نقول المراجعة وليس التراجع، فالمراجعة تفرضها حركة الحياة وتفاعلها مع الواقع. فالقاعدة القديمة للفقهاء والأصوليين تقول: (الفتوى تتغير زماناً ومكاناً وعوائد) وهي تشير الى أنّ كل تغيير في الحياة يؤثر في تغيير مسار الفتوى ومضمونها؛ وهذا في أمور الدين. فكيف في أمور الدنيا أو الدعوة ووسائلها أو السياسة وتعقيداتها.
أما تغُيِّر الزمن: أي أحوال الناس والسياسة والعلاقات والاقتصاد، والزمن والأيام قد تأتي بمعنى واحد، فنرى في القرآن الكريم (وتلك الأيام نداولها بين الناس). (آل عمران139) الأيام أي: النصر والهزيمة، السلطة والسادة، الهيمنة والقوة، التقدم والتأخر، الفقر والغنى، التنمية والفساد، إذاً هذه المفاهيم والمتغيرات تقتضي المراجعة الدائمة في كل المسارات والمجالات، وإلاّ تتعطل الحياة، ونتأخر نحن ونستعين بما أبدعه غيرنا في أمور حياتنا.
وأما مكاناً: فهو البيئة المتغيرة، أي بيئة القرية والمدينة، بيئة دار الإسلام أو دار الحرب، بيئة سياسية مفتحة وأخرى منغلقة وهكذا.
أما العوائد والعادات: فهي اختلاف الثقافات، والأعراف الاجتماعية، صحيح أن العرف والعادة مقسّمة إلى قسمين (حسن ٌوفاسد) وهذا بناءً على أن ّ كل عرف يخالف ثوابت الشريعة والقيم الأساسية الإنسانية المحكمة فهي خاطئ أو فاسد، ولكن هناك قاعدة فقهية تقول: ( العادة محكمة) وهذه القاعدة لها حضور في كافة أو أكثرية الدساتير والقوانين في العالم عبر امتداد الزمن، فبهذا تعني أنّ في كلّ أمّةٍ ولكلّ أمّةٍ أعرافاً وعاداتٍ جميلة، وهي إما مِنْ نتاج فكرهم أو تجربتهم في الحياة، وهذه تقتضي التغيير في الحياة، ومسيرة الحياة تغيّر نفسها بنفسها، فَإِنْ لم نكنْ مبادرينَ، فالحياة تفرض علينا أنْ نكون أمِعّات إتِّكاليين.
فالقضايا المطروحة اليوم للمراجعة الدائمة في مجتمعاتنا باتت تنتظر الموقف الجريء والتغيير الجذري، والرؤية الفكرية الواضحة، ومن أهم هذه القضايا:
قضية المرأة وحقوقها السياسية والمالية والاجتماعية، والثقافية، فأكثرية الأشكال كانت تنبع من الموروث، وليست ديناً أو شريعةً، فالحياة فرضت علينا المرونة والتغيير.
وقضية الحرية الفردية والحريات العامّة، أصبحتْ معضلةً فكرية بدل أن تصبح مبادئ أساسية لتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية، وأن نبني عليها رؤيتنا الشرعية، وإقامة سلطة الإنسان والمواطن ودولة المواطن، ولكن مع ذلك كلّنا (أفراداً، وأحزاباً، وسلطة ً) حينما ننظر إلى حكومات المواطن في بعض دول العالم سرعان ما نقول ودون توقف، الإنسان يستحقُ نظاماً عادلاً وكرامةً مصونةً مثل هذه الدول؛ إذاً ما المانعُ غير الخوف من التغيير في أسلوب الحياة، وإدارة شؤونها؟
وقضية الديمقراطية، والتعددية، واحترام الآخر، وتداول السلطة السلمي، وصلت إلى مرحلةٍ مؤسفة في بلادنا، فصارت الديمقراطية توأم البترول، بمعنى أنّ البترول بالأساس نعمةٌ من الله لعباده، ولنّنا حوّلناها نقمةً للعباد وفساداً للسلطة، وسبباً لانهيار الاقتصاد، ووسيلةً لخلق البطالة المقنَّعة، وأكثر من تلك وأنكى وأخطر وهي؛ ابتكرنا في بلادنا المنكوبة نوعاً خاصّاً من الديمقراطية وهي الديمقراطية الموجّهة من قبل السلطة، والمحدد سقفها، ووضعت أمامها علامات المرور الثلاثة فالأخضر منها ثلثٌ في أحسن الأحوال، والثلث كثيرٌ، فالديمقراطية من هذا النوع بريءٌ ، ولا يدري الشعب لماذا إلى هذه الدرجة الخوف من المواطن، علماً أن المواطن هو الذي يحمي السلطة والدولة ولكن بشرط العدالة وحفظ الكرامة، اذاً السلطات وأحزاب السلطة يعرفون وسيلة الحماية وهو المواطن البريء، فلماذا لا يلتجؤون إليه؟ الجواب واضح وهو الخوف من التغيير وعبودية المألوف، وإذا لم نبدأ فالحياة بقوانينها الكونية تغيرنا، كما غيّرت الأمم والشعوب والحضارات بسُنّة ثابتة، (وتلك الأيام نداولها بين الناس) وسوف يكون للبحث صلة إن شاء الله.
لتحميل المقال من هنا