المنهجية تُنتقد بالرأي، لكنها لا تُستبدل ولا تُواجَه إلا بمنهجية مقابلة، والنقد مهم للتجديد لكنه ليس تجديدًا ولا إبداعًا، بل هو أداة نقيس بها صلابة وقوة المنهجيات، فنُوثِّق ما هو صالح، ونترك ما هو ضعيف لا يصمد أمام النقاش. هنا يكون التفكيك الذي يمهد الطريق للأمام، من خلال إعادة توثيق المفاهيم، واختبار المُسَلَّمات التي تَشَكَّل كثير منها عبر التراكمات السلبية، ليكون كشفها وتحرير العقل من سطوتها أول الطريق للحل.
التفكيك إذن هو أخذ الإيجابيات والحذر من السلبيات، والالتقاء بالخبرة البشرية، نُحاكم أفكارها، ونَقيس مناهجها، فنَعرف مَكمَن الضعف ونَسدُّ الخلل؛ لنكمل البناء على أسس صالحة، فمَن لم يعرف سبب إخفاقاته فلن يُحسن التخطيط والتجديد للمرحلة القادمة.
بعض الحريصين على الدين، والمخلصين له، يهابون التفكيك ويعتبرونه انتقاصًا من ذوات السابقين وعقولهم وسُبابًا لهم، مع أن النقد في العالم الواعي إنما يُعدُّ تقويمًا! فسجنوا أنفسهم في عالم الأشخاص بدل الانتقال لعوالم الأفكار والنُظم، وحادوا بغير قصد عن منهج السلف الذي أَعمَلَ العقل، والنقد، والاجتهاد، والتجديد، والابداع؛ بحجة الحفاظ على تراث السلف، فتركوا منهجيتهم وتمسكوا بمنتجهم، وما هكذا تُبنى الأمم ويُواجَهُ الواقع.
البعض الآخر، الحريص أيضًا على الدين (مع عدم مزايدة طرف على آخر، أو تكفيره وتنفير الناس منه)، رأى ببساطةٍ أنَّ دعامات المنطق، والعقل، والعلم، هي الحصانة للإنسان، والدين نزل ليوجهه، فإن انحرف الدين بتقديس التاريخ، وتغليف المنتجات والأفهام التي كانت بنت زمانها وواقعها بهالة العظمة والقداسة، وتأثير البُنى الاجتماعية السالفة، واعتبار كل ذلك وحيًا، وجب على المخلصين أيضًا تفكيك كل ذلك الأثر، وكل تلك الطبقات التي خلفتها السنين على وجه الدين…، هذا الفصيلُ يرى أن الحل يَكمُن في مواجهة تلك المفاهيم الموروثة وليس في الهروب منها، وقد يكون الهروب قعودًا و تخلفًا عن نصرة الحق.
وبعض ثالث -أرى أنه لا بد من مواجهته-وهو الذي لا يعرف منهجيةً ولا نقدًا ولا عقلًا ولا منطقًا، تبرَّأَ من العلم وآمن بالهوى، وأهال التراب على التراث، فقتل ذاته من حيث لا يدري، وتساوى عنده الفاسد والصالح، وأنكر الوحي والتراكم المعرفي، ولم يعرف الثابت من المتغير ولا بينهما، فكان ممن يحسبون أنهم يحسنون صنعًا! للأسف فاته التفكيك والتجديد والإصلاح… فاته العلم والحكمة…! وفاته الخير الكثير.
الإصلاح الجذري يكون بالجمع بين التفكيك (النقد) والتجديد (منهجيات)؛ لأن التجارب تقول إن مواجهةَ عصرٍ جديدٍ بنفس التصورات والمفاهيم الماضية مُكلِفٌ وكارثي، وإن التجديد لا يكون إلا بإنتاجِ وإبداعِ منهجيات تستغل الوسائلَ والأدوات الحديثة لتفتتحَ عصرًا جديدًا.
بداية التجديدِ تفكيكٌ منطقيٌ علميٌ مطلوب لقياس ومحاكمة منهجيات سابقة، تُجنبُنا الجمود والتكرار، ثم بناءٌ منهجي يَفهمُ النصوصَ، ويَعقِلُ قِيَمَها ومقاصدَها، ويُدرك الواقع وأدواته، ويَنظر للمستقبل فيجيب على أسئلته وإشكالياته، ويخطط على بصيرةٍ لإعماره.
هذه هي المهمة الكبرى للعِقد القادم.. فمن أراد إحياء الإنسان.. وإحياء الدين والدنيا.. التفت اليها، “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا”.
شريف حمادة
للتحميل من هنا
“الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات”
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016