إذا كان رئيس النظام السوري بشار الأسد قد سيطر بالفعل على مساحةٍ كبيرةٍ من الأراضي السورية، فإنّ مليون لاجئ يُقيمون في لبنان يخشون التفكير بالعودة إلى ديارهم.
تحت قطعةٍ من القماش المشمع الذي قدّمته له الأمم المتحدّة، يقوم عبد الله بتسخين الشاي، من أجل هذا الغرض أشعل النار بموقدٍ عن طريق بقايا عبواتٍ بلاستيكيةٍ قام بجمعها من الشارع.
لجأ الرجل إلى هذا المخيم المؤقت والذي يقع على بُعد بعض الكيلومترات فقط من الحدود السورية منذ عام 2012، لا يعرف ما إذا كان سيعبر الحدود مرةً أخرى باتجاه بلده.
“بالتأكيد أؤمن أني سأرى بلادي” يقول كلماته هذه بحسرةٍ وبصوتٍ مخنوق، هو رجلٌ خمسيني جاء من درعا المدينة الواقعة في جنوبي سورية، والتي سيطر عليها جيش نظام بشار الأسد في الصيف الماضي.
يتابع عبد الله القول: “الحياة هنا ليست كريمة، لا يوجد شيء، لا عمل ولا ماء ولا كهرباء، لكن طالما بقي بشار الأسد في السلطة لا يمكننا العودة إلى سورية، لا يوجد أمان، لقد خاطرنا بحياتنا من قبل من أجل القدوم إلى لبنان”.
في حين تسيطر القوات الحليفة لنظام الأسد والمدعومة من موسكو على ما يقارب ثلثي الأراضي السورية، تسيطر فصائل المعارضة السورية وفصائل أخرى على 10% تقريبًا.
كلّ هذا والوضع لا يزال معتمًا فيما يتعلق بمستقبل أكثر من 5.6 مليون سوري في المنفى بما في ذلك أكثر من مليون لاجئ يعيشون في لبنان.
داخل خيمةٍ تقع على بُعد أمتارٍ قليلةٍ قال محمد البالغ من العمر 39 عامًا أنّه يخشى في حال عودته أن يتمّ إرساله مع ولده الذي يبلغ من العمر 19 عامًا إلى جبهات القتال “يُقال لك أنّه يمكنك على الفور أن تعود إلى منزلك ولكن عندما تصل يُسارعون للانتقام منك”. هذا ما احتجّ به هذا الرجل الذي يرتدي كوفيّة قادمًا من الغوطة الشرقية إحدى ضواحي العاصمة دمشق.
عمليات الهدم واسعة النطاق:
تُعتبر الاعتقالات والتجنيد في صفوف جيش النظام بالإضافة إلى مصادرة ممتلكات السوريين بشكلٍ ممنهج من العوائق العديدة أمام عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
في سبيل تحقيق هذه السياسة، أقرّ برلمان النظام السوري في نيسان/ أبريل من العام الماضي قانونًا يسمح لدمشق بالاستيلاء على الممتلكات الخاصّة، وذلك من أجل “بناء مشاريع عقارية” وهو ما تمّت تسميته ب “القانون رقم 10” أو ما يعرف باسم “قانون التجديد الحضري”.
ينصّ القانون سابق الذكر على أنّ السُّلطات ستكون قادرةً على إنشاء مناطق إداريةً محليةً في الأماكن التي تسيطر عليها بهدف “إعادة بنائها”.
وبالنتيجة الأمر متروكٌ لأصحاب العقارات حتى يقوموا بتقديم ثبوتيات المُلكية خلال مدةٍ أقصاها 12 شهرًا بدءًا من تاريخ الإعلان الرسمي لكلّ منطقة، وإلا فإنّ حكومة النظام ستغْنَم ممتلكات المواطنين وتضعها للبيع في مزادٍ علني.
ومع ذلك فإنّ الغالبية العظمى من المعنيين بهذا القانون ليست لديهم وثائق رسمية تثبِت حقوقهم بالمُلكية، أو بالأحرى مَنْ منهم يجرؤ ولو بالتفكير بالذهاب إلى داره بالأصل، والانتقام والاعتقال بانتظاره هناك؟.
ذو وجهٍ مليءٍ بالتجاعيد، لؤي الذي يبلغ من العمر 52 عامًا والذي ترك بيته في مدينة القصير القريبة من الحدود اللبنانيّة، تمّ تحويل منزله هناك بالفعل إلى ثكنةٍ عسكرية.
يتساءل هذا المعارض لنظام بشار الأسد والذي يَعرف أنه مطلوبٌ من قِبَل فرع المخابرات العسكرية السوريّة “كيف تريد منّي أن أجد بيتي؟”، ويتابع القول بدون أن ينتظر إجابةً على استفساره “لا أستطيع حتى تجديد أوراقي في السفارة السورية في لبنان لأنني سأتعرض لخطر الاعتقال، النظام لا يريدنا أن نعود”.
في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي ذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش (HRW)في تقريرٍ لها أنه يوجد عمليات هدمٍ واسعة النطاق في حي القابون القريب من دمشق، وذكرت المنظمة كذلك مواقع البناء التي تمّ تحديدها في أحياءٍ سبق وأن قام جيش النظام السوري بتهجير سكانها منها.
في هذا الصدد قالت سارة كيالي الباحثة في منظمة هيومن رايتس ووتش أنه: “من الناحية الرسمية فإنّ حكومة نظام الأسد تدعو دائمًا إلى عودة جميع اللاجئين، لكن الواقع وما تقوله سياسة النظام على الأرض يوحي بشيءٍ آخر تمامًا، أي بوضوح تمنع معظم اللاجئين من العودة إلى ديارهم”.
لكن من المحتمل أن يسلك بعضهم طريق العودة إلى سورية وأن يخاطر بحياته وحياة أسرته، ذلك بسبب نقمتهم الشديدة على أوضاعهم المعيشية البائسة في لبنان، إذ لم يعد خافيًا على أحدٍ أنّ أكثر من 70% من اللاجئين في لبنان يعيشون تحت خطّ الفقر.
أكثر من مليون لاجئ:
قام مئاتٌ من اللاجئين السوريين بالتجمّع في الصباح الباكر في ملعبٍ بلدي يقع على أطراف بيروت، تجمعوا ينتظرون وصول الحافلات التي استأجرها نظام الأسد لهم.
خديجة التي تبلغ من عمرها 40 عامًا ترتدي معطفًا طويلًا باللون (البيج)، كانت تنظر إلى الأفق البعيد بقلقٍ شديدٍ تراقبُ ظهور الحافلات “لقد اختنقنا هنا بكلّ معنى الكلمة، لقد غرقنا هنا بالديون”.
ترثي هذه السورية حال عائلتها وتقول أنّها عازمةٌ على العودة إلى درعا مع ابنتيها اللتان تتراوح أعمارهما بين 7 و11 عامًا، وتقول كذلك أنّها ستترك زوجها خلفها “في سورية يمكن على الأقل أن يذهب أطفالي إلى المدرسة، هكذا آمل!”.
يتمّ تنظيم عمليات الإعادة هذه مرتين كلّ شهر تحت إشراف السلطات اللبنانية والنظام السوري الذي يشرف بذاته مع اللبنانيين على اختيار أسماء المرشحين الذين يُسمح لهم بالعودة.
ويقدّر عدد من عبر الحدود إلى بلاده من اللاجئين منذ شهر نيسان/أبريل الماضي بحوالي 10 آلاف سوري، غير أنّ المنظمات الدوليّة تعتقد أنّ الظروف غير مواتيةٍ بما يكفي لضمان عودةٍ آمنةٍ للاجئين.
في هذا الجانب تصف سارة كيالي الحالة الأمنية بالنسبة للاجئين بغير الآمنة “على الصعيد الإنساني لاتزال الأوضاع خطرة للغاية” وتتابع أنّه من المستحيل أن يجد من يعود من اللاجئين طعامًا أو مأوى في سورية، ثمّ أنّه “لم يتغير شيءٌ والاعتقالات لا تزال مستمرّة”.
لبنان البلد الذي يتحدّث عن “غرقه” من خلال استقبال مئات الآلاف من اللاجئين على ترابه -أو كما يُقال يُعادل عدد اللاجئين ثلث عدد سكان البلاد- لا يزال يسعى إلى تسريع عمليات الترحيل.
الجدير بالذكر أنّ عمليات إعادة اللاجئين ليست فقط هدفًا لبنانيّا، بل هو هدفٌ تدعمه موسكو بقوّة، حيث تعتبر مغادرة السوريين إلى بلادهم وسيلةً لجذب الأموال من الغرب من أجل “إعادة إعمار سورية”.
في النهاية يبقى عبد الله على موقفه، إذ يعتبر أنّه من المستحيل أن يتصور احتمال العودة أبدًا “لن أعيش مرّةً أخرى في ظلّ نظامٍ يستبد شعبه بهدف البقاء في السلطة”.
فيليبين دو كليرمون تونير ل(لو جورنال دو ديمانش) 30 كانون الثاني/يناير 2019
رابط المقال الأصلي من هنا
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات “
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات © 2019