الاصداراتالدراسات الاستراتيجية

الجزائر مأزق تحول السلطة

(الأبعاد والسيناريوهات)

مقدمة

تمر الجزائر بمرحلة استثنائية وأزمة سياسية لأول مرة منذ مرحلة ما بعد الاستقلال 1962، محاولةً  تجاوز آثار الصدمة النفسية لحقبة الاستعمار الفرنسي والعشرية السوداء، فبعد عشرين عاماً على رئاسة عبد العزيز بوتفليقة. وعلى أعتاب الاستحقاقات الرئاسية لانتخابات 18- نيسان إبريل 2019، خرج الملايين من أبناء الجزائر إلى كافة أرجاء المدن وصولاً للعاصمة الجزائرية رافضين ترشح الرئيس لفترة رئاسية خامسة، ومنددين بإقدام مدير حملته عبد الغني زعلان تقديمه أوراق مرشحه  في 3 مارس، وهو ما اعتبره الجزائريون إهانة لأكثر من 40 مليون شخص من أبناء الجيل الجديد الذين باتوا على يقين أن الرئيس الحالي أصبح ممثلاً في الواجهة وأن الصندوق الأسود لنظام الحكم من بقايا المحاربين القدامى هم من يديرون البلاد ويتمسكون برمزية الرئيس لأسباب براغماتية متجذرة منذ 1999 بثالوث حكم معقد أدخل البلاد بفترات ركود سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ليغدو الفساد آفة نافذة رفعت من معدلات البطالة إلى 11.7 بـ% إلى جانب انعدام فرص العمل، واحتكار عائد الموارد الطبيعة بأيدي قلة من الناس.

كما  كشفت الاحتجاجات الراهنة عن الكثير من الحقائق دلت عليها تصدعات طالت أجهزة الحكم بعد موجة من الانشقاقات والاستقالات على المستوى الوزاري والاستشاري ونواب في البرلمان لدى النظام، الأمر الذي وضع البلاد أمام أزمة سياسية أثقلت أعباءها على صناع القرار الذين باتوا في موقع منكشف أمام مطالب جماهيرية طالبت برحيل الرئيس ونظامه في سبيل فتح المجال أمام نخب عليا ترغب بإنهاء الاستعصاء السلطوي المتواتر منذ تسعينات القران الماضي.

تناقش الورقة مأزق انتقال الجزائر والتحديات الماثلة أمام تيارات المعارضة ومآلات خيارات أنظمة الحكم بعد خيار تأجيل الانتخابات وإبعاد الرئيس عن واجهة الحكم تحضيراً للمعركة السياسية الفاصلة خلال فترة الانتظار.

مأزق العُهدة الخامسة

يغلب الغموض على المشهد العام داخل مؤسسات النظام المتصارعة خاصةً، مؤسسة الجيش والاستخبارات والواجهة الرئاسية ومنتدى رجال الأعمال، ورغم صعوبة التوصل لحقائق الأمور بسبب سرية رجال الظل والكارتل المالي إلا أن السياق العام الذي جاء فيه الإعلان عن الرسالة المنسوبة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة لشعبه،[1]  كشفت عن الثغرة الأولى لمخططات سلطوية يقف خلفها صناع قرار أرادوا من خلال هذه الحركة الدفع بالرئيس للترشح والخروج من مأزقهم الحالي.

السنة المقررة ما بعد العُهدة الخامسة قد تكون كافية لاختيار شخص متوافق عليه بين مؤسسات الصراع الداخلي وبذلك فإن صيرورة بقاء النظام الحالي هي الهدف الأسمى من وراء التمسك بشخص الرئيس. والمعطيات الموضوعية والأقرب للمنطق  تثبت صحة مقاصد هدف الطبقة الوريثة، فالرسالة الرئاسية لا أحد يعلم من كتبها وبأي غرفة تم صياغتها ومن كان حاضراً ومن هم الأشخاص الذين وافقوا على إخراجها للعلن، فمن جهة تؤكد العديد من المصادر القريبة من شخص الرئيس أن وضعه الصحي المتدهور استحكم عليه حتى على مقدِرته العقلية ولم يعد يقوى على التكلم والتحدث فكيف برجل مريض أنهكه المرض على وقع الجلطة الدماغية التي أصيب بها منذ 2013 أن يكون مُلماً بأمور البلاد ويديرها بأن واحد معاً.

من جهة أخرى الرسالة المنسوبة للرئيس تم التوافق عليها على أعلى مستوى وبحضور شخصيات قيادية رفيعة أقدمت على هذه الخطوة بعدما ثبت لديها نية الرئيس الانسحاب من الترشح في 22 فبراير الماضي رشح عن ذلك دلائل عملية أفضت إلى رغبة الرئيس الابتعاد عن المشهد السياسي ليس فقط من أجل وضعه الصحي بل يتعدى ذلك إلى منع حدوث انفلات يدخل البلاد في أتون حروب تعيد حقبة التسعينات وأيام العشرية السوداء إلى الأذهان[2].

التوجس الصادر عن مراكز صُناع القرار التي أصرت في بادئ الأمر على مواجهة الاحتجاجات بإيجاد مخرج سياسي، وبعد تواتر تقارير أمنية عن نية الرئيس بوتفليقة بالانسحاب وإفساح المجال لانتخاب مرشح رئاسي جديد، تم الدفع به إلى سويسرا بدعوى تلقي العلاج ، وتصدر المشهد رئيس حملته ورئيس الأركان قايد صالح والذي فجر قنبلة من العيار الثقيل بتوجيه رسالة للشعب يذكرهم بأيام الجمر السوداء مضيفاً بأنه لن يسمح بعودة الجزائر لتكرار المأساة وأن الجيش لن يحيد عن قوانينه الدستورية،[3] أججت الرسالة غضب الشعب واتسعت دائرة الاحتجاجات وساهمت في خلق اصطفافات من قضاة ومحامين وأطباء وأساتذة جامعيين ومؤسسات مجتمع مدني وشخصيات متقاعدة سياسية أعلنت تأييدها للحراك السلمي، وبدا أن الشارع أدرك مرامي واستراتيجيات ثالوث النظام بعدما حسم الموقف المبدئي ووضع الشعب أمام معادلة قبول العُهدة الخامسة أو الانزلاق في فوضى عارمة، وقد كشفت هذه المعادلة عن سبب إصرار الواجهة الرئاسية على التمسك برمزية الرئيس فالمحيطون به من سياسيين وموالين وجنرالات يدركون أن ورقة التمسك بالرئيس هي الورقة الشرعية الدستورية المتبقية لهم، وإن أي تنازل عنها قد يدخل البلاد في حالة فراغ تسمح بنفاذ قوى سياسية من داخل النظام أو خارجه مناهضة لنهج وسلوك النظام القائم منذ عشرين عاما.

فمن شأن الإصرار على ترشح الرئيس لسنة واحدة طمأنة كبار المسؤولين ورجال الأعمال بالحفاظ على الامتيازات ومنع خروجهم من مظلة التأثير السياسي. وبدلاً من أن تقود هذه الخطوة إلى تبريد حدة الشارع وفتح خط الحوار مع المعارضة زادت من تعقيد المشهد وأفرزت تصدعات على المستوى الرئاسي وساهمت في تحويل المظاهرات إلى مقر العاصمة الجزائرية ووجهت الرأي العام نحو مطالب الشعب بهدف إيصال رسائل للفواعل الدولية المؤثرة من الخارج، وبعد ثلاثة أسابيع من الحراك المتواصل وتواتر موجة الاستقالات من داخل النظام، جاءت الخطوة الثانية من استراتيجيات النظام على وقع فشل الأولى برسالة ثانية منسوبة للرئيس،[4] نصت على تأجيل الانتخابات وانسحاب الرئيس من الانتخابات الرئاسية وتنظيم ندوة وفاق وطني تكون جامعة لكل مكونات الشعب الجزائري، كما قدم الوزير الأول أحمد أويحيى استقالته للرئيس بوتفليقة ليُعين مكانه وزير الداخلية نور الدين بدوي والذي تم تكليفه من الرئيس بتشكيل حكومة جديدة والإعلان عنها بأسرع وقت.

     استمرار العُهدة الرابعة

فور إعلان الرئيس عن عدم ترشحه لعهدة خامسة عمت الأفراح عموم البلاد وأحدثت شرخاً في الشارع في اتجاهين الأول: اعتبر ذلك نصراً تاريخياً تمثل في استجابة الرئيس لمطالب المتظاهرين واحترام مبادئهم، والثاني اعتبر ذلك فخاً سياسياً بامتياز ومناورة من قبل مؤسسات النظام أرادت تمرير ما كانت ترمي إليه في نهايات 2018 حيث طرح آنذاك رئيس حركة مجتمع السلم عبد الرزاق مقري ورئيس حزب تجمع أمل الجزائر عمار غول تأجيل الانتخابات،[5] وتمديد فترة بوتفليقة وتنظيم ندوة وفاق وطني يعدل فيها الدستور وكان الهدف منها إنهاء حكم الرئيس وتحقيق انتقال سلس ديمقراطي للسلطة، إلا أن الفكرة اصطدمت بعائق دستوري في عدم تمريرها إلا في حالة الحرب، ومن خلال الحركة التكتيكية الأخيرة يبدو أنها جاءت متوافقة مع ما جاء في نص الرسالة الثانية في التوصل لمرحلة انتقالية دون عهدة خامسة وإسقاط الذريعة القانونية لتمريرها من خلال سياسة أمر واقع تتناسب مع طبيعة المظاهرات.

 وبهذا فإن المظاهرات تكون قد أعطت الذريعة السياسية التي ستغني عن ضوابط الدستور. وبالتالي إن البلاد ستكون أمام مأزق جديد يُترجم في تجميد انتخابات رئاسية بعدما كانت مقررة في 18 إبريل/ نيسان القادم، وسيستمر بوتفليقة كواجهة في الحكم للمتنفذين دون إحداث قلاقل قانونية. وثبت من جملة الرئيس في الرسالة ” لم أكن أنوي الترشح لفترة خامسة” أنه دفع لها مكرهاً بفعل أجهزة قيادية خلفية، تماشت مع حركة الشارع ويؤكد ذلك أستاذ التاريخ بجامعة وهران لونيسي بقوله إن القرارات الرئاسية التي أفضت التمديد لحكم بوتفليقة دون انتخابات هو تحقيق ما تم طرحه في 3 مارس عنوة، وهو ما يعد خروجاً عن الدستور، كذلك تنبأ جهاز الاستخبارات بنتائج هذه المناورة وأرسل العديد من التقارير للجهات العليا إلا أن سلطة الأحزاب الموالية للنظام وطبقة رجال الأعمال استمروا بالمناورة بهدف الوصول إلى ذات النتائج وقد تحققت من خلال إعلان الرئيس تأجيل الانتخابات.

ضبابية المشهد وتعدد الخيوط اللاعبة في الواقع السياسي واستغلالهم رمزية الرئيس كشفت الستار الثاني عن المتحكمين الفعليين للبلاد ومدى انسجامهم مع الفواعل الخارجية، سيما أن المظاهرات عرت أجنحة النظام وأفصحت عن حجم الصراعات والتنافس بين كتل صلبة تدير شؤون البلاد.

مؤسسة الجيش

تُعد مؤسسة الجيش العسكرية الأكثر سيطرة على أمور البلاد ولها مركزها الهام داخل النظام ولها اليد العليا في انتخاب الرؤساء فمنذ نهاية ولاية الرئيس هواري بومدين ( 1965- 1979) لم يتم انتخاب أي رئيس دون مشورة الجنرالات وعلى الرغم من كل التحولات التي مرت بها في فترة ما بعد الاستقلال إلا أنها مازالت مركز مؤثر وفاعل مقارنة مع بقية المؤسسات ويعود التراجع النسبي لها إلى جملة من التغيرات والاستقالات التي عمل عليها الرئيس بوتفليقة منذ وصوله لسدة الحكم في 1999م، حيث كانت السلطات قبل مجيئه موزعة بين رئاسة الجمهورية ومؤسسة الجيش جهاز الأركان والمخابرات والإدارة العامة، وكانت الكفة الراجحة آنذاك للمخابرات على حساب الجيش، فعمل بوتفليقة على وضع غالبية السلطات في يده وضم مؤسسة الجيش للرئاسة وأعاد هيكلة جهاز الإدارة الحكومي لضمان الولاء المطلق له.

الرئيس يعلم جيداً أنه شخصية اعتبارية واستثنائية مرت على تاريخ الجزائر كرجل استطاع أن ينهي حقبة سوداء ويحقق مصالحات وطنية ويقود البلاد للاستقرار فالرمزية التاريخية نابعة من تاريخه البطولي والذي وظفه في سلسلة من التغيرات دون أي اعتراض من أحد، فعلى سبيل الحقيقة شهدت مؤسسة الجيش موجة من الإقالات لا تزال حاضرة في الذاكرة الجمعية للجزائريين، كإقالة محمد مدين الملقب بالجنرال توفيق سنة 2015، وفي 2018 تمت تنحيه عدة جنرالات على هامش قضية الكوكايين[6] كان من بينهم عبد الغني هامل أحد المرشحين لخلافة بوتفليقة، ورئيس الوزراء الأسبق عبد المجيد تبون بعد مرور ثلاثة أشهر على تعيينه في أب/ أغسطس 2017م، على خلفية حمله شعارات محاربة الفساد وملاحقة المستفيدين من رجال الأعمال وفصل المال عن السلطة، ومع إدخال بوتفليقة موالين له كبدلاء عن الذين تمت إقالتهم، أصبح جهاز الإدارة الحكومي كاملاً بيد الرئيس خصوصاً بعد إقدامه على إلغاء منصب رئيس الحكومة واستبداله بمنصب الوزير الأول، ليصبح الجهاز وكل ما فيه يقدمون الولاء في مناصبهم لجهاز الرئاسة المنحصر بشخص الرئيس بوتفليقة.

مجمع الكارتل المالي

طبقة رجال الأعمال المتمتعة بامتيازات مالية واقتصادية وسياسية كانت موجودة قبل مجيء بوتفليقة وتعاظم دورها في عهده بعدما سمح لهم بلعب أدوار سياسية وامتلاك قنوات إعلامية، وتقديم تسهيلات جمركية وضريبية  استطاعوا من خلالها السيطرة على جزء من الاقتصاد بعد احتكارهم كامل المشاريع التنموية على رأسها مقاولات البناء الاكثر ربحاً والطرق السريعة والسدود والملاعب.

 تُجسد هذه الطبقة  فاحشة الثراء في شخصية رجل الأعمال علي حداد المقرب من شقيق الرئيس سعيد بوتفليقة، ويمثل حداد واجهة منتدى الكارتل المالي والذي شارك عدد كبير منهم في الانتخابات التشريعية 2017 حيث جرى ترشح بعض الشخصيات في قائمة أحزاب التحالف الرئاسي، وتقول بعض المصادر أن أكبر دور سياسي لمنتدى الأعمال يتمثل من خلال تواجدهم بكثرة داخل البرلمان بنسبة الثلث من أصل 462 وبهذا استطاع منتدى الأعمال الحصول على امتيازات اقتصادية وسياسية مشرعة لها واستطاعوا تشكيل اقتصاد موازي بين العام والخاص من خلال مشاركتهم الدولة التي تمدهم بتمويلات لمشاريعهم الاقتصادية من خزينتها، الأمر الذي قاد إلى تفشي الفساد ونشر المحسوبيات والرشوة ووضع الدولة بمرتبة 105 من حيث مدركات الفساد لعام 2018 [7]، ومع انطلاق الاحتجاجات الراهنة يبدو أن رجال المنتدى تحسسوا خطورة الوضع فأعلن عدد كبير من منهم مساندتهم للحراك السلمي تماشياً مع الوضع وبحثاً عن مخرج آمن من الأزمة.

الواجهة الرئاسية 

يلف الغموض حول شخص شقيق الرئيس سعيد بوتفليقة إذ تشير بعض التقارير أنه يمثل واجهة الحكم الرئاسي ويتمتع بشبكة علاقات واسعة مع الدول الأجنبية والمؤسسات المختلفة في البلاد وتربطه علاقات معقدة مع شبكة رجال الأعمال عل رأسها الملياردير علي حداد، وسعيد يمثل السند للرئيس بوتفليقة منذ توليه الحكم 1999 وهو من أحد المرشحين للرئاسة إلا أن الزج بورقته قد يكون في اللحظات الأخيرة، ما يعني أن النظام الحالي لم يرمِ بعد بكامل أوراقه في اللعبة الراهنة التي أخذت نوعاً شكل من أشكال المناورات بين الشعب والسلطة، فلا أحد يستطيع أن يجزم ماهي الخطوة الثالثة بعد إعلان الرئيس بوتفليقة تنحيه عن العهدة الخامسة إلا أن بعض الخيارات تفضي إلى أن سعيد قد يكون من بين أحد الشخصيات التي قد يتم الوفاق عليها داخل مؤسسات النظام وبالتحديد بين جهاز الاستخبارات ومؤسسة الجيش، مع ذلك لقد حسم المتظاهرون كلمتهم برفع شعار أرحل يا سعيد جنباً إلى جنب مع حكومة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، على صعيد آخر لا يمكن التعويل على الأخوين ناصر وعبد الغني مع فارق الثقل السياسي مقارنة مع سعيد.

ومع استمرار التصدعات داخل الحاشية الحاكمة فإن خيار التوافق على شخص بديل عن الرئيس ربما لا يكون من داخل الحاشية الحاكمة وهذا يستند إلى حجم الضغوطات الخارجية التي ليست بعيدة عن المشهد وتعمل على استخدام قوة ناعمة للتأثير على المشهد الداخلي، فالمصالح الدولية والتوازنات ستكون حاضرة بقوة في مرحلة الجمهورية الثانية للبلاد وعلى رأسها فرنسا.

التأثير الخارجي

لا يمكن في الجزائر تخطي المأزق السياسي بمعزل عن مراعاة التوازنات والمصالح الدولية والتي تنظر للجزائر كبلد نفطي يمتلك أهمية جيواقتصادية وسياسية، فأوروبا تستورد الغاز الطبيعي من الجزائر  بنسبة 30%، عبر ثلاثة أنابيب لنقل الغاز، أولها أنبوب “GLSI”، والثاني “MEDGAZ”، والثالث المخصص للنقل إلى إسبانيا عبر المغرب وهو “GAZODUCMAGHREB-EUROPE”.[8]

وتعد فرنسا الدولة الأكثر تأثيراً ونفوذاً على الجزائر كونها احتلت البلاد أكثر 132 عام وتعلم جيداً جغرافية البلاد وثرواته، وتمثل الجزائر أهمية عليا لصناع القرار الفرنسي نظراً للأهمية التاريخية والاستراتيجية التي تتمتع بها الجزائر بموقعها في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، ومركز مهم للملاحة الدولية، وفرنسا بعدما فقدت الكثير من مناطق نفوذها في القارات الخمس لاسيما في كندا وأمريكا ودول الشرق الأوسط ودول أفريقيا تحاول اليوم الاحتفاظ بأهم مناطق نفوذها في أهم دولة في الشمال الإفريقي ومن خلالها تستطيع التحكم بالعديد من المضائق والمناطق العالية. واقتصادياً لاتزال اتفاقيات أيفيان وملاحقها السرية التي وقعتها فرنسا مع الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال سارية المفعول وقد استطاعت من خلال هذه الاتفاقيات استغلال موارد الطاقة والغاز من خلال انتشار شركات فرنسية كشركة توتال التي تستحوذ على 37.75 % من أسهم شركة سونا طراك النفطية الجزائرية والتي اكتشفت مؤخراً خمسة حقول جديدة[9] للبترول بولاية بشّار جنوب غرب الجزائر.

أما روسيا فتربطها مع الجزائر علاقات متماسكة تعززت بعد اتفاقية الأسلحة في 2006 حيث أصبحت موسكو المورد الأول للسلاح في الجزائر بنسبة 80% ولا تقتصر العلاقات على الصعيد العسكري فموسكو بعد ما خسرت العديد من حلفائها في المنطقة كنظام القذافي باتت تنظر للجزائر كأحد أهم البوابات لشمال إفريقيا، وقد مثل انتشار سفنها في غرب البحر المتوسط، خطوة استراتيجية لمنع أي نزاع في الجزائر يفتح عليها جبهات أخرى مع الغرب، نظراً لكون منطقة شمال افريقيا منطقة تنافسية بين المعسكرين الغربي والشرقي، وترغب موسكو تعزيز نفوذها في المنطقة وليس عن طريق الجزائر فقط بل تجمعها علاقات صلبة مع المغرب ومؤخراً حاولت استرجاع نفوذها في ليبيا من خلال دعمها لحكومة طبرق ومساعدتها في عجزها الاقتصادي، من هذا المنطلق موسكو لا ترغب بأي عمليات استفزازية في المنطقة بما فيها الجزائر. وتعد روسيا أكبر منافس اقتصادي لأفريقيا عبر  مشروع “يامال” الغازي الذي تبلغ قيمته 27 مليار دولار، يسمح بإنتاج 16.5 مليون طن سنوياً اعتبارًا من 2019، على ثلاث مراحل. ويهدف المشروع الذي تملكه “نوفاتيك” بنسبة 40% والفرنسية “توتال” 20%، والشركتان الصينيتان، النفط الوطنية 20% وصندوق طريق الحرير “سيلك رود فاند” 20%، إلى إمداد قارة آسيا بنحو 54% من الغاز الروسي و46% منه إلى أوروبا.

ولا تغيب الجزائر عن أعين إيران في لعبة التنافس الإقليمي فإيران كانت من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال الجزائر وحافظت  على علاقات وثيقة معها حتى خلال الفترة الأخيرة، وبعد أن عززت مكانتها داخل الجزائر على جميع الأصعدة التجارية والنفطية والثقافية ساهمت عبر شركاتها بناء قطاعات سكنية وملحقات ثقافية  تتبع للسفارة الإيرانية وعملت على نشر المذهب الشيعي الإثني عشري داخل الجزائر عبر خلاياه النائمة كحلقة وصل لمخطط ولاية الفقيه في تصدير الثورة الإيرانية[10].

لذا فإنه من الواضح أن التأثير الخارجي سيكون حاضراً في المظاهرات الحالية من حيث دخول فرنسا في التنافس مع موسكو وإيران وممارسة الأخيرتان عوامل تأثير لحجز مقعد داخل القارة الإفريقية والجميع قد يلتقي في نقطة واحدة مفادها عدم رغبتهم في انزلاق الجزائر لمعادلة مشابهة للأحداث في سوريا واليمن ومصر، لذا فكان من الطبيعي أن تعلن فرنسا دعمها للاحتجاجات الشعبية وترحيب بقرار تنحي الرئيس بوتفليقة عن العهدة الخامسة،[11] لكنها بنفس الوقت تحاول في الخفاء رسم سياسات مستقبلية للجزائر بما يتناسب مع طبيعة مصالحها كأولوية أولى بهدف الحفاظ على الامتيازات واستمرارها ومزاحمة روسيا ومنعها من تعاظم نفوذها، بنفس الوقت روسيا تراقب عن قرب ما يجري داخلياً وأبدت موقفاً بعد 22 ويوم من المظاهرات باعتبار ما يجري شأناً داخلياً معربة على لسان المتحدثة باسم الوزارة الخارجية ماريا زاخاروفا بحل المشاكل بنهج بناء ومسؤول[12] .

سيناريوهات

على وقع تسارع المعطيات وتبدلها يبدو من الصعوبة في وضع مثل الجزائر في بيئته المتقلبة تحديد سيناريوهات راجحة بسبب انفتاح الجزائر على كل الاحتمالات، ولكن بعد انسحاب الرئيس من العهدة الخامسة يمكن ترجيح أحد السيناريوهات الآتية:

السيناريو الأول:

نجاح الحكومة الجديدة في احتواء الموقف

بعد تكليف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الوزير الجديد نور الدين بدوي بتشكيل حكومة جديدة بأسرع وقت ممكن يمكن لهذه الحكومة أن تلعب دورًا مهمًا حال نضوجها  في احتواء غضب الجماهير عبر إشراك شخصيات من المعارضة مقبولة من كل الأطراف، وتحقيق ذلك يتطلب من الوزير الإسراع في خطواته العملية وفتح حوار مع شخصيات مقبولة من المعارضة كحزب مجتمع السلم الجزائري، ومدى نجاح هذه الخطوة يتطلب مرونة من مؤسسات النظام الجيش والاستخبارات وإسناد الحكومة الجديدة في عوامل التأثير على الشارع إذا ما أرادوا تهيئة أرضية مشتركة لندوة الوفاق الوطني والتي ستحدد مستقبل البلاد، ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار عامل التأثير الخارجي كفرنسا التي تمتلك تأثيرًا على شخصيات رفيعة المستوى ولعل ظهور الأخضر الابراهيمي في المشهد سيكون عاملًا مهم في اللعب على التوازنات بين الداخل والخارج.

ويحمل هذا الخيار بذور الفشل في طياته في حال فشل الوزير نور الدين في تشكيل حكومة جديدة ترى النور وتأسس لمرحلة ندوة الوفاق الوطني، وعوامل الفشل تتركز بأبعاد داخلية بعدم توافق بين الأحزاب، إضافة إلى مؤثر خارجي قد لا يرى في هذه الخطوة مناسبة لمصالحة، فالوعي الجزائري الظاهر في الحراك السلمي متعطش اليوم للخلاص من أي تبعية خارجية، لذا فإن أي تشكيل لأي حكومة لا تراعي تطلعات الشعب ستتسبب في رد فعل عكسي وتأجج الشارع من جديد وتزيد من درجة التعقيد والتأزم.

السيناريو الثاني:

إجراء انتخابات مبكرة

تبحث الطبقة الحاكمة ومؤسسات الدولة عن مخرج ثالث من أزمتها بعد فشلها في احتواء الموقف في محاولاتها الأولى التي تمثلت في 3/مارس بالتمسك بترشح الرئيس والثانية في 11/ مارس والتي أفضت إلى انسحاب الرئيس وتأجيل الانتخابات والدخول في المجهول، وهو ما اعتبرته شخصيات من المعارضة مناورة سياسية ومخالفة للدستور مفادها استمرار الرئيس بدون عهدة خامسة وبدون انتخابات، ودعت بنفس الوقت إلى مواصلة الاحتجاجات ورفض رسالة الرئيس الثانية جملة وتفصيلاً والإصرار على رحيل الرئيس الممثل بحكومته الحالية ذلك لأن تفسيرهم يتبلور حول محاولة النظام استغلال عامل الوقت وترتيب البيت الداخلي قبل الدخول في ندوة الوفاق الوطني غير المحددة بعد، ومع استمرار حدة المظاهرات وتأجيج حركة الشارع؛ قد تلجأ أطراف أخرى للدفع في انزلاق البلاد وجره لسيناريوهات مصرية سورية وهو الأمر الذي لا تحبذه القارة الأوروبية خشية من التداعيات السلبية المترتبة عليها في تحمل موجات الهجرة والنزوح وتصاعد المخاطر الأمنية، لذا فإن أحد الخيارات قد تكون تقديم المزيد من التنازلات من النظام مدفوعة بعامل ضغط خارجي للإعلان عن انتخابات استثنائية يتم فيها اجراء استفتاء لبعض المرشحين الذين يتم انتخابهم بشكل ديمقراطي من الشعب للخروج برئيس جديد يقود البلاد نحو الاستقرار ويجنبها المخاطر، لكن عوامل نجاح وفشل هذه الخيارات متوقفة على مدى استيعاب الحكومة والخارج لتطلعات الجيل الجديد والسماح لهم بالانخراط في العملية السياسية لذا يتوجب في هذا المقام على النخب الجزائرية الاستعداد وترتيب وضعهم الداخلي والانخراط في العملية السياسية ببرامج واضحة تكون مقنعة بحدودها الدنيا لكل الأطراف بشكل يضمن مصالح الجميع بما فيهم فرنسا.

السيناريو الثالث:

الانزلاق والفوضى

على الرغم من رغبة بعض الأحزاب لدى النظام والمعارضة بتجنب انزلاق البلاد في فوضى مفتوحة ومنع الصدام المباشر بين المتظاهرين ومؤسسة الجيش، إلا أن هذا الخيار يبقى مطروحاً وبقوة في حال فشل جميع المحاولات لاحتواء الموقف، وهذا يعود إلى مدى الاستجابة المبكرة من مؤسسات النظام لتطلعات الشعب، وبعد شهر من بدء الاحتجاجات لا يمكن القول باستجابة واعية من النظام، وبنفس الوقت إن أحد أهم أسباب انزلاق البلاد في الفوضى هي ذاتها العوامل الزمانية والمكانية التي تسمح لاستمرار المظاهرات ذلك لأن استمرارها ورفع سقف المطالب لإسقاط النظام يفضي إلى  عدم استجابة الطرف الآخر ومحاولته التفكير بإدخال مدخلات جديدة على المشهد رغبة منه عدم تنازله عند رغبات الشعب، وهو ما فسر محاولة النظام فتح قنوات التواصل مع الأطراف المؤثرة في الخارج حيث أعلن نائب الوزير الأول رمضان لعمامرة عن زيارته لموسكو للقاء وزير الخارجية سيرغي لافروف، تزامناً مع استعداد وفد جزائري لزيارة باريس للقاء المستشار الدبلوماسي الفرنسي أوريون لو شفالييه بهدف الحديث عن الأوضاع في الجزائر ومن المتوقع أن يتم استقبال الوفد في قصر الإليزيه وبحضور الرئيس إيمانويل ماكرون. الكشف عن هذه الزيارات قد لا يعني بالضرورة أن النظام يريد فتح المجال للخارج بالدخول على الخط المباشر في الداخل الجزائري، فهذه الزيارات ستكون حمالة أوجه في تبيان المصارحة مع الشعب لتفعيل خط الدبلوماسية بهدف مراعاة التوازنات الدولية ومصالح الدول وهذه الجدلية يدركها الطرفان الشعب والسلطة في الجزائر، لكن الخطر يكمن في ما إذا كان النظام بدأ بالتفكير جدياً بعد توسيع رقعة المظاهرات اللجوء طوعاً للخارج للحصول على تقوية خارجية بهدف إخماد المظاهرات بإسناد خارجي غبر مباشر، وعادة تحدث هذه الأمور بشكل غير معلن وعبر صفقات سرية، أما القول إن النظام سيرمي بورقة أخرى في الميدان وبدون التكتم عليها، يفسر ذلك عدم رغبته في التنازل والنزول عند خيار الانزلاق لكن بترتيب خارجي، وعند هذا المقام سيكون حسم إقرار هذا الخيار للموقف الخارجي فإذا كانت المصلحة الخارجية تقضي الحفاظ على النظام ضماناً له في حماية مصالحه ورفضه لأي بديل آخر سيكون حينها خيار الفوضى متفق عليه وسيتم خلق آليات جديدة لجر المظاهرات نحوه.

خاتمة

عطفاً على ما تم ذكره من المراحل التي مرت بها الجزائر وحضور الهاجس النفسي والقلق من فترات العشرية السوداء، يبدو أن المشهد اليوم يرافقه حذر وتريث وخوف مصاحب مع أبناء الجيل الجديد منعاً من تكرار المأساة الحاضرة، إلا أن تحولات الربيع العربي وتأثيرها على المحيط الإقليمي أعادت إحياء بذور التغيير داخل الجزائر، فما يجري حالياً ليس بجديد لكنه يعد امتداد لاحتجاجات الجزائر في 2011 والتي لم يكتب لها النجاح نظراً للانفجار المجتمعي المطالب اليوم بالولوج لمرحلة جديدة تكرس مبادئ الديمقراطية في البلاد، إلا أن الطموحات المنشودة دائماً تصطدم بمطبات سياسية فرغم دفع الجزائريين فاتورة باهظة الثمن في فترة الاستعمار القديم هناك من يعبث اليوم بأمنهم الداخلي ويحاول اللعب بكرة النار لمنع المتظاهرين من تحقيق التحول التاريخي.

طبيعة النظام الجزائري لا يختلف من حيث الشكل عن بقية الأنظمة العربية من حيث نزعته التسلطية ورغبته في الاستمرار وعدم التفاعل مع النهج الديمقراطي، الخلاف الوحيد عن بقية الأنظمة تميزه من حيث نشأته وتشكيلته والتوازنات التي تحكمه وهي الصعوبة الكبرى التي يعاني منها الشعب الجزائري ويطالب اليوم بتفكيك الصندوق الأسود وإزالة كامل قيوده، ومن خلال طبيعة الاستجابات من قبل للنظام للحراك السلمي لا يمكن النفي أن جزءًا من التغيير قد بدأ مع التصدعات التي ضربت أواصر المحفل الحاكم والمؤسسات من خلال الانشقاقات والاستقالات، وحتى لو كان قرار الرئيس بوتفليقة بالتنحي عن العهدة الخامسة كان خياراً مدفوعاً من قبل حكام الظل إلا أنه يعد أيضاً استجابة لحركة الشارع لكنها استجابة في حدودها الدنيا ولا ترقى لمستوى المطالب للخروج من المأزق الحالي وهذا ما يضيف ضبابية على المشهد الراهن وضع البلاد أمام كل الاحتمالات.

 

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات 

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات © 2019

 

[1] https://bit.ly/2u0wcsu

صحيفة الجزائر، رسالة بوتفليقة للجزائريين هذا ما أعدكم له ، ن- بناريخ 4 مارس/ آذار 2019 شوهد بـ 12 مارس 2019م

[2] https://bit.ly/2TBzSA2

أنيسة داودي، لا تُرجُمانية الجزائر في العشرينية السوداء، شوهد بتاريخ 13- مارس 2019م

[3] https://bit.ly/2HrFeqi

الجزائر، قايد صالح الجيس لن يسمح بعودة الجزائر إلى سنوات الجمر، ن0 بتاريخ 40 مارس/ أذار 2019، شوهد بـ 13-مارس 2019م

[4] https://bit.ly/2HwFh4r

النهار الجزائرية، النص الكامل لرسالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ن0 بتاريخ 11- مارس / أذار 2019، شوهد بتاريخ 13 مارس 2019م

[5] https://bit.ly/2CtvWXR

صحيفة الخبر، مقري يقترح تأجيل الرئاسيات، ن- بتاريخ 29- نوفمبر، 2018، شوهد بـ 13 مارس/ أذار 2019م

[6] https://bit.ly/2UCmsQO

الجزيرة، صيف الكوكايين بالجزائر، ن- بتاريخ 7/7/ 2018م، شوهد بـ 14- مارس/ أذار 2019م

[7] https://bit.ly/2TPaW7I

الجزائر اليوم، مؤشر مدركات الفساد الجزائر تحتل المرتبة 105 لعام 2018م، ن- بتاريخ

[8] https://bit.ly/2CxvkAt

العربي الجديد، غاز الجزائر الحائر، ن-بتاريخ 19- ديسمبر 2017، شوهد بـ 16- مارس 2019

[9] https://bit.ly/2Y0jSpN

العين الإخبارية، سوناطراك تكشف 5 حقول نفطية جديدة جنوب الجزائر، شوهد بـ 14مارس/ أذار 2019م

[10] https://bit.ly/2HoyQky

مركز المزماة للدراسات والبحوث، التقارب الإيراني الجزائري، شوهد بـ 14 مارس/ أذار 2019م

[11] https://bit.ly/2Hz4bjV

الجزائر، فرنسا ترحب بقرارات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ن- بتاريخ 11مارس/ أذرار 2019، شوهد بـ 14- مارس 2019م

[12] https://bit.ly/2TGLZeH

الجزاير، موسكو تعلن عن موقفها من احتجاجات الجزائر، شوهد بتاريخ 14 مارس/ أذار 2019م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى