُقدم تنازلات كاملة للحوثيين بشكل قد يقودها لخسارة كل إنجازاتها منذ 2015، ويفقدها هيبتها في المنطقة، فالمملكة ترغب بتسوية شاملة لليمن بشكل يضمن لها عدم ترك الساحة لإيران، والخروج من المستنقع اليمني بمعادلة متكافئة وهو المطلب الممكن والمستحيل وفق التطورات الراهنة.
خاتمة
بناءً على ما تم ذكره ومن خلال تتبع توجهات التحركات الإماراتية في اليمن، في إطار جهودها ضمن التحالف العربي، وتبني تحقيق أهداف خاصة، فقد نجحت من خلالها استراتيجية الاندفاع الأولى في تحقيق سلسلة من المكاسب الجيواقتصادية والسياسية، تجلى ذلك في تفنيد أسباب تدخلها في اليمن، وخريطة التوزع والانتشار، وانتزاعها جملة مكاسب سياسية واقتصادية، تلبية لأهداف عليا ودور حكومة أبو ظبي المتنامي في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، ومع تغير المعادلة الدولية ودخول متغيرات جديدة على الساحة اليمنية والساحة الدولية والإقليمية في الخليج العربي والبحر الأحمر وخليج عُمان، بدأت الإمارات تلجأ لتغيير سياساتها في المنطقة خشية من خسارة ما حققته منذ أحداث الربيع العربي 2011، وبدا أن خيار تخفيض عدد القوات من اليمن واتباع تكتيك إعادة الانتشار أولى المؤشرات على استراتيجيتها الجديدة في المنطقة.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات © 2019
UN، النص الكامل لاتفاق ستوكهولم، ن- بتاريخ 13- ديسمبر، 2018، شوهد بـ 21- يوليو/ تموز 2019.
العربي الجديد، الإمارات وميناء عدن، دبي العالمية تعود بالقوة العسكرية، ن- بتاريخ 25- نوفمبر، 2017ـ شوهد بـ 21- تموز/ يوليو 2019.
[3] ميدان، الجزيرة، مخطط توزع الموانئ البحرية الإماراتية والتي تهدف للسيطرة على طرق الملاحظ الدولية، شوهد 22/ تموز/ يوليو 2019.
يُنظر إلى الخريطة لمعرفة المحافظة الجنوبية لتواجد النفوذ الإماراتي في اليمن، المركز العربي للأبحاث، شوهد بـ 21- يوليو/ تموز 2019.
الجزيرة، علي الذهب، توزع التشكيلات العسكرية المسلحة التابعة للإمارات في اليمن وتأثيرها العسكري والسياسي، شوهد بـ 21- تموز /يوليو 2019.
الجزيرة، الصراع المكتوم بين عمان وأبوظبي، ن- بتاريخ 2-12- 2017، شوهد بـ 21- تموز/ يوليو 2019.
نافذة علة اليمن، سباق توتال والحوثيين للسيطرة على الموانئ النفطية، شوهد بـ 21- تموز/ يوليو 2019.
[8] مصدر مطلع، بريطانيا وأمريكا تسهل حركة الإمارات في جنوب اليمين وفقًا للمصالح المشتركة، ومؤخرًا قدمت لها بعض التوجيهات والذي قاد إلى إعلان الإمارات الانسحاب من بعض المناطق وإعادة الانتشار في مناطق أخرى لصرف الأنظار عنها أمام المجتمع الدولي.
BBC لمحة عن المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، ن- بتاريخ 29- يناير 2018، شوهد بـ 21- تموز/ يوليو 2019.
الشرق، أبو ظبي تدعم جماعات إرهابية في ليبيا، ن- بتاريخ 18-5-2019، شوهد بـ 21- تموز/ يوليو 2019.
الشرق الأوسط، الإمارات تسحب قواتها من اليمن، ن- بتاريخ 11- تموز- 2019،ـ شوهد بـ 22- تموز/ يوليو 2019.
الجزيرة، الإمارات هل سحبت قواتها من اليمن، ن- بتاريخ 4-7- 2019، شوهد بـ تاريخ، 22- تموز/ يوليو 2019.
العربي الجديد، ما وراء تقليص الوجود الإماراتي في اليمن، ن- بتاريخ، 30- يونيو 2019، شوهد بـ 22- تموز/يوليو 2019,.
عدن تايمز، الإمارات تترك اليمن خديعة أم هزيمة، ن- بتاريخ 9- يوليو 2019، شوهد بـ 22- تموز/يوليو 2019.
[15] صحيفة الاستقلال، خريطة التوزع الإماراتي في اليمن، شوهد بـ 22- تموز/ يوليو 2019.
برق للسياسات والاستشارات، معركة الحديدة، دوافع السيطرة وخيارات الحسم، ن- بتاريخ 4-أكتوبر 2018، شوهد بـ 22- تموز /يوليو 2019.
[17] مصدر يمني خاص أكد محاولة المملكة الضغط على حكومة عبد ربه منصور هادي توقيع الاتفاق لمنع الإمارات من فرض سياسة أمر واقع، بعد تراكم الخلافات والتباين في الرؤي بين حكومة أبو ظبي وقواتها من جهة، وحكومة الشرعية والمملكة من جهة ثانية، والخلافات تعود لعام 2016 بعد تنامي العداء بين الإمارات وحكومة هادي والذي قام بعزل قيادات وشخصيات سياسية في مدينة عدن محسوبة على المحور الإماراتي والذي رد حينها بشن تصعيد على حكومة هادي في الجنوب، وتشكيل تحالفات تتبنى خيار الانفصال من بينهم جماعات إسلامية تعارض توجهات حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي. ودعم تشكيل مجلس انفصالي في 2017.
برق للسياسات والاستشارات، المشهد اليمني، النفوذ الإماراتي المتنامي في اليمن، شوهد بـ 23- تموز/ يوليو 2019.
الجزيرة، المجلس العسكري يهاجم الإمارات ومليشياتها في الجنوب، ن- بتاريخ، 21-6- 2019، شوهد بـ 23- تموز/ يوليو 2019.
[20] مصدر خاص، الإمارات أجرت محادثات سرية مع بعض قيادات الحوثي برعاية طهران وتم التفاهم بتفادي الإمارات من خيار التصعيد مقابل القبول بخيار الانسحاب التدريجي من اليمن بشكل ظاهري والحفاظ على مناطق نفوذها ومكتسباتها في المنطقة عن طريق قواتها التابعة لها في المناطق الجنوبية، و بعض أعضاء المجلس الانتقالي، الذين تربطهم علاقات وثيقة مع إيران بحكم أن البعض منهم كان مقيم سابقًا في طهران.
هيومن رايتس ووتش، هناك شبكات ومعتقلات سرية وتعذيب وإخفاء قسري في اليمن، ن- بتاريخ 22-6- 2017، شوهد بـ 23- تموز/يوليو 2019.
الخليج أون لاين، بالأرقام هكذا استطاع الحوثيون استباحة السماء السعودية، ن- بتاريخ 2-7- 2019، شوهد بـ 23- تموز/ يوليو 2019.
الاستقلال، انسحاب الإمارات من اليمن، لماذا تزامن مع تفجير الوضع في مأرب، شوهد بـ 23- تموز/ يوليو 2019.
الجزيرة، هل أعاد السعوديون، فتح قنوات اتصال مع الحوثيين، ن- بتاريخ، 16-6- 2019، شوهد بـ 23- تموز/ يوليو 2019.