الأزمة الوطنية الجزائرية بين الكتابات التاريخية وتأثيرات الذاكرة الجماعية (1992 ـــ 2000): قراءة نقدية
استكمالاً لمُخرجات مِنحة تدريب الباحثين، المنفّذة في سبتمبر/ أيلول 2018م، يَنشر برق الإستشاري مَشاريع التَخرّج المُقّدمة من المتدرّبين الأوائل
الفهرس
أولًا. الأزمة الوطنية الجزائرية؛ الأسباب والأحداث.. 5
ثانيًا ـــ مقاربة الكتابات الوطنية الجزائرية ما بعد الأزمة 10
- مُغنية الأزرق وعبد الحميد براهيمي. 10
- مراجعة تحليلية حول كتابات مغنية وبراهيمي في الأزمة الجزائرية 12
- مُقاربات نقدية لكتابات مُغنية وبراهيمي في الأزمة 16
ملخص الورقة
طَرحت علاقة التاريخ بالذاكرة موضوعات كثيرة في فضاءات الأكاديمية ومراكز الدراسات العربية. وشَغلت تلك العلاقة اهتمام عدد من المفكرين العرب، ولا سيما أولئك الذين بحثوا في جوانب الفكر السياسي والتاريخ الراهن. لكن لم يكن بإمكان أيّ باحثٍ منهم اختراق ذلك الحقل المعرفيّ المعقّد، والبحث في جوانبه بيسر؛ نظرًا لما اعترضته من عوائق محليةٍ ونزاعات سياسية وجدالات فكرية مع السلطة تارةً، ومع المجتمع تارةً أخرى. وفي المقابل، خلقت تلك العلاقة خلطًا بين ما هو حدث تاريخي واقعي، وما هو ذاكرة ومُتخيل، مما سبب اضطرابًا وهشاشةً في المنهج العلمي البحثي. وأصبح التعمق في دراسة تلك العلاقة، قائمًا على نوع من التوجس والرِيبة من التصريحات والشهادات. وأصبح هناك سعي للكشف عن ملابساتها، والاستنتاج بأن التاريخَ لا يُكتبُ بلغةٍ واحدة، ولا برؤية واحدة.
فبعد انتهاء أزمة الجزائر الوطنية في العقد الأخير من القرن العشرين، برزت مجموعة من الكتابات الوطنية التي حملت في ظاهرها سمات الكتابة التاريخية. ولكنها في باطنها، اتسمت بالانتقائية، حيث انتقت من الماضي القضايا والأحداث التي تناسب توجهها ومشروعها الفكري. كما اتسمت بأنها كتابات تحريفية، حيث حَرَّفت الأحداث لتبرير الواقع الراهن، وذلك من أجل تبرئة طرف دون آخر. فلم يجرؤ أولئك الكتاب الوطنيون على إجراء تحقيقات ودراسات معمقة تخص المراحل السابقة للأزمة، ولم يبحثوا في جذورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، والتي شكلت عوامل تراكمية أدت لحدوثها. وإنما سعَوا لإعادة تشكيل ذاكرة الماضي كما يرونها، وبدلًا من أن يكتبوا تاريخ بلادهم بموضوعية وصدق، حاولوا تجاوز آثار الماضي التدميرية على حاضر بلادهم ومستقبلها، وساهموا بتعميق الأزمة، عبر التلاعب بتاريخ الأزمة، وتحريف الذاكرة الشعبية في الجزائر.
مقدمة
يُعرّف المفكر اللبناني وجيه كوثراني الذاكرة، بأنها: “اختزان أحداثٍ وتجارب وعلاقاتٍ يَمر بها الإنسان في مراحل حياته، ويستحضرها صورًا في محطاتٍ معينة، بناءً على مُحفزٍ ما، قد يكون حدثًا أو سؤالا أو صدمة”(كوثراني،2006، ص20). فالذاكرة في غالب الأحيان، تحمل جانبًا من المقاصد التبريرية، وتخلق خلطًا بين صور الماضي والحاضر. وهو ما أوجب كشف تلك العلاقة المتداخلة بين ما هو تاريخ، وما هو ذاكرة سواء كانت ذاكرة جماعية أم فردية. وهنا نرى المفكر الفرنسي بيير نورا، يُفرق بين الذاكرة الجماعية والذاكرة التاريخية، بقوله: “الذاكرة الجماعية هي ما تبقى من الماضي في معاش الجماعات، أو ما يتمثل بشأنه. إنها جماعات عريضة على مستوى النطاقات الثقافية والأيديولوجيات السياسية والدينية. وعلى ذلك، تمتاز الذاكرة بالضبابية والتداخل. وتُبنى على اعتقاد قائم على الصِدام، وتُراهن على حاجيات اللحظة، وإعادة بناء قواعد المخيل. في حين تمتاز الذاكرة التاريخية بالوحدة والتماسك. وهي ثمرة تجربة معرفية، للكشف عن الحقيقة ما أمكن”(نورا، 2015، ص 86).
وبناءً على ما سبق، سنتناول في هذه الورقة البحثية طبيعة العلاقة بين التاريخ والذاكرة في حالة الأزمة الجزائرية. ونبين كيف ساهمت الذاكرة في صياغة صفحاتٍ واسعة من الكتابات التاريخية. من خلال مقاربة نقدية لبعض كتابات الأزمة الجزائرية، أيّ الأزمة، التي اندلعت في الجزائر (بين الجيش الوطني وأنصاره والجبهة الإسلامية الجزائرية للإنقاذ وأنصارها) في أواخر القرن العشرين(1992 – 2000م)[1]، وما سمي بالأدبيات السياسية والاجتماعية بالعشرية السوداء” الحمراء”. وهنا سأكتفي بدراسة نمطين متعارضين من تلك الكتابات. يُمثل النمط الأول دراسةً للباحثة الجزائرية مُغنية الأزرق، ونمطٍ ثانٍ، يمثل مبحثًا من كتاب الدكتور الجزائري عبد الحميد براهيمي حول الأزمة الجزائرية. وهو ما يطرح بعض الأسئلة، وأهمها: كيف تناول كلا الباحِثَيّن الأزمة في كتاباته؟ وكيف يُمكن أن نقرأ ونحلل ما نسجه الطرفان من كتابات تاريخية في المرحلة اللاحقة للأزمة؟
أولًا. الأزمة الوطنية الجزائرية؛ الأسباب والأحداث
لم تكن الأزمة الوطنية الجزائرية (1992 ــ 2000) حدثًا مفاجئًا للجزائريين. ولم تكن تلك الأزمة، نتاج عاملٍ واحدٍ. بل هي جملة عوامل داخلية وخارجية مُتراكمة؛ سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. حيث اتفقت آراء كثير من الباحثين في أن الأزمة تعود في جذورها، إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي، وبأنها حصيلة أزمات مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني. لذا، لا بد من فهم جذور الأزمة ومطالعة أحداثها، حتى نتمكن من قراءة وتحليل الكتابات الجزائرية التي سوف نتناولها في هذه الورقة.
1. الخلفيات والأسباب التاريخية للأزمة الوطنية الجزائرية
ـ الخلفية السياسية
تولت جبهة التحرير الوطني الجزائرية حكم البلاد بعد الاستقلال حتى مطلع عقد التسعينيات. وتفردت الجبهة خلال حكمها الطويل، بأيديولوجيا مركبة، ومكونةٍ من عناصر متناقضة إسلامية وماركسية وقومية – ناصرية. وهو ما ترك أثره في تكوين مجتمعٍ متنوع، تتعايش فيه أشكال مُتناقضة. في المقابل، حملت إجراءات الحكومة “الإصلاحية” بعد الاستقلال، طابعًا تمدينيًا “بالقوة” للأرياف، وتريفيًا “فعليًا” للمراكز المدينية. كما سيطرت المصالح الفئوية التي شكلت بنية النظام السياسي الاجتماعية، وعززته السلطة بخطاب شعبوي يُنافي التمايز، ويؤكد وحدة المصالح داخل النسيج الاجتماعي في البلاد (عنصر، 1996، ص 231 – 234).
ـ الخلفية الاقتصادية
قادت الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال (عقد السبعينيات) ثورةً زراعية، كان هدفها الحد من الملكية الخاصة للأراضي. إلا أن الحركة الإسلامية، عارضت تلك الثورة؛ لأنها رأت فيها عمليةً مُخططًا لها من قبل أنصار التيار اليساري “الاشتراكي” في البلاد. فاستخدم فقهاء الحركة لأجل مقاومتها، سلاحًا نافذًا للحد من نجاحها، وهو سلاح الفتاوى الدينية. في وقت شجع الرئيس هواري بومدين وأنصار التيار الاشتراكي في الجزائر الفلاحين لدعم تلك الثورة، من خلال وسائل الإعلام وخطباء المساجد في مناطق الجزائر كافة (رواجعية، 1993، ص28، وسعود، 2012، ص 394 – 395).
حظيت الحركة الإسلامية، بتأييد شرائح اجتماعية واسعة، بسبب معارضتها عملية الإصلاح الزراعي (ويليس، 1999، ص 72 – 74)؛ فأنصارها خاطبوا مَلاكي الأراضي في المدن، والفلاحين في الأرياف، بلغة واحدة (إن القرآن يُحرم نزع أملاك الغير) (سعود، المرجع السابق، 395). ففي الوقت الذي تركز فيه الاهتمام الحكومي على المناطق الريفية، تحت زخم العملية التنموية، ظلت معظم المدن الجزائرية بعيدةً عن الدعاية الحكومية والأفكار الاشتراكية. فأدت تلك السياسة، دورها الكبير في عملية التعبئة للمعركة السياسية القادمة. (سعود، 396).
ــ الخلفية الاجتماعية والثقافية
تطور الصراع الثقافي – الذي مهد للأزمة – بين الفئة (ذات الثقافة الفرنسية) والفئة (ذات الفكر العروبي) إبان الاستقلال الوطني. ويكشف رشاد التلمساني عن تلك الوضعية، بقوله: “في الواقع إن موقف المُعربين كان نابعًا من تكوينهم الأساسي باللغة العربية، أما المفرنسين، فكانوا يطالبون بالإبقاء على الفرنسية، كأداة اتصالٍ أساسية في الجزائر، وبموقفهم هذا عُدّوا من أتباعَ الاستعمار” (Rachid Tlemcani, 1986,p.19)، خلق ذلك التوتر والصراع تباينًا في المجتمع، فكان الكثير من الشباب ذوو الثقافة العربية بدون عملٍ، لصالح الفئة ذات الثقافة الفرنسية التي تهيمن على دوائر الإدارة والتعليم والاقتصاد. مما أحدث انقسامًا واسعًا في بِنية المجتمع الجزائري. على الرغم، من محاولات الدولة تعزيز حركة التعريب في أجهزة السلطة، والمجتمع (H. Roberts,1988, p.p.566-567). كذلك حملت مسألة اللغة العربية طابعًا استفزازيًا أثار حفيظة الجزائريين الأمازيغ، الذين نادوا بالعودة إلى الجذور الأمازيغية في اللغة والتقاليد. فهم فضلوا الثقافة الفرنسية على العربية، وطالبوا الحكومة بالاعتراف بلغتهم الخاصة، لغة رسمية في الجزائر (خيلية، 2010، ص 25 – 26).
2. أحداث الأزمة الجزائرية (1992 ـــ 2000)
بدت الجزائر في عام 1989، وكأنها دخلت مرحلة انفتاح ديموقراطي وأشرعت الحكومة أبواب نظامها السياسي فجأة، حين أصدرت دستورًا جديدًا طوى صفحة تفرد جبهة التحرير الجزائرية في الحكم. وقد أجازت المادة أربعون من الدستور إنشاء جمعياتٍ سياسية، فوصلت خلال فترة وجيزة لأكثر من ثلاثين حزبًا سياسيًا (تلمساني، 2008، ص 3). وأصبحت الجزائر على حدّ تعبير وليم كانت “أكثر الدول تحررًا وتعددية، وحماسًا للدفاع عن الديموقراطية في العالم العربي آنذاك”(كانت، 1988، ص 5).
مع بدء الانتخابات في الجزائر (1990 – 1991)، حصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ “حديثة العهد “على النسبة الأكبر من الأصوات الانتخابية سواء في الانتخابات المحلية والتشريعية. وتمكنت الجبهة الإسلامية للإنقاذ من تحقيق انتصارٍ ساحق في انتخابات الجولة الأولى على الأحزاب الأخرى نتيجة الكفاءةِ العَالية في التنظيم وترشيحها لأشخاص من ذوي الخبرة المهنية عرفوا كيف يستعملون الخطاب السياسي. فنظر الشباب الجزائري (75 % من الشباب تقريبًا) إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأنها القوة الوحيدة التي ستغير النظام السياسي القديم فأعطوها كل أصواتهم (خيلية، المرجع السابق، ص 107 – 108).
لكن الخوف من وصول الإسلاميين إلى السلطة دفع العديد من الأحزاب المعارضة لنتائج الانتخابات “الاشتراكيين خاصة “، للمطالبة بإلغاء الدور الأول من الانتخابات التشريعية. بل، بادرت إلى جَمع توقيعات لإيقافها وحلّ الأحزاب الإسلامية، وشاركهم تخوف خارجي “دولي” من وصول الإسلاميين إلى السلطة، وتغييرهم شكل النظام السياسي في الجزائر (خيلية، المرجع نفسه، ص 125).
قررت الحكومة، وبدعم من قيادة الجيش، الحد من نفوذ الجبهة الإسلامية للإنقاذ. فتوصلت إلى فكرةِ تعديل قانون الانتخابات. وتمكنت في القانون الجديد من تهميش المدن لصالح حضور الأرياف، من خلال الزيادة في عدد الدوائر للمناطق التي لا تعرف كثافة سكانية. فقد خُصص مثلًا، لولاية تيزي وزو “منطقة القبائل” التي تُسيطر عليها الأحزاب الاشتراكية – كانت تلك المنطقة تضم 700 ألف نسمة – نحو واحدٍ وعشرين مقعدًا، مثلها مثل ولاية العاصمة المتألفة من ثلاثِ ملايين نسمة آنذاك. فأثار هذا التعديل سخط الجبهة الإسلامية. وهو ما دفع بها للقيام بحركة إضرابات واسعة في مراكزها المدينية. أما جبهة التحرير الوطني، فقد رحبت بالتعديل الحكومي، لأن قادتها أدركوا بأن القانون عُدّل من أجل انتصارهم في الجولة الثانية، من خلال زيادة مقاعد المدن والأرياف الصُغرى، ولا سيما المناطق الجنوبية المناصرة لهم (خيلية، 83 – 84).
أدى تعديل قانون الانتخابات، ثم تجميد نشاط الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى اندلاع مواجهاتٍ عنيفة بين الأمن والجيش من جهة والأحزاب الإسلامية “التي تسلحت” من جهة ثانية. وارتكبت جميع الأطراف أعمال عنف، وقتل عشوائي – وفق الروايات المختلفة – فتجاوزت حصيلة تلك الأزمة، أكثر من مئةٍ وخمسين ألف قتيل وعشرة آلاف مفقود، وأكثر من مليون مُشرد، وأضرارٍ بالغة في البنى التحتية تجاوزت الـ 20 مليار دولار (سويدية، 2003، ص 17 – 18). وانتهت الأزمة الجزائرية في 1998، بعد الانتخابات الرئاسية، التي أوصلت عبد العزيز بوتفليقة إلى حكم الجزائر، وإصداره عفوًا عامًا، ومحاولته – المتعثرة – تطبيق خطة إصلاح سياسية – اجتماعية، لمعالجة آثار الأزمة وتداعياتها (تلمساني، المرجع السابق، ص 7 – 9).
ومع ذلك، فإن المصالحة الحكومية لم تؤتِ ثمارها. فقد بقيت المئات من عائلات المفقودين، مستاءةً من عدم قيام الحكومة الجديدة، بأيّة تحقيقات، من أجل كشف هوية المسؤولين عن القتل والاختطاف. كذلك، لم تقم الحكومة، بأيّ مراجعات لجذور الأزمة وأحداثها، وفق الآليات التي أخرجت عدة بُلدان من أزماتها الداخلية. كما حصل في جمهورية جنوب أفريقيا، حين انتهت فيها الحرب العِرقية إلى تشكيل لجنة “الحقيقة والمصالحة”، التي ألقت الضوء على الأحداث المروعة التي شهدتها البلاد في سنوات التمييز العنصري بين البيض والسود.
كذلك الحال، في المملكة المغربية، ففي نهايات القرن العشرين، عندما أنشأت حكومة الملك الحسن الثاني هيئة “الإنصاف والمصالحة”، لمحاولة تجاوز تداعيات أزمة “سنوات الرصاص” التي تأثر بها المغاربة كثيرًا (تلمساني، 119). وبالرغم من تعدد الكتابات الوطنية الجزائرية التي حللت الأزمة، فإن الكثير منها روت الأحداث، لا بهدف مراجعة الإشكالات الكبرى العالقة في المجتمع الجزائري، وإنما انطلقت من ذاكرات الفاعلين في الأزمة، أو من الذاكرات التي عاصرت تلك الكتابات، وبررت الأزمة بطرقٍ لها رهاناتها المقصودة.
ثانيًا ـــ مقاربة الكتابات الوطنية الجزائرية ما بعد الأزمة
اختلفت الكتابات الوطنية الجزائرية في قراءة أحداث الأزمة الجزائرية، وتحليل أبعادها. ويمكن أن نرصد في هذا السياق، نوعين من تلك الكتابات، والتي مَثَّلها باحثان جزائريان، وهما مُغنية الأزرق وعبد الحميد براهيمي، اللذين كتبا في الأزمة. فمن هؤلاء؟ وكيف بَنى كل واحد مِنهما تصوراته حول الأزمة؟ وهل كتبا تاريخًا أم بَنوا ذاكرةً للأزمة؟
1. مُغنية الأزرق وعبد الحميد براهيمي
مُغنية الأزرق: هي أستاذة في علم الاجتماع. حصلت على البكالوريوس في الرياضيات، فضلًا عن رخصة في الآداب من جامعة الجزائر. بعد ذلك انتقلت للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ونالت شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة نيويورك، ودَرّستْ في المدرسة العليا لجامعة نيويوركThe Graduate School of the City of New York. تركزت بحوث مغنية حول التغيير الثقافي لدى الشعوب، وأنجزت دراسات حول المرأة، والهوية، والعلاقات بين الجنسين في المجتمعات التي تمر بمرحلة الانتقال من التبعية الاستعمارية والاقتصادية إلى مرحلة السيادة الوطنية.
عالجت دراسات مُغنية المبكرة الصدمات الاجتماعية والثقافية التي واجهتها الجزائر في أعقاب الاستعمار الفرنسي، وبلغت ذروة ما كتبته في نشر مؤلفها “ظهور الطبقات في الجزائر: دراسة للاستعمار والتغيير الاجتماعي والسياسي “سنة 1980، وكتابها”المرأة الجزائرية في السؤال “الذي صدر سنة 1996. تتمتع مغنية في كتاباتها بتوجه يساري “اشتراكي”، يبدو من خلال اهتمامها بواقع طبقات المجتمع، واهتمت بمسألة العدالةِ الاجتماعية. كما وجهت مغنية نقدًا لاذعًا لأنظمة الحكم الإسلامي “الإسلام السياسي”، وكانت تمقت ذلك النوع من الأنظمة. وتتمثل رؤيتها في هذا المقال – موضوع دراستنا – وهو بعنوان: “الإسلام السياسي وإعادة استعمار الجزائر”(أحميدة وآخرون، 2014، ص 18، وMarina Lazreg,2016).
أما عبد الحميد براهيمي، كان يعدّ أحد الأعضاء البارزين في حزب التحرير الوطني. وشغل منصب أستاذ الاقتصاد بجامعة الجزائر عام 1970.وفي عام 1984م عينه الرئيس الشاذلي بن جديد بمنصب الوزير الأول، كما عُين في السنة ذاتها عضوًا في المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني. بعد استقالة الشاذلي سنة 1992، نشب خلاف بين براهيمي والقيادة الجديدة (ممثلة بالجنرال خالد نزار). حيث اعتبر براهيمي أن ما قام به المجلس الأعلى للأمن من إيقاف المسار الانتخابي، وتأسيس المجلس الأعلى للدولة انقلاب عسكري. وهو ما جَرَّ عليه غضب أصحاب القرار، مما سبب مغادرته البلاد، وانتقل إلى بريطانيا. في لندن شغل منصب مدير مركز دراسات المغرب العربي، وعمل مستشارًا للمعهد الملكي. وفي العام 2001 أصدر كتابه بعنوان “في أصل الأزمة الجزائرية”، وهو النموذج الثاني الذي سنقارنه مع ما كتبته مغنية الأزرق في الأزمة. لقد أدت معارضة براهيمي إلى اتهامه بالتعامل مع المخابرات الأمريكية تارةً، والتحالف مع التيار الإسلامي تارة أخرى (ختال، 2016). ولذلك، بقي براهيمي مُقيمًا في لندن حتى صيف 2016، ولكنه عاد إلى الجزائر، بعد سماح السلطات له بالعودة، واشترطت عليه أن يتخلى عن نشاطه السياسي المعارض لها، وهو ما أكده الباحث الجزائري الطاهر سعود خلال حوار أجريته معه في شهر ديسمبر من عام 2016 (سعود، حوار خاص، ديسمبر 2016).
2. مراجعة تحليلية حول كتابات مغنية وبراهيمي في الأزمة الجزائرية
اختلف توصيف كلا الباحِثين للأزمة، وفق استراتيجيات ورهانات كلٍ منهما، فيما أسمياه بـ ـ”العُشرية الحمراء، أو “حُكم الرداءة والعنف”. فاستحضر كِلاهما معلومات ووقائع وآراء متضاربة في سردهم لقصة الأزمة. وتجلت أفكارُهُما في النقاط التالية:
أ ــ الاستنجاد باللحظة الاستعمارية
أبرزت مُغنية الأزرق من خلال مقالها عن تلك المرحلة، أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، هي المتسببة في انفجار الوضع، وإيصال البلاد إلى دوامة الإرهاب، وأعطت تبريرًا لما وصفته بالأعمال الحكومية ضد “الإرهابيين الإسلاميين”، حسب تعبيرها. لكن المهم، فيما كتبته في الأزمة. هو وصفها نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات، بأنه إعادة لاستعمار الجزائر من جديد، وبوسائل الاستعمار ذاتها. فتقول: “حاولت الجبهة الإسلامية للإنقاذ إعادة تشكيل حياة الناس، وذلك بإصرارها، كما يرى الفرنسيون تفوقهم في الثقافة والمجتمع والسياسة. إن مهمة التَحضُّر التي ناصرها المستعمرون في القرن التاسع عشر، سبقت ما يُمكن وصفه بمهمة “إعادة التحضير” التي ناصرتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ”(الأزرق، 2014، ص 188).
وتؤكد أنه على الرغم، من سلوكيات أجهزة السلطة خلال الأزمة، فإنها لم تَرق – حسب رأيها – إلى ما فعلته الجبهة الإسلامية، وفق أيديولوجيا استعمارية، هدفت منها الوصول إلى السلطة، وتقول: “إن استخدام الطرائق الاستعمارية في السيطرة على المجتمع ليس حِكرًا على الحركات الاسلامية، فالدولة أيضًا تبنت استراتيجيات استعمارية أيضًا، ولا سيما في تعاملها مع مؤسسة الدين، وسعت إلى إخضاعها للسيطرة السياسية. لكن الإسلاميين صاغوا إيديولوجيا كاملة تستخدم استراتيجيات التثقيف الاستعمارية، لأغراض سياسية، كما فعل الفرنسيون، خلال المرحلة الاستعمارية”(الأزرق، المرجع السابق، 189).
في مقابل ذلك، نجد عبد الحميد براهيمي يتحدث عن “خيانة” ضباط جيش الأزمة أيام ثورة التحرير الجزائرية. ويُعيد أصول هؤلاء إلى الفارين من الجيش الفرنسي. وأن هؤلاء من تسبب في أزمة الجزائر الوطنية، من خلال السلوك “العصاباتي” الاستعماري، حسب رأيه. إذ يقول: “برزت فئةُ الفارين، الذين يُريدون دخول الثورة من الباب الواسع، والحصول بذلك على الشرعية اللازمة للقيام بمهمتهم على أكمل وجه. هؤلاء الذين تسمموا بنزعة التغريب، وتم استعمارهم ذهنيًا، بقوا مرتبطين ثقافيًا بفرنسا بعد الاستقلال، وكانوا يُشكلون مجموعة ضغط متآزرة من النموذج المافياوي”(براهيمي، 2001، ص 11 – 12)[2].
يذكر براهيمي في آخر مقاله، بأن ما شهدته الجزائر في بداية عقد التسعينات، هو استعمار جديد بأيدي محلية، وهو ما أدى إلى تدهور أوضاع الجزائر إلى أبعد الحدود. فيقول: “في مطلع القرن الواحد والعشرين، وبعد الاستقلال ب 38 عامًا، يتساءل البعض إذا لم تكن الجزائر في وضع أفضل في ظل الاستعمار، مما هي الآن في ظل جنرالات حزب فرنسا الاستعماري الجديد. وإذا كان هذا التساؤل واردًا فهو يُبين درجة الخطورة، والانحطاط التي بلغها المجتمع الجزائري…وأنا أعتقد، من وجهتي، أن الشعب الجزائري بغالبيته الساحقة، إنما يرفض الاستعمار القديم كما يرفض الاستعمار الجديد”(براهيمي، المرجع السابق، ص 255).
ب ــ استحضار قضايا الدين والثقافة في المجتمع
ربط كلا الباحِثَيّن العامل الاستعماري بالرموز الدينية والثقافية. فقد شبهت مُغنية الخطاب الإسلامي والثقافة الديموقراطية التي نادت بها الجبهة الإسلامية، بأنها غزو استعماري ثقافي، لإعادة تكوين النموذج الثقافي للجزائريين من جديد. فتقول: “أدت الأهمية الرمزية للصورة الاستعمارية في الخطاب الإسلامي، دورًا وظيفيًا في إعادة تكوين المشهد الثقافي الجزائري. فمثلًا: قوبلت الديموقراطية بالتّرحاب كونها اختراعًا علمانيًا “غريبًا”، أُريد منه إرباك الجزائريين من أجل تخليد الحكم الاستعماري عبر وكلاء” (الأزرق، المرجع السابق، ص 196).
كما رأت مُغنية أن الأحزاب الإسلامية، عملت من خلال برامجها الدينية على تدمير الحركة التعليمية للجيل الجزائري، بحجة أنها علمانية. حيث تقول: “إن المنظومة الدينية الجديدة التي أطلقتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، عملت على تدمير البنية التعليمية في البلاد، هو تدمير للفكر والدين معًا. من خلال إدراج ملامح التدين في الحياة اليومية، وفي خطب الجمعة في المساجد، وأُعيد تكوين المشهد الثقافي في مسعى لإيجاد نظام اجتماعي جديد. أريد من تدمير الجماعات الإسلامية المسلحة للمدارس في كل أنحاء البلاد على أساس أنها تُدرس العلمانية، كرد على السياسة الاستعمارية الثقافية القائمة، والتي نُظر إليها على أنها ما زالت تطبق في الجزائر”(الأزرق، المرجع السابق، 198).
بينما يُرجع براهيمي أسباب الأزمة إلى عاملٍ حضاري وأخلاقي، فرضه خِداع أنصار السلطة تحت غطاء العلمانية. وأكد دور الجبهة الإسلامية الإيجابي في الحِراك التنموي بالمجتمع، فيقول: “في الواقع، يُريد الإسلاميون أن يَلعبوا دورًا إيجابيًا في سياسة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلدهم، وفق قناعاتهم الثقافية والروحية. بحيث يستفيد الشعب الجزائري من الرفاه، والرخاء الاقتصادي والاجتماعي في ظل الكرامة والعدل الاجتماعي.. وفي الحقيقة أن العَلمانية التي يَختبئ خلفها أنصار حزب فرنسا هي خداع، ويجري استخدامها كحجةٍ للسماح لهم، بأن يَحتفظوا بالسُلطة عن طريق القوة”(براهيمي، المرجع السابق، ص 193).
يَصف براهيمي الحكومة، وضباط الجيش، ممن عملوا على تعديل الانتخابات، بنفس صفات المستعِمر. واعتبرهم إرهابيين. وكما رأى أنهم يعملون على طمس الهُوية العربية الإسلامية بسلوكهم، من خلال سياستهم الهادفة إلى القضاء على الإسلام، وتَذويب الثقافة العربية، بقوله: “إن الجزائريين يتعرضون منذ انقلاب 1992 لحملةِ تسميم تَشنها الدِعاية الحاقدة التي تُغذيها أوساط فرنسية، تعتمد لأجل ذلك على وسائل إعلام داخل الجزائر، والتي يتحكم بها الجنرالات الاستئصالين، والمستعَمرون فكريًا. فهؤلاء يتبنون العنف والقمع كسياسةٍ ترمي إلى حرفِ التاريخ عن مجراه الطبيعي عبر السعي لإفقاد الإسلام حُظوته، والتعامل مع اللغة العربية على أنها عدو عمومي”(براهيمي، المرجع السابق، 228).
جـ ـ النَّمطية في توصيف أدوار الفاعلين في الأزمة
رأت مُغنية بأن الحركة الإسلامية في الجزائر ــ عمومًا ـــ لم تساهم في نهضة البلاد، ولا في تقدمها، بل صَوَّرتها بطريقةٍ نمطية. على أنها استخدمت الرموز التراثية “التقليدية والأسطورية” لبلوغ الحُكم. فتقول:” الحركة الإسلامية في الجزائر لم تُحدث نهضةً في فكر المسلمين ومؤسساتهم. وهي ليست حركة إصلاحية، ولا حركة اجتماعية، تنزع نحو التَغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي. إنها حركةُ مُعارضةٍ تُطيح بالنظام القائم عبر استخدام رموزٍ دينية يَألفها الجزائريون، لكنها تُضفي عليها معانٍ مختلفة من أجل إعادة تَأسيس مجتمعٍ أسطوري غير ملطخٍ بالاستعمار”(الأزرق، المرجع السابق، ص 204).
أما براهيمي، فاتهم بشكل متكرر المسؤولين في السلطة الذين قاتلوا الإسلاميين بأنهم جماعة فاسدة، وهم أعداء للحضارة العربية والإسلامية، وأنصار للفرنسيين. حيث يقول: “هؤلاء لا يُريدون إقامة نظام ليبرالي ولا اشتراكي، ولا هم ديموقراطيون…إن نظامهم فاسد، ومركب، وخليط من الاتجاهات السياسية المتناقضة التي يجمعها قاسم مشترك واحد هو رفض الحضارة العربية ــ الإسلامية، والانحياز إلى حزب فرنسا”(براهيمي، المرجع نفسه، ص 253 – 254).
3. مُقاربات نقدية لكتابات مُغنية وبراهيمي في الأزمة
اعتبر إدموند بيرغ، بأن إعادة كتابة تاريخ الاستعمار، هو بمثابة مواجهة تعددية جذور الحداثة. وتجلى، في صراع التيار التغريبي والإسلامي. فكان بروز الحداثة في مرحلة ما بعد الاستعمار، قد أدى إلى مواجهةٍ مع قوةٍ جديدة، فرضتها الروايات الوطنية (أحميدة وآخرون، المرجع السابق، ص57). وذلك ما نراه في النصوص السابقة، فالمدقق في العديد من المفاهيم والعبارات، التي جرى استعمالها من كلا الباحثَين “مغنية وبراهيمي” تبدو رهانات كليهما، في ثنايا ما كتباه. وتبرز المقاربة النقدية فيما كتباه في النقاط الآتية:
أ ــ التَّحريف
رأت مُغنية الأزرق، بأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، شوهت الثقافة الوطنية الجزائرية، وأساءت إلى مبادئ الدين الإسلامي. وأن أنصارها استخدموا العنف ضد النساء، من خلال أعمال الإكراه، في تطبيق ممارسات دينية غير موجودة في ثقافة الجزائريين الدينية. وهي ممارسات جميعها، تمثل قِيم المُستعمِر. كما أرادت مُغنية إثبات أن التعاليم الجديدة التي حملتها الجبهة الإسلامية، لا بل وكل الحركات الإسلامية، لا علاقة لها بالإسلام، وأنهم هدفوا من خلالها الوصول إلى السُلطة، بطرقٍ مختلفة دينية وغير دينية. بالتالي كانت سلوكياتهم، هي أشبه ما تكون بسلوكيات المستعمر. فهي بنظرها ليست جبهة إصلاحية ولا اجتماعية، بل حركةً مبنية على الأساطير القديمة. وفي الواقع، أرادت مغنية من ذلك التحريف، التأكيد على أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ أرادت أن تَخلق نظامًا واحدًا للمجتمع؛ أيّ أن الجبهة أرادت أن تخلق نمطًا جديدًا في حياة الناس وعاداتهم ولِباسهم وطرق التعامل فيما بينهم.
في المقابل، وصف عبد الحميد براهيمي جنرالات الجيش الجزائري، الذين سببوا الأزمة وأشعلوها أكثر، بأنهم عملاء للفرنسيين. وهم “حزب فرنسا الاستعماري”، وبأنهم “مستعمَرون فكريًا”؛ لأنهم أفقدوا الإسلام، واللغة العربية المكانة الهامة في المجتمع. و اعتبرهم “عملاء” للفرنسيين، منذ أن فرّوا من الجيش الفرنسي، ودخلوا صفوف الحركة الوطنية، وظلوا أوفياء للخط الاستعماري إلى أن تسلموا السلطة في مرحلة الأزمة. فبراهيمي حرّف في سياقات بحثه الروايات ليُدين الحكومة، وليثبت نزعة قادتها “الاستعمارية”. وبالتالي، فإن كلا الباحِثَيّن حرَّف المفاهيم والمصطلحات بطريقةٍ مقصودة، من شأنها أن تحرف الذَّاكرة الجماعية وتأثر بها، وتجعلها تعيد التجارب المريرة التي عانى منها الجزائريون خلال العهد الاستعماري.
ب ــ الانتقائية
تمثلت الانتقائية في نواح عدة. سواء على مستوى اللغة، وطبيعة المادة المرجعية. فمن ناحية اللغة، نرى أن مغنية نعتت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بكلمات وعبارات، تدل على معارضةٍ “مناوئة” واضحةٍ لها. وهي اعتبرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ أشبه بظاهرةً غريبة “طارئة” في حياة الجزائريين، وبعيدةٍ عن ثقافتهم، وهو ما يبدو لنا في عنوان مقالها “.. إعادة استعمار الجزائر”، وكأنه إيقاظ للجزائريين وتذكيرهم بأن هذه العودة هي استعمار من نوع جديد، سوف يُزعزع حياتهم. كما استخدمت عبارة “إعادة التحضير”؛ وتلك العبارة التي تبنتها أكثر الدراسات الاستشراقية عند الحديث عن التمدد “الاستعماري” الأوروبي نحو العالم العربي ومناطق العالم الأخرى، بحجة تحضير تلك المجتمعات والنهوض بها. بالإضافة إلى ذلك، وصفت مُغنية الجماعة الإسلامية بـ “الإرهابيين”، وهو وصفٌ “انتقائي” يُطلق على كل من يُرهب الناس الآمنين، وهي أيضًا من سلوكيات المُستعمِر وصفاته “اللاإنسانية”.
أما براهيمي، فقد وصف الضباط الذين ساهموا بتغيير نتائج الانتخاب في 1992 بأنهم “سلطة مافياوية، ووحشية”، ووصفهم بالاستئصالين، وهو بذلك، انتقى العبارات التي وُصِف بها المستعمرون في المراحل اللاحقة.
يبدو الانتقاء لدى الباحِثَيّن كذلك، على مستوى المادة المرجعية، فقد اعتمدت مغنية في كثير من مراجعها على كُتابٍ غربيين، ومنهم مستشرقين أومن أنصار الحركة الاشتراكية العالمية، ومن أبرز الكُتاب الذين أخذت منهم، جيلل كيبل وأولفييه روا. في حين، لا نجدها تَعتمد على أيّ شهادة من شهادات رجال الجماعة الإسلامية للإنقاذ أو الكتاب الإسلاميين الآخرين الذين عايشوا الأزمة أو الذين كتبوا بعدها.
أما براهيمي، فاعتمد بشكل أساسي على مُذكراتِ جبهة القوى الاشتراكية المعارضة والحركة الجزائرية للضباط الأحرار، وعلى العديد من شهادات أعضاء الرابطة الإسلامية للدعوة والجهاد، فهؤلاء كانوا جميعًا من مُعارضي “أعداء” الحكومة وضباط الجيش. وهم فاعلون في الأزمة، وعندما كان براهيمي، يستعين بشهادةِ كاتبٍ غربي، فإنما ليُثبتَ حُجته ضد السُلطات. فمثلًا، أكد أن جميع الاعتداءات “الإرهابية” في فرنسا، ولا سيما في مترو باريس، والمنسوبة إلى الجماعة الإسلامية المُسلحة، هي من تنفيذ الأمن السري في الجزائر. وفي هذه الرواية استعان بشهادةِ أحد مسؤولي وزارة الخارجية الفرنسية، لتأكيد صحةَ ما يراه (براهيمي، المرجع السابق، ص 244).
جــ ــ تَبريرية
أثارت مُغنية جملةً من الاتهامات ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وضد الحركة الاسلامية على العموم. فهؤلاء حسب رأيها، يَحملون إرثًا استعماريًا. فكان خطابها رمزيًا ودلاليًا، يكشف لنا عن ميولها اليسارية المعارضة “المناوئة” للإسلاميين بشدة. فهي حَمَّلتْ مسؤولية تَأزّم الأوضاع للجبهة الإسلامية للإنقاذ، والتي في واقع الأمر، لم تتسلم الحُكم، ولو ليوم واحد. وبَرَّرت ذلك، بأن الإسلاميين لا يَصلحون للحكم، وهم بعيدين عن الديموقراطية. أرادت مُغنية أن تؤكد أن الإسلاميين هم أصل الأزمة، وبأن الحكومة والاشتراكيين ليسوا مسؤولين عن تدهور تلك الأوضاع.
أما براهيمي، خاض صراعًا مريرًا مع ضباط الجيش، الذين تسلموا السلطة، واضطروه للخروج من البلاد “أشبه بالنفي”، مما دفعه لشن حملة مناوئةٍ ضدهم، مُبررًا ذلك بأنهم ورثة للاستعمار الفرنسي، ناسيًا أن كثيرًا منهم، كانوا مِمّن قاتل الفرنسيين، واضطروهم للخروج من البلاد، كأمثال الجنرال خالد نزار وعبد العزيز بوتفليقة والعربي بلخير وغيرهم العشرات من ضباط الجيش الذين عاشوا أحداث الأزمة الجزائرية. أراد براهيمي أن يُثبت من خلال كتاباته، عدم تورط الجبهة الإسلامية للإنقاذ في تداعيات الأزمة، وهذا يرجع إلى ميوله الإسلامية، والسياسية المعارضة لضباط الجيش ورموز السلطة الحاكمة، بعد إبعاده من الحُكم في سنة 1992.
يمكن القول، بأن كلا الباحثَين كتب مقاله بعد الأزمة بسنةٍ واحدة (مغنية كتبت مقالها باللغة الإنكليزية عام 2000، وبراهيمي انتهى منه في عام 2001). فهما كتبا في مرحلة الكشف عن ملابسات الأزمة، وكانت الجزائر حينها تعيش نتائج الأزمة الكارثية. وفي عام 1999، أطلقت حكومة عبد العزيز بوتفليقة برنامج المصالحة الوطنية، ومنذ البداية، تصدرت قضايا اجتماعية معقدة، كقضية المفقودين، وذلك سبب موجة احتجاجات من قبل أسرهم، نتيجة صدور قانون العفو الرئاسي، والذي أعفى كل مُرتكبي الجرائم من أطراف الأزمة. وبذلك، فإن كلاهما راهن في خطابه على تبرئة طرف في الأزمة وإتهام طرف آخر، ولم يتجرؤوا على العودة إلى جذور وخلفيات الأزمة الحقيقية، والتي تعود بداياتها الأولى إلى حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر.
خلاصة
في خاتمة البحث، يمكن أن نلاحظ، أن كلا الباحِثَيّن راهن في استحضاره الحقبة الاستعمارية والعامل الديني والثقافي، في سياق كتابته لأحداث الأزمة الجزائرية على تحقيق هدف أساسي، وهو إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية الجزائرية من جديد. فأراد كلاها، أن يحظى بثقة الفئات الاجتماعية، التي توافق توجهه الفكري والسياسي؛ فهم وجهوا خطابًا لفئات محددة في المجتمع الجزائري. حيث كان المجتمع في تلك الأثناء مقسوم إلى فئتين، وهما: أنصار الاتجاه الإسلامي وأنصار الاتجاه الاشتراكي المناصر لسلطة جنرالات الجيش.
فكانت تلك الكتابات في ظاهرها تاريخية، إلا أنها اتسمت بالانتقائية، لأنها انتقت من الماضي “القريب” المفاهيم والأحداث التي تُريدها. وهي تحريفية، حيث حرَّفت الأحداث لتبرير واقع حاضرٍ، مَثَّلته فترة كتابة كلا المقالين، من أجل تبرئة أطراف الأزمة، وإدانة المُتسبب في وقوعها. ولم يخطر ببال كلا الباحِثَيّن قراءة عميقة للمراحل السابقة عن الأزمة، والبحث في الجذور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي شكلت عواملًا متراكمةً أدت إلى وقوعها. وفي نفس الوقت، وقعت تلك الكتابات في خطأ التطابق الزمني (فهي درست الأزمة الوطنية الجزائرية كحربِ استعمارٍ جديدة). ومهما يكن، فلقد كانت معظم التيارات السياسية والعسكرية والاجتماعية الوطنية غارقة ومتورطة في الأزمة، وهو ما جرت ملاحظته بعد الاطلاع والمقارنة بين عدد من كتب المذكرات والأطاريح العلمية، والتي بحثت في جوانب الأزمة، وذلك ما دفعني لتسميتها، بالأزمة الوطنية الجزائرية. وبناء عليه، فإن مُغنية الأزرق وعبد الحميد براهيمي، أعادوا تشكيل ذاكرة الأزمة الجزائرية من جديد، وبدلًا من أن يكتبوا تاريخها بواقعية وحياد، ويحاولوا تجاوز آثارها التدميرية على مستقبل بلادهم، فإنهم تحولوا لأطراف فاعلة بها.
ومع ذلك، فقد قدم كلا الباحِثَيّن في كتاباته عن الأزمة، مادةً عِلمية ثرية، تُفيدنا في بناء المعرفة التاريخية. وهو ما يتطلب من باحث التاريخ مساءلةً لها أكثر مما يطلب منه تصحيحًا لمسارها. وكما يُوجب علينا كدارسين الاهتمام بها، والبحث في تفاصيلها، وفق ما عبَّر عنه المؤرخ التونسي عبد الحميد هنية بالقول: “الذاكرةُ هي الخُبز اليومي للمؤرخ… ونحن، ليس من مَهمتنا أن نُصحح الذاكرة، بل أن نُسائلها”(هنية، 10 ديسمبر 2016). وهنا تبرز حِرفية المؤرخ في سعيه للتَّحقق بحذر ووعي، يجعلانه يتجاوز عراقيل وصعوبات عمله البحثي. ويصل في نهاية المطاف، إلى أن يُفرق بين ما هو حدث تاريخي، وما هو حدث تَذكُّري “ذاكرة ومتخيل”. ويُمكّنه ذلك، من إعادة تجديد وكتابة الكثير من الوقائع التاريخية “المشوبة بالذاكرة” من جديد.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية “
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية © 2018
المراجع
المراجع العربية والمُعربة
- رواجعية، أحمد، ط1 (1993)، الإخوان والجامع، استطلاع للحركة الإسلامية في الجزائر، ترجمة خليل أحمد خليل، دار المنتخب العربي للنشر، بيروت.
- نورا، بيير، (2015)، الكتابة التاريخية “التاريخ والعلوم الاجتماعية: التاريخ والذاكرة”، تر محمد حُبيدة، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء.
- سويدية، حبيب، ط1 (2003)، الحرب القذرة “شهادة ضابط سابق في القوات الخاصة الجزائرية 1992 – 2000″، ترجمة روز مخلوف، دار ورد للطباعة، دمشق.
- تلمساني، رشيد، يناير (2008)، “الجزائر في عهد بوتفليقة: الفتنة الأهلية والمصالحة الوطنية”، مؤسسة كارنيغي، (واشنطن)، العدد 6.
- خيلية، رويدة، (2010)، “الوضعية الأمنية في الجزائر من خلال الصحافة الوطنية في الفترة ما بين 1992 – 2000″، أطروحة دكتوراه، جامعة الجزائر.
- سعود، الطاهر، ط1 (2012)، الحركات الإسلامية في الجزائر “الجذور التاريخية والفكرية”، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي.
- سعود، الطاهر، (25 ديسمبر 2016)، حوار خاص حول “الأزمة الجزائرية.. أهم روادها وكُتّابها”، شبكة التواصل الاجتماعي”messenger“.
- براهيمي، عبد الحميد، ط1 (2001)، في أصل الأزمة الجزائرية (1958 – 1999)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
- هنية، عبد الحميد، (10 ديسمبر 2016)، مُحاضرة في “الذاكرة والتاريخ والعلاقة بينهما: نظرة مختلفة إلى الحاضر والماضي في آن واحد”، (الدوحة)، معهد الدوحة للدراسات العليا.
- عنصر، العياشي، ط6 (1996)، “سيسيولوجيا الأزمة في الجزائر”، في كتاب جماعي: الأزمة الجزائرية، تحرير سليمان الرياشي وآخرون، دراسات الوحدة العربية، بيروت.
- ويليس، مايكل، ط1 (1999)، التحدي الإسلامي في الجزائر، “الجذور التاريخية والسياسية لصعود الحركة الإسلامية”، ترجمة عادل خير الله، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت.
- أحميدة، محمد علي وآخرون، ط1 (2014)، ما بعد الاستعمار والقومية في المغرب العربي، تر جمعة عمر بو كليب وآخرون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
- الأزرق، مُغنية، ط1 (2014)، “الإسلام السياسي وإعادة استعمار الجزائر”، في كتاب جماعي، ما بعد الاستعمار والقومية في المغرب العربي، تحرير محمد أحميدة وآخرون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
- ختال، نور الدين، (6 ديسمبر 2016)، “هذه قصة عبد الحميد براهيمي مع ضباط فرنسا”، مجلة الحوار الالكترونية، انظر: http://bit.ly/2AqDo32
- كوثراني، وجيه، (2006)، “استحضار الذاكرة التاريخية وتشكيل الهوية”، مجلة المستقبل، العدد 2393، ص 20، انظر: http://bit.ly/2zkthz5
- كانت، وليم، (1988)، “بين صناديق الاقتراع والرصاص: طي صفحة السلطوية في الجزائر”، معهد بروكينز، (واشنطن).
المراجع الأجنبية
17.Tlemcani. Rachid, (1986), State and Revolution in Algeria, “London, Zed Books.
- Roberts. H, (1988), “Radical Islamism and the Dilemma of Algerian Nationalism: The Embattled Arians of Algiers, “Third World Quarterly,vol.10.no.2.
- Lazreg. Marnia,( 14 December 2016),” Biography,” Sociology, Hunter College, look at: http://bit.ly/2gA3V2H
[1]اختلفت مسميات الحدث الجزائري في أواخر القرن العشرين، فمن الكُتاب من سماه بسنوات الرصاص أو عهد الدم”. والبعض سماه “العُشرية الحمراء”، وآخرون سموا تلك الأزمة بـ ـ”الحرب الأهلية”. وفي هذه الورقة، سنعتمد تسمية ذلك الحدث بـ “الأزمة الوطنية الجزائرية”؛ كونها أطول وأعنف أزمة داخلية شهدتها الجزائر بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1962، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن هذه التسمية، تُنقذنا من خطأ الوقوع في التصنيف المفاهيمي، ويبقى ذلك التصنيف من فِعل الفاعلين أومن باحثين آخرين، ولا يكون من أخطائنا في هذه الورقة.
[2]رتب عبد الحميد براهيمي قائمة بأسماء الضباط الفارّين من الجيش الفرنسي، والملتحقين بجيش التّحرير عبر الحدود من 1957 إلى 1961. وذكر فيه 26 شخصا بينهم، هم: عبّاس غزيّل، ومحمّد العمّاري، ومحمّد تواتي، وأحمد بن شريف، والعربي بلخير، وعبد المالك قنايزية، وخالد نزّار.