التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية
بعد ما يقرب من الأربع سنوات على اندلاع شرارة الثورة السورية، تحديداً في 30 أيلول 2015، جاءت العملية العسكرية الروسية في سورية على شكل مفاجئة لجميع الأطراف المعنيين بالشأن السوري، فبعد إعلان الكرملين عن منح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تفويضاً لنشر قوات عسكرية في سوريا انتقلت روسيا من مرحلة الدعم السياسي والعسكري غير المباشر، إلى المشاركة الحقيقية بطائرات حربية تحوم في السماء السورية تقاتل في صفوف جيش الأسد، التدخل الروسي حوّل الصراع في سورية من “حرب بالوكالة” كان يتم خلالها تدريب وتسليح جماعات من السوريين لمقاتلة بعضهم البعض على الأرض السورية، بالنيابة عن قوى كبرى إقليمية ودولية، إلى نزاع عالمي نوعاً ما تشترك فيه جميع القوى العسكرية العالمية عدا الصين، في عمليات عسكرية مباشرة، لم تأت هذه العمليات ضد هذه الدول بعضها البعض مباشرة، ولكن ضد الجماعات الموالية لكل طرف.
العملية الروسية هدفت لدعم نظام بشار الأسد الذي كان يتعرض لحصار مرهق جداً من قبل الجيش السوري الحر وفصائل المعارضة الأخرى بالإضافة إلى جماعات إسلامية كثيرة تعمل على الأرض السورية، من بينها جبهة النصرة الموالية للقاعدة وتنظيم داعش الإرهابي الذي يسيطر على مساحات كبيرة من البلاد، التحرك الروسي جاء بعد طلب من الحكومة السورية، إذ أعلنت روسيا أن هذا التحرك جاء أساساً لمحاربة تنظيم داعش والقضاء عليه في سوريا، إضافة إلى محاربة تنظيمات إرهابية أخرى لم يتم تحديدها، الولايات المتحدة في المقابل تقول أن ضربات الروس الجوية لا تستهدف مقاتلي داعش بل على العكس اغلبها موجه لضرب المعارضة المعتدلة التي دربها ويدعمها الغرب.
مدفيدف قال أن هذا التدخل لم يكن أساساً لحماية الأسد أو لإبقائه في الحكم، بل للحفاظ على المصالح الروسية هناك، هذه المصالح التي هي ذات طبيعة استراتيجية تأتي في إطار عسكري واقتصادي في الأساس، وتعد سورية سابع أكبر متورد للسلاح الروسي، كما تبلغ الاستثمارات الروسية في سورية حوالي عشرين مليار دولار، تربط سورية وروسيا علاقات تمتد إلى فترة الحرب الباردة ويستورد الجيش الروسي الجزء الأكبر من عتاده العسكري من روسيا، والنظام السوري من الأنظمة القليلة في العالم التي تتبع الروس وتواليهم، وترغب روسيا ربما في الحفاظ على آخر وجود عسكري لها في المياه الدافئة كما درج الاصطلاح، يتوج هذا الوجود بقاعدة عسكرية بحرية صغيرة روسية في مدينة طرطوس السورية، إذ أُنشئت هذه القاعدة بموجب اتفاقية عسكرية أُبرمت بين البلدين في عام 1971 لدعم الأسطول السوفيتي في البحر الأبيض المتوسط، البعد السياسي للمصالح الروسية في سورية يظهر في أن سورية تمثل فرصة للروس التواجد بشكل اكبر في الشرق الأوسط الغني بالمصادر الطبيعية، خصوصاً في ظل تضائل الدور الأمريكي في عهد إدارة أوباما، وتريد موسكو من تدخلها العسكري أن تضمن وجودها في أي حل سياسي قادم للازمة السورية وبشكل يحفظ مصالحها هناك.
التدخل الروسي جاء في ظل انتقادات شديدة توجه للتحالف الدولي الذي تشكل في منتصف أيلول من السنة الماضية تقول بعدم فعاليته الضربات التي قام بها التحالف الدولي لضرب داعش في العراق وسوريا، بعدما قام التنظيم بنشر حصته من الجرائم التي ارتكبت على التراب السوري والعراقي في سلسلة مصورة شاهدها العالم بدهشة.
بعيداً عن الدوافع الحقيقية للتدخل الروسي، اتهم البعض تلك الحركة الروسية بأنها عقدت الأزمة السورية المعقدة أصلا، وهوجم هذا التدخل الذي حصل على مباركة الكنيسة الارتوذوكسية بوصفه اعتداء آخر على الشعب السوري والمعارضة الحقيقية التي تقاتل جيش الأسد، بل تطور الأمر لحد دعى الكثير من الجماعات الإسلامية المختلفة للدعوة لتوحيد صفوفها لجهاد “الغازي الروسي” لاعتبارها حرباً ضد الإسلام، ربما لم تكن هذه التصورات حاضرة في ذهن الثائر السوري عندما تحرك في البداية طالبا للحرية، ولكن لا تعدو الأزمة السورية حالياً، عن أن تكون صراع داخلي مدوًل كالكثير من الصراعات التي حدثت في مناطق مختلفة من العالم، ربما دولت بحكم الموقع الجيوسياسي المهم لسوريا وبحكم تضارب مصالح اللاعبين الإقليميين والدوليين على التراب السوري، وربما لأسباب أخرى، وربما لا تبتعد هذه الأزمة في ما وصلت إليه عن ظاهرة تنامي اليمين والطائفية في المنطقة بشكل دراماتيكي وفي العالم أيضاً.
فرضت روسيا نفسها الآن واعتبرت المقاول والمتحدث الأول والأخير باسم النظام السوري لدرجة اخفت النظام نفسه والحليف الإيراني معه، وأصبحت إطلالات الأخيرين أقرب للخجولة في حضرة الأخ الأكبر الروسي. ربما كان بوتين وكما قال روبرت فيسك يبحث عن “النصر” لنفسه أولاً في سورية وليس عن دعم نظام الأسد فقط، ولكن الأخير يعتبر وسيلة لذلك لأنه أصبح من الواضح أمام الداخل الروسي وأمام العالم أن بوتين يدعم الأسد ولن يحتمل شخص مثل بوتين أن يهزم أمام معارضيه أولاً وأمام الأمريكيين والغرب ثانياً فيما دعاه البعض “المراهقة القيصرية لروسيا”.
سنحاول في السطور اللاحقة إلقاء الضوء على مواقف الدول الإقليمية والدولية ذات العلاقة بالتدخل الروسي في سورية، ومحاولة فهم مواقفها:
الموقف الروسي
روسيا منذ البداية قالت إن تدخلها يأتي ضمن الجهود الهادفة لدعم الجيش السوري الحكومي الذي اعتبرت أن دوره محوري في مكافحة الإرهاب، تحاجج روسيا بأن تدخلها العسكري في سوريا متوافق جداً مع القانون الدولي، ذلك لأن التدخل جاء استناداً على طلب الحكومة السورية الشرعية التي يقودها بشار الأسد، وفي الحقيقة أجاز القانون الدولي لدولة ما استخدام القوة في أراضي دولة أخرى إذا وافقت الأخيرة على ذلك، تذكرنا هذه الحجة بما تقوله الولايات المتحدة وبريطانيا أيضاً عن أن عملياتهما العسكرية في العراق ضد داعش جاءت بناء على رغبة وطلب من الحكومة العراقية، كما يقول الروس أيضاً انه لم يصدر عن مجلس الأمن أو عن هيئة دولية مخوَلة أي قرار يمنع الحكومة السورية من التصرف على أراضيها بحرية، وفعلياَ الحجة الروسية تلك صالحة للاستخدام، لكن وعلى الجانب الآخر للمشهد، يقول المناهضين للتدخل الروسي أنه وبعد أربع سنوات من اندلاع الثورة السورية وتبرأ نسبة ليست بالقليلة من الشعب السوري من بشار الأسد بعد تشريده في أصقاع الأرض وعدم القدرة على الدفاع عنه، وأنه في العديد من الحالات المشابهة للحالة السورية لا تستطيع الحكومة دعوة طرف أجنبي للقتال على أراضيها لأن مجلس الأمن في مثل تلك الحالات يفرض حظر على توريد الأسلحة لكافة الأطراف المتحاربة، ولكن لم تكن هذه هي الحالة في الأزمة السورية، نتيجة “الفيتو الروسي والصيني” لمثل هكذا قرارات.
الآراء السابقة جميعها صحيحة بالمناسبة، ربما من يلام هنا هو النظام التي تدار به الأمم المتحدة.
الكثير من المؤيدين للطرف الروسي أو الأمريكي يحاولون إجراء مقاربة بين المبررات التي تطرحا الولايات المتحدة وبريطانيا ومبررات روسيا للتدخل، ولكن ما هو الفرق؟
تقول الولايات المتحدة وبريطانيا انهم يمارسون حق الدفاع عن النفس نيابة عن العراق الذي لا يستطيع حماية حدوده، ولا يستطيع هزيمة داعش الذي سيطر على مناطق واسعة من أراضيه مدعوماً بعناصره المتواجدين على الجانب السوري، وإذا كان لدى العراق الحق القانوني في قتال داعش على الأرض السورية أيضاً فإنه يستطيع الطلب من حلفائه القيام بذلك، هذه الحجة هي التي تطرحها الولايات المتحدة وحلفائها لتبرير توجيه ضربات التحالف الدولي لداعش في سوريا، على ما يبدو أن كل طرف لديه تفسيرات إبداعية للقانون الدولي.
الموقف الأمريكي
الراصد للموقف الأمريكي من التدخل الروسي في سوريا، سيجد العديد من التحليلات التي لا يمكن نفي صحتها، فمنها ما يقول أن الولايات المتحدة ترحب بجميع من يرغب في محاربة الإرهاب في سوريا سواء كان روسيا أو إيران أو أي احد آخر، بما يتوافق مع ما تريد، وما يوفر عليها جهد كبير أيضا، ومنها ما يقول أن الرد الأمريكي الخجول على العملية العسكرية الروسية هو نتيجة مراهنة الأمريكيين على فشل الاستراتيجية الروسية في سوريا، وبالتالي توريط الروس وحلفائهم الإيرانيين وحزب الله واستنزافهم على درجات متفاوتة كما فعلت من قبل مع آخرين كثر، وهي بذلك تراهن أيضاً على المراهقة القيصرية التي تعيشها روسيا بوتين اليوم، وربما يأتي هذا في سياق مقولة نابليون” عندما يرتكب عدوك خطأً فلا تقاطعه”.
الموقف الأمريكي الأقل رفضا للتدخل الروسي اتضح بعد لقاء وزير الدفاع الأمريكي بنظيره الروسي قبل ما يقرب من العشرة أيام من التدخل الروسي، إذ طالب البنتاغون الروس بالتنسيق معهم لكي لا يحصل أخطاء عسكرية وصدام غير مقصود بين الطرفين، لكن احتمالية وجود تنسيق بين الطرفين لا تنفي اختلاف توجهاتهما وتضارب المصالح أيضا، وربما يعتقد البعض بحتمية وجود خلاف بين الروس والأمريكيين فيما يخص الملف السوري وقد يكون ذلك صحيح إلا انه لا يعني وجود صدام حقيقي وانعدام تام للتنسيق.
وزير الدفاع الأمريكي اشتون كارتر حذر الروس من ربط نفسهم بسفينة الأسد الغارقة، وتمنى أن يراجع بوتين سياساته ويتجه لضرب داعش بدلا من ضرب المعارضة المعتدلة، وقال أيضاً أن الروس عقدوا الحل السياسي في سورية وان ذلك لن يساعد في الحفاظ على المؤسسات السورية التي يقول الروس أنهم جاءوا لمنع انهيارها. بعد بدء الضربات الروسية أوقفت الولايات المتحدة برنامج تدريب المعارضة المعتدلة لعدم كفاءته واتجهت لإلقاء أسلحة وذخائر من الجو دعما لهم، وهنا تظهر تعقيدات أخرى وربما نية أمريكية في إطالة أمد الصراع السوري بحيث لا ترجح كفة أحد من الأطراف على الأرض.
الموقف الإيراني وموقف مليشيات حزب الله اللبناني
إيران والنظام السوري ومليشيا حزب الله اللبناني على قلب رجل واحد من حيث تأييد التدخل العسكري الروسي، وربما كانت إيران تأمل في أن تقوم هي بهذا الدور، ولكنها تدرك أن مثل تلك الحركة ستجابه بالرفض الدولي، وهنا تبقى روسيا هي الوحيدة القادرة على ذلك بحكم حجمها وموقعها العالمي.
ذهب البعض للقول بان إيران هي من أقنعت روسيا بضرورة التدخل في سورية، نتيجة الوضع المحرج الذي وصلت له قوات الأسد وداعميها على الأرض، ربما كانت النية الإيرانية تهدف إلى تحويل الصراع السوري إلي صراع إقليمي دولي لا تتصدر هي واجهته، وتقف فيه روسيا بقوة وبوجه الآخرين إلى جانب بشار الأسد الحليف الإيراني والروسي أيضاً والذي دعمته إيران منذ البداية وربما ستستمر حتى آخر طلقة، فبحسب العديد من المصادر، فان إيران وحزب الله وميليشيات أخرى معظمها تنتمي للطائفة الشيعية تقاتل على الأرض والطيران الروسي في الجو يداً بيد وكتفا بكتف.
على الجانب الآخر يشير بعض المحللين أن إيران وعلى الرغم من الفائدة التي تجلبها عليها الضربات الجوية الروسية، إلا أنها تخشى من تزايد الدور الروسي في المنطقة وفي سوريا تحديدا، مما قد يهمش المصالح الإيرانية في سوريا ويقدم عليها الأخرى الروسية، فيما يشابه الخلاف على مناطق للنفوذ ربما ستظهر نتائجه في الامد المتوسط والبعيد، وذهب البعض أيضاً للحديث عن خشية إيران من ألا يكون الحل النهائي في سوريا متوافقا مع ما ترسمه، خصوصا في ظل الحديث عن توافق آو تقاسم للأدوار بين الغرب وروسيا.
مليشيا حزب الله اللبناني التي تكبدت خسائر كبيرة في سوريا ليس فقط على المستوى البشري والمادي بل وعلى مستوى القبول الشعبي في الشارع العربي والإسلامي، رحبت بالتدخل الروسي على لسان أمينها العام حسن نصر الله، فقد اعتبر الأخير أن التدخل الروسي ليس طارئاً وان ترتيبات مع الدول المعنية تمت قبل بدء العملية الروسية، وقال أيضا انه يرحب بكل جهد يأتي لمحاربة الإرهاب، وان التدخل الروسي جاء بعد فشل التحالف الدولي في إضعاف قدرات تنظيم داعش. في الحقيقة إن المعركة التي يشارك فيها حزب الله في سورية هي معركة وجودية، والدعم الروسي يدعم هذا الوجود، لذا لن يتوقع عاقل أن يرفض الحزب هذه العملية أو حتى ينتقد التدريبات الروسية الإسرائيلية المشتركة حتى وان شاركت إسرائيل نفسها في العملية.
تركيا
تاريخ الأتراك والروس حافل بالصراعات والخلافات القديمة الجديدة، من قبرص إلى ناغورني كارباخ إلى التنافس على نقل بترول آسيا الوسطى وبحر قزوين وغير ذلك، إلا أن العلاقة مؤخرا تحسنت بفعل التعاون الاقتصادي، خصوصاً بعد مجيئ حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا وانتهاجه لسياسة تصفير المشاكل في بداية حكمه، إلا أن الملف السوري أعاد ما كان من قبل، فالأتراك ومنذ بداية الحملة الروسية أعلنوا أن روسيا ترتكب خطأ جسيم بالوقوف إلى جانب نظام الأسد، وان هذه الحملة لن تساهم إلا في إطالة أمد الصراع وتأخير انتقال السلطة في سورية، تركيا تنظر أيضاً إلى ما تقوم به تركيا على انه هروب عن جذور المشكلة التي هي النظام السوري أساساً، وتعتبر أن ما تقوم به روسيا ما هو إلا محاولة إنتاج نظام متهالك ووضعه كجزء من الحل مع أن الأتراك يعتبرونه المشكلة الأولى والأساسية، تركيا إلى جانب دول عديدة تدعم جماعات من المعارضة السورية تعرضت للقصف الروسي، وترى في العملية الروسية تهديداً لأمنها القومي لما لهذا التدخل من دور في إفساح المجال للجماعات الكردية للتقدم والسيطرة على مناطق جديدة في ضوء سعي الأخيرة لإنشاء إقليم كردي في شمال سورية، وهذا ما ترفضه تركيا، بالإضافة لكون الوجود الروسي يساعد على إفشال مشروع المنطقة العازلة التي طالبت وتطالب بها تركيا في الشمال السوري لحماية المدنيين واحتواء أزمة اللاجئين التي أرهقتها هي وجارتها أوروبا.
أروغان أعلن صراحةَ أن سياسة الأمر الواقع التي تفرضها روسيا لا يمكن القبول بها، وان الأسد لا يمكن أن يكون جزء من الحل، بل ووصل الحد إلى القول بأن روسيا قد تخسر صداقتها مع تركيا نتيجة خطوتها غير المحسوبة في سوريا، كما أعلنت تركيا أنها ستستمر إلى جانب السعودية وقطر بدعم فصائل المعارضة المعتدلة.
التدخل الروسي لم يعني لتركيا سوى زيادة الأعباء التي تفرض عليها، خصوصا على الحدود مع سوريا، ويساهم أيضاً في وضع العدالة والتنمية في مأزق أمام الناخب التركي الذي يرى الانتهاكات المتكررة للمجال التركي الجوي وينتظر رداً قوياَ من حكومته يحفظ ماء الوجه والذي يرى أيضا أعداد كبيرة من اللاجئين تؤثر على حياته اليومية بفعل طول أمد الأزمة السورية التي تشارك فيها بلاده واستمرت تركيا بالتهديد بان العلاقات الاقتصادية مع روسيا قد تتأثر نتيجة تلك الانتهاكات وان على روسيا مراجعة حساباتها.
موقف الحكومة التركية سيتأزم مع الناخب التركي فيما لو شكل الطيران الروسي غطاءً للأكراد في حربهم مع داعش، ما من شأنه دعم وجودهم وتقويتهم على الأرض ويقربهم أيضاً من حلم الدولة الكردية في الشمال السوري على الحدود مع تركيا، ربما سيضع كل ذلك الأتراك أمام خيارات عديدة للتعامل مع ما يجري على الأرض في سورية نتيجة التردد الأمريكي، ربما سيدفع ذلك تركيا إلى زيادة دعم المعارضة على الأرض أو القبول النسبي بالرؤية الروسية نتيجة سياسة الأمر الواقع في حال نجحت هذه السياسة، ربما تعتبر تركيا هي الدولة الأقوى في المنطقة التي يمكن أن تحدث أثر حال أرادت المواجهة غير المباشرة لإفشال السياسة الروسية الحالية في المنطقة أو التفاهم عليها.
السعودية وقطر
لا يختلف الموقف السعودي والقطري عن الموقف التركي، فكما ورد في الفاينانشال تايمز فان العملية العسكرية الروسية جاءت قاصمة للدبلوماسية السعودية تحديدا ودورها القيادي كداعم للثوار المعتدلين ضد الأسد، ففي الحقيقة إن الطائرات الروسية تستهدف المعارضة المسلحة التي دربتها ودعمتها السعودية بغرض إسقاط الأسد، وهذا ما يثير قلق السعودية من الوجود الروسي، منذ البداية دعت السعودية إلى فرض منطقة حظر جوي في سورية بهدف حماية المدنيين كم فعلت تركيا، إلا أن الضربات الروسية جاءت لتعرقل مسيرة المعارضة على الأرض بعد أن وهنت قوات الآسد، المثير للدهشة أن التدخل الروسي جاء بعد تهديد عادل الجبير وزير الخارجية السعودي للنظام السوري بحل عسكري ضده اذا لم يتنحى.
تعتقد السعودية أن هزيمة الآسد في سوريا هي هزيمة للمشروع الشيعي الذي تقوده ايران ويدعمها الشيعة العرب، ومن هنا يمكن فهم الإصرار السعودي على رحيل الآسد الذي يمثل واسطة عقد هذا المشروع، الضربات الروسية تدعم الوجود الإيراني في سوريا وهو ما سيشكل خطراً مستقبلياً عليها، أهداف الوجود الروسي منافيه تماما لما أرادته السعودية، فروسيا هناك لدعم بشار الآسد، والسعودية تريد رحيله، واذا ما قبلت السعودية ببشار في مرحلة انتقالية كما يريد الروس ستتشوه صورة السعودية وتظهر بمظهر الدولة الإقليمية الضعيفة خصوصا أمام إيران مستقبلاً في المنطقة، واذا أرادت العكس ستجد نفسها في مواجهة غير مباشرة مع روسيا، هذا المشهد هو ما أرادته بحسب محللين الولايات المتحدة للسعودية، فالسعوديين ممتعضين من تخلي الحليف والصديق الأمريكي عنهم تحديدا في سورية، خصوصا بعد الغضب السعودي من عدم قيام الأمريكيين بتوجيه ضربة عسكرية للأسد بعد استخدامه للسلاح الكيماوي ضد المدنيين في عام 2013، وبعد توقيع اتفاق إيران النووي، فلم تقم الولايات المتحدة بأي خطوة ضد الأسد منذ اندلاع الثورة السورية. بعد لقاء ولي العهد السعودي الأخير ببوتين قال لافروف أن الطرفان يتفهمان كيفية الحل السياسي في سوريا، وأن أول شيء يتفقان عليه هو عدم السماح لداعش بالاستيلاء على البلاد، إلا أن ولي العهد السعودي أكد على أن السعودية سترعى الحل فقط إذا تضمن رحيل الأسد، في نفس الوقت يتوقع أن تتزايد إمدادات الأسلحة من السعودية وقطر لقوات المعارضة التي تدعمها على الأرض وربما هذا هو السيناريو الأقرب للاستمرار في محاولة سعودية لإفشال تقدم حلف 4+1 على الأرض السورية، وهذا ما يعني مجددا إطالة أمد حرب الاستنزاف السورية.
مصر والأمارات والأردن
رغم أن الدول الثلاث السابقة هم الحلفاء التقليديون للسعودية إلا أنهم ابتعدوا عن الوقوف ضد التدخل الروسي في سورية، وفي الواقع فان مصر وحدها هي من صدر عنها رسميا على لسان وزير خارجيتها سامح شكري التأييد الكامل للعمليات الروسية، بهدف القضاء على إرهاب الجماعات المسلحة الإسلامية وتنظيم داعش تحديداً، إلا أن الموقف الرسمي الإماراتي والأردني يعتبر ضبابياً نوعاً ما، وتشير التقديرات إلى موافقة ضمنية للأردن والإمارات على الضربات الروسية، بكون تنظيم داعش يعتبر خطر حقيقي على مصالح الدول المذكورة، ويشير العديد من الباحثين إلى أن هذه الموافقة تمت خلال اللقاء الذي جمع الرئيس بوتين بالملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، فهذه الدول الثلاث تدرك تعقيد الوضع السوري بعد دخول روسيا على الخط، وان تلك الموافقة هي محاولة منها للمحافظة على التوازن النسبي في موقفها بين هذه القوى المتطاحنة على الأرض، الرؤية المصرية الواضحة تقول إن انهيار النظام في سورية سيعيد إلى الأذهان سيناريو العراق وتفتت مؤسساته، وهذا لن يخدم المنطقة وسيزيد من حدة الإرهاب فيها، على الجانب الآخر يعتبر آخرون أن استمرار الأسد في السلطة هو ما سيفتت الدولة السورية ويدمر مؤسساتها على المدى البعيد لان الأغلبية السورية لن تقبل به بعد هذه الكمية من الدماء التي سالت، ومحاولات الثأر التي سترتكبها الأطراف على الأرض، وان اعتبار الأسد ضامن لصمود مؤسسات الدولة ووحدتها هو ضرب من الخيال.
في المحصلة
سيجلب بوتين غضب العالم الإسلامي السني بأسره، إن لم يكن على مستوى الحكومات فعلى مستوى الشعوب، وسيجلب غضب وكل من يساند ابسط حقوق الإنسان الأساسية في العالم والتي تقول بحق الإنسان في العيش تحت ظل حكومات ترعى مصالحه ولا تكون هي مصدر التهديد الأول، ربما سيكون بوتين هو أول من يبحث عن حل سياسي في سوريا إذا طال أمد الصراع ولم تحدث ضرباته المكلفة اقتصاديا أثرا كبيراً على الأرض خصوصا في ظل اقتصاد روسي يئن تحت وطأة انخفاض أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية الغربية، وربما ستضعه عمليته العسكرية في موقف قوي أمام الغرب وسيخرج كما أراد بصورة المنتصر ويملي شروط الفاتحين.
بالمحصلة إنها مرحلة حرجة وخطيرة، وفي وسط هذه المعمعة التي لا يستطيع أحد التنبؤ بما ستؤول إليه، يكون الخاسر الأكبر هو الإنسان السوري ولا رابح إلا الموت.
للتحميل من هنا
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات ©2016