الاصداراتالدراسات الاستراتيجيةتقدير موقف

الانسحاب الأمريكي من سوريا

الدوافع والتوقعات

مقدمة

أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 21- كانون الأول/ ديسمبر 2018م انسحاب القوات الأمريكية من سورية والبالغ عددهم حسب التقديرات الأخيرة بـ2500 مقاتل منتشرين داخل نقاط الإسناد الأمريكية في منطقة شرق الفرات شمالي شرق سورية، وبقاعدة التنف التي أنشاها التحالف الدولي في 2014م، الواقعة غرب الحدود العراقية بمسافة 22كم، و 22كم عن الحدود السورية الأردنية.

جاء القرار وسط احتدام بين الأطراف الفاعلة والمتنازعة على ما تبقى من مناطق نزاع في الجغرافية السورية ( منطقة شرق الفرات- محافظة إدلب)، بسبب استمرار حالة الاستعصاء والتشظي التي حالت حتى الآن دون التوصل إلى توافقات إقليمية في صياغة منظومة التسويات والحلول الخاصة بمستقبل سورية، كما جاء في سياق انقسامات حادة داخل المؤسسات الأمريكية على وقع الخلافات الناجمة عن قضية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول الفائت.

وعلى صعيد إقليمي يأتي على ضوء ارتفاع حدة التنافس بين الدول الصاعدة المنافسة لرؤية الولايات المتحدة حول مستقبل الشرق الأوسط مع ازدياد التوغل الروسي في مياه المتوسط والخليج العربي والبحر الأحمر، والتمدد الإيراني من طهران إلى لبنان، وعودة بعض دول أوروبا إلى المشرق العربي.

ولأن الولايات المتحدة هي أكثر الدول فاعلية في كل قضايا المنطقة، من حيث ثقلها الإقليمي والسياسي فإن غياب أي استراتيجية لها سيفضي إلى استمرار حالة التشظي، لاسيما كدول مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان ومصر وليبيا والذي يغيب عنهم أي تحول ديمقراطي يلوح في الأفق.

وفي الحالة السورية فهي لم تشهد منذ انطلاق الصراع في 2011 أي وضوح في دائرة الاهتمام الأمريكي خصوصاً في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، ومع مجيئ ترامب لسدة الحكم في 2016م، دخلت سورية مرحلة جديدة حملت عنوان مزاجية متقلبة وسياسات متغيرة وأحيانًا متناقضة، فقبل أن ُيعلن ترامب انسحابه من سورية، أجمع مسؤولون أمريكيون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على استراتيجية ثابتة لرؤية واشنطن تجاه سورية ترتكز على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية داعش، وإخراج إيران من سورية، وإنتاج حل سياسي تحت عباءة الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن إعلان البنتاغون تنفيذ قرار ترامب في 24-  ديسمبر/ كانون الأول 2018 [1] طرح العديد من التساؤلات عن أسباب ودوافع هذا القرار وعن غاية ترامب والأهداف التي يرمي إليها، كذلك القرار يفرض إعادة النظر في جدلية متناقضة بين قرار الانسحاب ومصالح واشنطن في سوريا وأهدافها العسكرية والسياسية سيما أنها كانت تؤكد على مواجهة إيران ومنع تعاظم النفوذ الروسي، وإتمام العملية السياسية السورية، فيما التساؤل الأهم يتمحور حول النظر لمنطقة شرق الفرات السوري، حيال تنفيذ القرار عن دور الأطراف الأخرى التي  ستتسابق فيما بينها لملء الفراغ في المنطقة ( تركيا- إيران- روسيا – النظام- حلفاء واشنطن).

تناقش هذه الورقة أسباب وطبيعة الانسحاب الأمريكي وفق معادلة الاحتمالات للانسحابات التكتيكية والجزئية والكلية، ودور دول الحلفاء والخصوم في التعاطي مع قرار ترامب على ضوء سيناريوهات ملء الفراغ في التقدم والتراجع.

دوافع قرار ترامب

أثار قرار ترامب جدلاً واسعاً في أوساط حلفاء واشنطن الإقليميين والمحليين إذ أنه جاء بتناقض واضح مع خطة مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا جيمس جيفري التي أعلن عنها في سبتمر/ أيلول 2018م، الرامية إلى القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية داعش. وطرد إيران. فالمعارك في الجيب الأخير للتنظيم في ريف دير الزور الشرقي لا تزال مستمرة، إلى جانب تزايد تمدد نفوذ إيران، الأمر الذي أثار حفيظة بعض المسؤولين في دوائر صناع القرار للكونغرس والبنتاغون والذين وجهوا انتقادات لاذعة لترامب، فتتالت على إثرها الاستقالات لوزير الدفاع جيمس ماتيس والمتحدث باسم التحالف الدولي بريت ماكغورك.

كما إن قرار الانسحاب يمثل رفعًا للغطاء السياسي والعسكري على ذراع واشنطن العسكري في سورية الممثل بوحدات حماية الشعب الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي والتي تتبناها واشنطن بهدف قتال تنظيم الدولة داعش منذ 2014م وعلى الرغم من حدوث انقسامات داخل الولايات المتحدة، إلا أن ترامب لا يعتبر قراره محل صدمة أو مفاجأة بل أنه قد وضع هذا البند في برنامج حملته الانتخابية، فهو يعتبر أن القرار تم اتخاذه منذ سنتين تنفيذًا لوعوده، وهو ما يشي بنية توظيف هذا الأمر لتخفيف حدة الداخل الأمريكي وحرف الأنظار عن جملة التهم الموجهة ضده. ومن جملة الدوافع رغبته في نزع فتيل التوتر بين أنقرة وواشنطن، بحكم الحفاظ على طبيعة العلاقات والمصالح الاستراتيجية المتبادلة ومنع انزلاقها نحو موسكو، فتركيا قبل إعلان ترامب كانت عازمة على شن عمليات عسكرية شرق الفرات بهدف تطهير كامل الشريط الحدودي مع مناطق التماس التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية لمنعها إنشاء إقليم ذاتي يهدد أمنها القومي، وقد سارعت مؤخراً إلى إرسال تعزيزاتها العسكرية بعد إقدام واشنطن على إقامة نقاط مراقبة تفصل بين مناطق قسد وتركيا بذريعة منع شن عمليات عسكرية من سورية لداخل العمق التركي، بالإضافة إلى تجاهل كل الوعود التي قدمتها لتركيا في تنفيذ اتفاق منبج وسحب السلاح الثقيل من قوات قسد، ولعل إصرار واشنطن إنشاء جيش بقوام 30 إلى 40 ألف من قوات قسد بغية إنشاء حزام أمني على كامل الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا هو الذي دفع الرئيس أردوغان لإعلانه عن نفاد صبره تجاه واشنطن، ما يعني احتمال المواجهة المباشرة بين تركيا والقوات الأمريكية مع ذراعها قسد في شرق الفرات، لذا لا بد أن قرار ترامب يرتبط ارتباطاً مباشراً بعدم خسارة حليفها الناتوي، فجاء القرار لمنع الاحتكاك والصدام والاستعاضة عنها بمزيد من التنسيق والتعاون سيما أن القرار جاء بعد يوم واحد من مكالمة هاتفية جرت بين الرئيسين في 14 الشهر الحالي كشفت عنها صحيفة واشنطن بوست[2] ووفقاً للمكالمة “فقد سأل أردوغان نظيره ترامب ماذا تفعل قواتكم في سورية إلى جانب دعكم قوات سوريا الديمقراطية فأجابه الأخير سورية لك أنا سأغادرها”[3]. كذلك ومن بين الدوافع الأمريكية يعتقد ترامب أن سبب تواجد القوات كان مرتبطًا بحملة القضاء على تنظيم الدولة ومع انحسار تواجده بمساحة 1 كيلو يرى أن الحملة حققت أهدافها وانتصرت فمن غير اللائق صرف أموال مقابل لاشيء، فيما يُعتقد من هذه الذريعة أن الولايات المتحدة قد وصلت في محاربة التنظيم إلى طريق مسدود وأرادت سحب الذريعة بإعلان الانتصار مع توافر أطراف تتكفل مطاردة فلولها في المنطقة كتركيا.

ولعل أهم ما في دوافع ترامب رغبة الولايات المتحدة الانتقال إلى المرحلة الثانية في التصدي لإيران من خارج المحيط السوري، وما يعزز هذا الطرح تواتر التصريحات للخارجية الأمريكية بعد يوم من إعلان ترامب والتأكيد على عزمها مواصلة تحقيق أهدافها في سورية في مواجهة إيران واستمرار التحالف الدولي بعملياته ضد الإرهاب.

تفاعلات دولية للانسحاب

توالت ردود الأفعال الدولية بعد قرار ترامب حيث نشرت صحيفة التايمز البريطانية[4] تقريراً أشارت فيه إلى أن منافسي الولايات المتحدة يستعدون لملء الفراغ الأمريكي في سوريا، فتركيا أعلنت عن تأجيل العملية العسكرية في شرق الفرات بحسب ما صرح به وزير الخارجية جاويش أوغلو مضيفاً أن تركيا أجلت العملية لتجنب حدوث اضطرابات أثناء انسحاب القوات الأمريكية مشدداً على ضرورة التنسيق والتفاهم مع واشنطن في ضرورة استكمال العمليات العسكرية ضد قوات وحدات حماية الشعب وتنظيم الدولة داعش[5] اللافت أن تصريح أوغلو جاء بعد الكشف عن مكالمة هاتفية ثانية بين أردوغان ترامب، أوضح من خلالها ترامب لنظيره التركي مسألة التأني في الانسحاب الأمريكي بخلاف ما قاله سابقاً عن ضرورة الخروج السريع خلال مدة أقصاها 90 يوم[6]. ما يرشح عن احتمالية إتمام صفقة جديدة بين الجانبين. أما إسرائيل فاتضح أنهها أحد الأطراف التي كانت تعلم بالقرار قبل صدوره ما يدل على أن ترامب قام بالتنسيق معها بما يخص مصالحها في سورية، يتضح ذلك من كلام رئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والذي اعتبر أن قرار واشنطن لن يغير من سياسة تل أبيب في التصدي للوجود الإيراني في سورية، مضيفاً أن إسرائيل ستستمر بعمليات التنسيق مع واشنطن[7]، كما تأخرت إيران في إصدار موقفها إلى أن ظهر المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي وقال إن تواجد أمريكا في سورية كان خطأ من الأساس، معتبراً أن حضورها هناك غير منطقي، لكن بعيداً عن موقفها الرافض للوجود الأمريكي فإن تأخرها في إعلان موقفها حمل مراجعة إيرانية لسياستها في المنطقة، فإيران تراقب عن كثب تزايد حضور النفوذ الأمريكي في مياه الخليج الذي كان آخره وصول حاملة الطائرات الأمريكية “جون ستينس” للمياه الخليجية[8] بعد محاولة إيران تهديدها بإغلاق مضيق هرمز، ما يعطي انطباعًا لإيران أن أمريكا قد تهدف من عملية الانسحاب محاولة تضليلها بهدف تعزيز وجودها في العراق ومياه الخليج العربي تمهيداً لتوجيه ضربة لها. وعلى غرار إيران موسكو تريثت قبل إعلانها عن ترحيبها بالقرار الأمريكي معتبرة أنه سيساهم في فتح أفق التسوية السياسية لكنها بنفس الوقت نظرت بعين الشك للقرار خوفاً من وجود نوايا أمريكية لانزلاقها أكثر في الأرض السورية، لذا من المرجح أن تستمر في تنسيقها مع تركيا وإيران إذا ما أرادت وضع قدم لها في شرق الفرات والتحكم بتوزيع الأدوار مع حلفائها الإقليميين، وبالنسبة لحلفاء واشنطن فرنسا وبريطانيا ورغم اعتراضهما على قرار ترامب بسبب عدم القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية داعش.

ولعل التشظي الذي وقعت به قوات سوريا الديمقراطية هو الأبرز فقد وصفت القرار بالخيانة، وعلى الفور بدأت بفتح قنوات ومد جسور باتجاه موسكو وفرنسا ونظام الأسد لكسب حليف بديل يحميها من الهجوم التركي مستقبلاً.

 سيناريوهات محتملة لقرار ترامب

اتفاق أمريكي تركي

يستند هذا الخيار على مؤشرات عقد صفقة بين أردوغان وترامب نظراً لفحوى المكالمات الثنائية التي جرت بين الطرفين، والتي أفضت إلى تغير ملحوظ في اقتناع الولايات المتحدة عدم التفريط بالحليف التركي، وإعطائه الضوء الأخضر لتأمين شريط حدوها الجنوبية مع سورية، إلا أنه من غير المعروف بعد محُددات التوسع التركي مع إضافة عامل جديد تمثل بتعهد تركيا محاربة بقايا التنظيم في عمق قد يصل إلى 160 كم يصل إلى منطقة شرق ريف دير الزور، سيما أن تلك المنطقة شهدت وصول تعزيزات إيرانية وروسية في منطقة البوكمال الحدودية مع العراق، حيث ستسعى إيران وروسيا والنظام السوري ملئ الفراغ في تلك المنطقة وبسط السيطرة على عمق سرير الفرات الشرقي، لذا من المستبعد أن تتوغل تركيا لعمق 180 بدعوى إنهاء جيوب التنظيم ومن المحتمل أن تنسق أنقرة مع موسكو لقتال التنظيم بالتغطية الجوية، أو عبر تفعيل ورقة العشائر العربية وتوجيه فصائل المعارضة بالجبهة الوطنية للتحرير لتولي هذه المهمة، إلا أن الأولوية الأولى لتركيا ستكون بالقضاء النهائي على حلم وحدات حماية الشعب في إقامة كيان ذاتي، وعليه فإن ملامح الصفقة مع أمريكا خلاصتها تكفّل تركيا بحمل لواء محاربة الإرهاب وحمل التكليف عوضاً عن واشنطن مقابل فتح الطريق أمام تركيا لتأمين الحدود وهذا يتطلب من ترامب تفكيك نقاط المراقبة وإزالة نقاط الإسناد أمام المناطق الفاصلة من منطقة جرابلس إلى رأس العين، حتى تستطيع  تركيا تأمين شريط حدودي  بعمق 20 إلى 30 كم ، تشمل مناطق منبج وتل أبيض وعين العرب كوباني وصولاً لرأس العين. وما يعزز انعقاد الصفقة المعيطات الآتية:

قُبيل إعلان ترامب الانسحاب من سورية كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقول إنه التمس من ترامب مؤشرات إيجابية على الموافقة الأمريكية لشن تركيا معارك شرق الفرات في المناطق المتاخمة مع سورية على شريط حدودي بطول 500كم، وقد كشفت التسريبات أن قرار ترامب هو ترجمة للاتصال الذي جرى الأسبوع الماضي مع نظيره التركي والذي طالب من ترامب إنشاء مراكز للتنسيق معه لتجنب أي محاولة اعتداء على القوات الأمريكية، لكن الرئيس ترامب طالب أردوغان آنذاك بالانتظار لأنه بصدد الإعلان عن قرارات مهمة كان من بينها القبول الأمريكي بإعطاء تركيا بطاريات “باتريوت” والمتابعة في صفقة تسليم الطائرات أف 35، ورفع الغطاء السياسي والعسكري عن قوات سورية الديمقراطية، وبعد يوم من قرار ترامب خرج الرئيس التركي بكلمة متلفزة عبر وسائل الإعلام التركي وصرح بشكل علني أن قرار ترامب جاء نتيجة مساعيه في إقناع ترامب بعمل عسكري شرق الفرات لكن تركيا أيضاً لم تكن تتوقع استدارة أمريكية كاملة، بمعنى أن تركيا ستحصل على أكثر مما كانت تُطالب به مع تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية وعودة العلاقات إلى مجراها الطبيعي بعد حلحلة بعص الملفات العالقة كقضية إطلاق سراح القس برونسون، واستمرار عقد الصفقات والتعاون في المجالات الأمنية والعسكرية لحلف الناتو، ولا يعدو أن يكون موضوع عرض منظومة الباتريوت لتكون بديل عن منظومة أس 400 والتي تنوي تركيا الحصول عليها من موسكو.

انسحاب بالتفاهم مع روسيا وتركيا بهدف إخراج إيران

يحتمل هذا السيناريو دخول قرار ترامب في سياق ترتيب إقليمي لكامل الجغرافية السورية عبر تنسيق مع تركيا في ترتيب الشمال السوري وضمان حماية أمنها القومي، ومع موسكو من خلال تحجيم نفوذ إيران واحتواء تواجدها الإقليمي مقابل أن تتنازل لها في موضوع التسوية السياسية لسورية فيما يتعلق ببقاء الأسد على اعتبار أن أمريكا لا تضع شرط رحيل الأسد أو سقوط نظامه ضمن ألوياتها، وصرح مسؤولون أمريكيون أكثر من مرة أن سياسية الولايات المتحدة لا يهمها سقوط الأسد مقارنة مع بقية أهدافها في المنطقة، وما يعزز هذا الفرض المحاولات الروسية في دفع الدول العربية لإعادة التطبيع مع النظام وفتح السفارات والزيارات الدبلوماسية وليس آخرها زيارة الرئيس السوادني عمر البشير للعاصمة دمشق الأسبوع الماضي والتي حملت العديد من الرسائل العربية للأسد بإشراف وتنسيق روسي.

ويتطلب هذا الخيار مواصلة موسكو ممارسة ضغوطها على إيران بهدف التضييق عليها وإضعافها في سورية عبر السماح لإسرائيل في ممارسة استهدافها في سورية في نطاق العاصمة دمشق وفي الحدود السورية العراقية وفي لبنان، لكن هذا الاحتمال مستبعد في حال كان  الانسحاب الأمريكي لا يعدو كونه تراجعاً إلى الوراء بهدف إعادة الانتشار وتعزيز الوجود الأمريكي داخل العمق العراقي.

انسحاب تكتيكي بهدف كسر مسار حلف أستانة

قد يكون قرار ترامب ناجم عن رغبة أمريكية في تجنب تكاليف الخسارة لمواجهة باتت حتمية مع الخصوم والحلفاء، لذا فإن ترك الساحة فارغة أمام الحلفاء والخصوم سينتج عنه إضعاف الجميع والعودة فيما بعد للرضوخ التام لصالحها، فخيار أن يكون قرار ترامب أحادي ومن دون تنسيق مع الحلفاء واستبعاد احتمالية التنسيق مع موسكو من شأنه أن يحول منطقة شرق الفرات إلى رقعة من الجحيم، ذلك لأن الأطراف الدولية ستتسابق فيما بينها لملء الفراغ بدءًا من روسيا وتركيا والنظام السوري  وإيران، فممكن بأي لحظة أن تنقلب موسكو على تركيا إذا رأت من مصلحتها ذلك فالحقول النفطية والثروات والوضع الاستراتيجي للمنطقة سيجبر كل الأطراف على إعادة النظر في طبيعة تحالفاتهم ومع وجود التوترات الدائمة بين اللاعبين وقد يقود ذلك إلى صدام مباشر لاسيما إذا كان الهدف من هذا السيناريو تطويق تركيا في حدودها الجنوبية، حينها تركيا لن تقف عاجزة وستضطر للتوغل أكثر لمنع كل التهديدات وسيقودها ذلك إلى التورط أكثر في المستنقع السوري، إزاء ذلك ستكون كل وعود ترامب لأردوغان إغراءات بهدف التوريط لا أكثر. وما يمثل أكبر خطر في هذا السيناريو ردود فعل قسد فهي تكثف اتصالاتها مع موسكو والنظام وقد تضغط الأخيرة عليها لتسليم مناطقها ما يحقق لموسكو المزيد من المكاسب التي ستعود عليها في النفع في منظومة التسوية السورية تجاه واشنطن، لكن يبقى هذا الاحتمال مستبعدًا مع ضرورة حاجة واشنطن لكل من تركيا وموسكو في تسوية النزاع السوري، فموسكو لم تعد بنظر أمريكا العدو اللدود كما كانت سابقاً في حقبة الحروب الباردة إضافة إلى تصريحات أمريكية أكثر من مرة عن ضرورة استمرار التعاون والتنسيق مع موسكو مع التعهد بالحفاظ على مصالحها في سورية بالأخص التواجد في قاعدتي حميميم وطرطوس، أما تركيا فقد فرضت نفسها عبر نموذج عفرين ودرع الفرات كلاعب قوي يصعب تجاوزه في معادلة النزاع السوري.

سيناريو إعادة الانتشار والتموضع

من المتوقع أن قرار ترامب الانسحاب من سوريا هو استراتيجية جديدة تهدف إلى إعادة الانتشار والتموضع، والانسحاب هو بمثابة التراجع بهدف تكثيف الانتشار في مناطق غرب العراق، وما يعزز هذا الطرح الكشف عن ترتيبات مشتركة بين أمريكا وحكومة بغداد لتأمين الحدود مع سوريا وعزل إيران، وتشمل الترتيبات تبادل الأدوار بين الجيش العراقي والأمريكي في عدد من مناطق الشرق السوري المتصلة بالحدود العراقية، ما يسمح للقوات الأمريكية التمركز في غرب مدينة الأنبار العراقية، مقابل توغل القوات العراقية لنحو 70 كم داخل العمق السوري حيال أي تهديد قد يظهر من قبل تنظيم الدولة داعش وبناء على هذا الخيار فإن الانسحاب الأمريكي لن يكون بهدف ترك المنطقة للخصوم بل بدافع تغير مواقع الانتشار وتعزيز التفاهم مع الحلفاء كتركيا في الشمال والقوات العراقية في منطقة الحدود السورية العراقية.

ويعد هذا السيناريو هو الأقرب لمنطق قرار ترامب إذا ما أخدنا بالحسبان معطيات التنافس الأمريكي الروسي في سورية وضرورة محاربة إيران ومنعها من وصل طريقها البري عبر سورية، وحاجة الولايات لتحقيق الاستقرار بالاعتماد على قوات إقليمية أو محلية ومواصلة حصارها للنفوذ الروسي في شرق المتوسط وضمان عدم عودة تنظيم الدولة داعش، والسيطرة على الحقول النفطية وبقية الثروات، فمن غير المتوقع أن تقوم واشنطن بإعادة تكررا خطأ الانسحاب من العراق في 2011 والذي كلفها الكثير حتى هذه اللحظة بعد تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة.

خلاصة

خلال ما تم ذكره في الورقة ونظراً لأهمية التوقيت والسياق العام الذي جاء فيه قرار ترامب، فمن المؤكد أن النزاع السوري، دخل منعطفاً جديداً على ضوء تبدل المعطيات في موازين القوي وتبدل التحالفات، ومع ثبات الدوافع الروسية والإيرانية لتواجدهما في سورية والسعي نحو المزيد من الاستفراد وتعزيز الوجود في سورية، سيقود قرار ترامب إلى كسر حالة الاستعصاء والتشظي والانتقال إلى مراحل أخرى من الصراع قد تتعدى النطاق السوري إلى أماكن أخرى، وعلى الرغم من ردود الأفعال والانقسامات الحادة على وقع قرار ترامب، فهو يحمل نقلة جديدة ونمط جديد للحرب الدائرة في الشرق الأوسط، وانطلاقاً من تعاطي الولايات المتحدة مع الصراع السوري، فلا يبدو أن القرار سينم عن تغير جذري في سياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة، سوى نوع من التكتيك الهادف إلى إعادة التموضع والانتشار كما تم ترجيحه في السيناريو الأخير أعلاه، وعلى ضوء تعزيز الولايات المتحدة وجودها في مياه الخليج العربي ووصول أكبر حاملة طائرات أمريكية والعودة المكثفة للعراق، إلى جانب تعزيز التعاون والتنسيق مع الحلفاء كتركيا وإسرائيل وموسكو ربما يكون الهدف من جراء كل ذلك فتح أكثر من جبهة على إيران إلى جانب استمرار الحرب الاقتصادية تلبيةً لإجماع عالمي وأوروبي و وعربي على ضرورة تحجيم إيران كضرورة أولى لتحقيق الاستقرار في المنطقة قبل الكشف عن الخرائط الجديدة للشرق الأوسط الجديد.

 

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية © 2018

 

[1] https://bit.ly/2Rj2kVm

صحيفة العرب، البنتاغون يعلن توقيع أمر انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، ن- بتاريخ 24-12- 2018، شوهد بـ 24- 12- 2018م

[2] https://bit.ly/2Q0EHfI

زمان الوصل، نقلاً عن واشنطن بوست تفاصيل مكاملة ترامب أردوغان، ن- بتاريخ 23- 12- 2018م، شوهد بـ 24- 12- 2018م

[3] https://bit.ly/2rVhmT0

عنب بلدي، ترامب لأردوغان حول سوريا كلها لك، ن- بتاريخ- 24- 12- 2018، شوهد بـ 24- 12- 2018م

[4] https://bit.ly/2Q0gLZV

مركز الجسر للدراسات، نقلاً عن التايميزالبريطانية، منافسو أمريكا يستعدون لملئ الفرغ في سورية، ن- بتاريخ 24- 12- 2018م، شوهد بتاريخ 25- 12- 2018م

[5] https://bit.ly/2EL5wm7

وكالة الأناضول، تركيا تأجيل عملية شرق الفرات ليس تخلياً عن مواجهة ب ي دي، ن- بتاريخ 21-12-2108، شوهد بـ 24-12- 2018م

[6] https://bit.ly/2EK9taK

أورينت نت، ترامب يكشف عن اتصال جديد مع أردوغان للانسحاب من سوريا، ن- بتاريخ 23-12- 2018، شوهد بـ 24- 12- 2-18م

[7] https://bit.ly/2GH7Pt1

قناة الجسر، نينتاهو سنواصل العمل ضد إيران في سوريا، ن- بناريخ 24- 12- 2018، شوهد ب 24- 12 – 2018م.

[8] https://bit.ly/2A97nhB

العربي الجديد، إيران تناور وتراقب السلوك الأمريكي في سورية ومياه الخليج، ن- بتاريخ- 23-12-2018، شوهد بـ 24-12- 2018م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى