تمهيد:
جاء انسحاب أمريكا غير المنظّم من أفغانستان، وسقوط العاصمة كابل يوم 15 من آب /أغسطس 2021 بيد طالبان، مترجمًا لتحول كبير في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية التي أقرّ مسؤولون فيها بفشل مشروعها هناك بعد مُضي عشرين عامًا عليه، أنفقت خلالها أموالًا طائلة على برامج تسليح وتدريب، ودعم حكومات متعاقبة لأفغانستان تلاشت جميعها خلال أيام.
وبالقدر نفسه شكّل دخول طالبان إلى كابل دون قتال لحظة تاريخية أحدثت صدمةً عند كثير من المراقبين الدوليين والفاعلين، حيث أصيب كثيرون حول العالم بالذهول وهم يُشاهدون صورًا لدخول قوات طالبان القصر الرئاسي في كابل، تقابله مشاهد حيّة لفوضى في محيط المطار لآلاف الأفغان – من مدنيين ومتعاونين وقوات أمن وشرطة ومسؤولين – الراغبين في الخروج من أفغانستان، في مشهدٍ أعاد للأذهان انسحاب أمريكا من سايغون – فيتنام – في سبعينيات القرن الماضي.
لا شك أنّ سقوط كابل دون مقاومة تذكر، ومثلها غالبية المناطق والمدن التي دخلتها طالبان، بما فيها إقليم بنجشير، ترك العديد من إشارات الاستفهام والأسئلة عن سبب حدوث ذلك، عِلمًا أنّ تقارير دولية سياسية وأخرى استخبارية كانت قد أشارت – قبل سقوط كابل – إلى احتمالية صمودها لشهور، لكن اتّضح أنَّ معظم التقديرات – التي استندت إليها إدارة بايدن – لم تكن صحيحة؛ خصيصى المعلومات التي كانت تُتداول عن استعداد قوات الرئيس السابق أشرف غني لحماية مطار كابل وتأمين البعثات الدبلوماسية والمسؤولين في عمليات الإجلاء.
بشكل غامض اختفت القوات الأفغانية من محيط المطار، وانهارت الأجهزة الأمنية والشرطة، وعناصر الأمن تزامنًا مع هروب الرئيس أشرف غني وبعض معاونيه إلى خارج البلاد، ومئات الضباط والطيارين إلى دول جوار أفغانستان، الأمر الذي أدى إلى انكشاف القوات الأمريكية في محيط المطار، مع ارتفاع منسوب الخطر على المسؤولين والبعثات الدبلوماسية، تزامنًا مع حالة تدافع لآلاف المدنيين الهاربين من الواقع الجديد.
ازداد منسوب الخطر بعد حدوث تفجيرين في 26 من آب /أغسطس 2021 عند مدخل مطار حامد كرزاي، ادّعت الولايات المتحدة أنّ تنظيم خراسان قام بتنفيذهما، وبعد يومٍ واحدٍ أعلن البنتاغون عن مقتل قياديين من التنظيم في هجومٍ بطائرةٍ مسيّرة.[3] آلت هذه التطورات بشكلٍ أو بآخر إلى تركيز إدارة بايدن كامِلَ جهودها للإسراع في إجلاء رعاياها دون الاهتمام بأي أمر آخر، وفي مطلع يوم ٣١ من آب /أغسطس 2021 أعلنت عن خروج آخر جنديّ أمريكي من أفغانستان.
العشوائية التي ظهرت في مراحل الإجلاء، وحالة الفوضى في محيط مطار كابل، وفقدان التنسيق بين الولايات المتحدة والقوات الأفغانية وما تبقى من حكومة أشرف غني، طرحت تساؤلًا مهمًّا عن سبب حدوث ذلك، فهل هناك جهات وقفت وراء ظهور أمريكا بهذا المنظر المُهين أمام حلفائها والعالم، مستغلّةً فقدانها السيطرة على مجريات الأحداث، لا سيما أنّ التوجّه الأمريكي كان قبل سقوط كابل ذاهبًا نحو إجراء مشاوراتٍ سريعةٍ مع حكومة أشرف غني لنقل السلطة سلميًّا وفقًا لمباحثات الدوحة؟ لكن حدث أن توقّفت كل مسارات التفاوض محليًّا ودوليًّا، وتمّ تمهيد الطريق بشكلٍ مرنٍ لدخول طالبان إلى كابل، وترك ما تبقى من القوات الأفغانية تُواجه مصيرها.
أربعة أسئلة يطرحها الباحث في هذه الورقة للإجابة عليها بشكل موضوعي وغير منحاز لطرف على حساب آخر، وهي:
- كيف تغيّرت مسارات التسوية في أفغانستان؟
- ما الذي حدث قبل سقوط العاصمة كابل؟ وكيف اختفت القوات الأفغانية التي أدّى تلاشيها إلى إحداث فراغ أمني كبير؟
- هل ستنجح طالبان في حكم أفغانستان؟
- ما الموقف الدولي من عودة طالبان؟
أولًا: مقدّمات حرف النزاع بين أطراف الأزمة:
برغم أنّ تاريخ سقوط كابل شكّل بدايةً لِحقبة جديدة في أفغانستان، جذبت انتباه العديد من الباحثين والمراقبين لبحث وتقصي حقيقة ما جرى، فإنّ ذلك لم يمنع البعض من التنويه إلى أنّ وصول التطورات في أفغانستان لنقطةٍ صفريّة في كابل، سببها أولًا: تمسّك الولايات المتحدة – تحديدًا إدارة بايدن – بتنفيذ انسحابٍ نهائي وكامل لقواتها من أفغانستان، بناءً على اتفاق شباط /فبراير 2020 الذي وُقِّع بين حركة طالبان وإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
لكن المُثير هنا أنّ تنفيذ انسحاب القوات جاء مُخالفًا لبنود اتفاق الدوحة (المُعلن)، وقد ورد في أهم بنوده أنّ خروج القوات سيترافق مع دعم محادثات السلام بين حكومة أشرف غني وحركة طالبان، ورسم خارطةِ طريقٍ سياسيةٍ للبلاد تُحافظ على مؤسساتِ الدولة، وتحافظ عليها من الانهيار. مقابل ذلك تلتزم طالبان بحماية المصالح الأمريكية، وتَمنع استخدام أراضي أفغانستان من جماعات القاعدة والتنظيمات المتشدّدة في تهديد مصالح الولايات المتحدة.[4]
ما إن تولّى الرئيس الأمريكي جو بايدن رئاسة البيت الأبيض، حتى أعلن أنه سيلتزم في تنفيذ اتفاق ما ورثه عن إدارة ترامب بسحبِ كاملِ قواته من أفغانستان ضِمنَ جدولٍ زمنيّ يبدأ في 1 من أيار /مايو 2021 وينتهي في 11 من أيلول /سبتمبر 2021.
كان الرئيس الأمريكي يُعوّل على حكومة أشرف غني في تحقيق تفاهماتٍ مشتركة مع طالبان في مسار مباحثات الدوحة، وما سُرِّبَ منها يفيد أنّ طروحات عِدّة كانت على طاولة النقاش، من بينها تشكيل حكومة مؤقتة يتم تعيينها على أساس المناصفة، لكنّ أشرف غني رفض هذا الطرح، وقدّم خطة مغايرة تقوم على تشكيل حكومة لأفغانستان وفقَ دستور البلاد، تُتوَّج بانتخابات رئاسية.
رفضت طالبان من جهتها عرض غني، وتوقّفت على إثرها المحادثات بين الطرفين مؤقتًا، ومع مطلع أيار /مايو 2021، دعا مبعوثو الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وحلف شمال الأطلسي والنرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية إلى استئناف المحادثات بين الطرفين دون شروطٍ مسبقة والتفاهم حول مستقبل أفغانستان بشأن تقاسم السلطة.[5]
كما عقد مبعوث الولايات المتحدة لأفغانستان زلماي خليل زاده في 12 من آب /أغسطس 2021، لقاءات مع نظرائه في روسيا والصين والهند وباكستان والاتحاد الأوروبي ودول الجوار الأفغاني لمناقشة دعم مباحثات السلام بين أطراف الدولة الأفغانية،[6] وحسب ما ورد (إعلاميًّا) – في ذلك التوقيت – فإنَّ صفقة تقاسم السلطة عُرِضَت على طالبان حينئذ، لكن الحركة رفضتها قائلةً إنها لن تقبل اتفاق سلام إلا مقابل إنشاء “إمارةٍ إسلامية جديدة” في أفغانستان، أكد على ذلك تصريحٌ للمتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد بقوله: “هدفنا إنهاء الاحتلال الأجنبي، وتشكيل حكومة إسلامية في أفغانستان، فإذا قبلوا عرضَنا فنحن مستعدون لإيقاف إطلاق النار، لكن إذا لم تكن كابل مُستعدّة لذلك، فليس من الصعب مواصلة القتال”.[7]
بموجب ذلك بدأت تتضح أسباب انهيار مسار المباحثات التي توقّفت – في نهاية المطاف – دون إعلانٍ رسمي من قبل أطرافها، وتمّ توجيه الأنظار إلى الداخل الأفغاني حيث ظهر بشكلٍ ملحوظ أنّ إدارة بايدن لم تعد تهتم إلّا بـإجلاء رعاياها من أفغانستان، لا سيما بعد ارتفاع المُهددات والهواجس الأمنية على خلفية انسحابها من القواعد العسكرية في البلاد؛ مثل قاعدة باغرام، إلى جانب إخلاء قِطع عسكرية ومراكز حيوية وقعت جميعها في أيدي طالبان دون قتال، سبقها تقدّمات ميدانية في الأطراف النائية والريفية لأفغانستان، حتى لوحظ – وفق مراقبين وشهود عيان – تسليم كثير من المناطق لطالبان دون قتال بموجب تفاهمات مسبقة نسجتها الحركة مع مكونات عرقية من خارج مكون البشتون؛ كالهزارة والطاجيك والبلوش والأوزباك والتركمان.[8]
وبناءً عليه حدث التحوّل الأهم في الشأن الأفغاني بالانتقال مما أُعلن عنه من تفاهمات سابقة إلى غير المُعلن؛ خصيصى بين إدارة بايدن وطالبان، آلت بشكل سريع وخلال أيام إلى دخول الأخيرة للعاصمة كابل مخالفةً كل التوقعات والسيناريوهات التي تكهّن بها المراقبون، حتى إنّ بعض التقييمات الاستخبارية التي توقّعت صمود كابل لستة أشهر عَدّلت من تقييمها للأوضاع الأفغانية أكثر من مرّة، وفشلت في نهاية المطاف في تقديم إحاطةٍ دقيقة بحقيقة الواقع الميداني،[9] بدليل أنّ كابل سقطت خلال ساعات حتى قبل دخول أي مقاتل من الحركة إليها، وهو ما شكّل عامل صدمة للعالم دفعت كبار المنظّرين للبحث عن حقيقة ما جرى، لا سيما بعد انتقال مسار الأزمة من ترتيبات انتقال سلطة سلمي إلى إدارة أزمة طوارئ في كابل.
ثانيًـا: المُعلن عنه والمجهول في سقوط كابل:
لعلّ أكثر ما حيّر المراقبين للحالة الأفغانية هو السؤال عن كيفية وأسباب تلاشي جيش تعدداه يفوق 250 ألف مقاتل مُجهز بأفضل الأسلحة، فوفقًا لِعدة تقديرات أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 88 مليار دولار على الجيش الأفغاني في الفترة بين (2001-2021)، ومع ذلك لم تُظهر القوات أي مقاومة أمام تقدّم حركة طالبان، بل في غالبية الولايات والمقاطعات سَلّمت أسلحتها وعتادها لعناصر الحركة، وما تبقى من قوات كانوا بطبيعة الحال قد هربوا إلى دول الجوار، من بينهم طيارون أفغان وضباط وعناصر في جهاز الاستخبارات والشرطة؛ خوفًا على أنفسهم من عودة طالبان.[10]
من ناحية أخرى أثير تساؤل عن سبب خضوع حكومة الرئيس بايدن لإدارة من أكبر عملية إجلاء طارئة في تاريخ الولايات المتحدة ولماذا لم تكن هناك خطط مُعدَّة مسبقًا لعمليات الانسحاب؟ وهل ما جرى في كابل خضع لتفاهمات غير معلنة، وبالتالي تمّ تنفيذ عمليات انسحاب وتسليم متفق عليها مسبقًا؟ أم أنّ طالبان فرضت واقعًا جديدًا وأجبرت الولايات المتحدة على تقبلّه؟ وهل ما حدث في كابل يُعمّم على وقائع إقليم بنجشير؛ فلم يشهد أيضًا معارك ومقاومة كبيرة أمام طالبان، بالرغم من أنّ بعض المناوئين لطالبان – كأحمد مسعود نجل الزعيم الراحل أحمد شاه مسعود زعيم “جبهة المقاومة الشعبية” -، وبعض قادة الحرب القدامى، كعبد الرشيد دوستم الزعيم الأوزبكي، والمنشقين عن شبكة حقاني/ طالبان، وما تبقى من جماعة محمد عطا نور – الذي كان حاكمًا سابقًا لمقاطعة بلخ شمال أفغانستان -، وإسماعيل خان، وزعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، بالإضافة إلى كتلة أشرف غني، ومستشاره ووزير دفاعه وكذلك نائبه أمر الله صالح؛ كانوا جميعًا قد أطلقوا تعهدات وتصريحات بإحياء تحالف الشمال لمواجهة طالبان،[11] وبرغم كل ذلك سقط إقليم بنجشير بيد طالبان خلال أيام، بل أعلنت طالبان عن أول تشكيل لحكومتها بتاريخ 7 من أيلول /سبتمبر 2021.
تباينت الآراء حول هذه المسألة وتفسيرها، وعليه يمكن الحديث عن فرضيتين ربما تقدم إحداهما تفسيرًا منطقيًّا لمجريات الأحداث في كابل.
الفرضية الأولى: تدور حول أنّ ما جرى بين أمريكا وطالبان هو عملية استلام وتسليم كامل لأفغانستان تمَّ التوصل إليه في اتفاقية سريّة أو ضمنيّة غير مُعلن عنها، رجّح بعضهم أنها ملحق سريّ لاتفاقية شباط /فبراير 2020، وألمح بذلك مايك مارتن المسؤول الأمريكي السابق بقوله: “اتفاق فبراير كان صفقة خروج، وليس اتفاق سلام”[13]، فيما رجح آخرون أنها اتفاق سريّ منعزل عن اتفاق الدوحة.
ويستند دعاة هذا الطرح إلى أنّ أمريكا هدفت من ذلك إلى إعادة أفغانستان للمربع الأول؛ أي ما كانت عليه قبل عشرين عامًا، ولتحقيق ذلك يجب أولًا: القضاء على حكومة أشرف غني التي كانت سببًا في عرقلة محادثات السلام في الدوحة، وتحويل البلاد إلى ساحة فوضى تُزعزع أمن واستقرار الدول المنافسة للأمريكيين كالصين وروسيا.[14]
توجد معطيات سياسية وعسكرية تدعم هذا الطرح كما يلي:
إلى جانب إدراك الولايات المتحدة أنّ مشروعها وتجربتها في أفغانستان على مدى عشرين عامًا فشلت، باعتراف كثير من كبار المسؤولين الأمريكيين،[15] فقد لجأت إلى تحقيق فراغ أمني واقتصادي وسياسي في أفغانستان بشكلٍ يصعب على أي طرف داخلي مَلؤه – في إشارة إلى حكومة غني وطالبان معًا – فعلى صعيد سياسي قضت أمريكا على مؤسسات حكومة أفغانستان بما فيها مؤسستا الاستخبارات والجيش عن طريق سحب الكوادر وأصحاب الكفاءات والمتعاونين معها، وقامت بإيصالهم إلى الولايات المتحدة مع الذين تم إجلاؤهم بتعداد وصل لـ 125 ألف شخص، استنادًا إلى الأرقام المعلنة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 15 إلى 30 من آب /أغسطس 2021.[16]
ميدانيًّا: قامت واشنطن بسحب ما أمكنها من معدّات عسكريّة مهمّة، ودمّرت أخرى من مركبات وطائرات ورادارات وأبراج مراقبة ومدرجات طائرات ومبان، حتى لا يستطيع أحد الاستفادة منها بعد خروجها، وقد برّرت الولايات المتحدة ذلك بادعاء خوفها من وقوع هذه المعدات بأيدي الجماعات “الإرهابية”، على اعتبار أنه لا يوجد من الجيش الأفغاني من هو مؤهل لتشغيلها! وهذا بحد ذاته يضع الولايات المتحدة في تناقض، ويكشف دعاياتها في تدريب وتأهيل الجيش الأفغاني على أحدث أنواع الأسلحة وبرامج التدريب خلال عقدين ماضيين.[17]
إلى جانب ذلك وجّهت أمريكا ضربةً للاقتصاد المالي الأفغاني لمنع طالبان الاستفادة منه، فجمّدت كل الأرصدة المالية التي يمتلكها البنك المركزي الأفغاني المودعة في الولايات المتحدة بمقدار 9.5 مليار دولار، كما جمّد صندوق النقد الدولي 455 مليون دولار لأفغانستان بحجة عدم وضوح مستقبل البلاد السياسي.[19] لكن في حقيقة الأمر ستعمل أمريكا على استخدام هذه الأوراق المالية وسيلةَ ضغطٍ وابتزاز مستقبلي لحكومة طالبان بما بتناسب مع توجهاتها القادمة في كامل منطقة جنوب وشرق آسيا دون الاقتصار على أفغانستان.
كذلك لوحظ أثناء تنفيذ انسحاب الجنود الأمريكيين من مواقعهم العسكرية، أنهم لم يُنسقوا مع القوات المحليّة الأفغانية، فعلى سبيل المثال عندما غادرت القوات قاعدة باغرام الاستراتيجية كان من المُقرر أن تُسلّم للجيش الأفغاني، لكن القادة العسكريين الأمريكيين اختاروا عدم الكشف عن موعد مغادرتهم. ومصادر أكدت أن القادة الأفغان لم يعلموا بالمغادرة إلّا بعد ساعات منها، وهو الأمر الذي تسبّب في تعزيز مشاعر الخذلان عند القادة العسكريين الأفغان، فقرروا الهرب وإفساح المجال لطالبان في استلام القاعدة دون قتال.[20]
وبنفس السياق أخبر بعض القادة الأفغان المحليين مراقبين سياسيين أفغان مقيمين في الخارج، أنّ عددًا من قادة الجيش أكدوا أنهم انسحبوا من مواقعهم العسكرية بناءً على أوامر من المسؤولين الأمريكيين، وهو الأمر الذي سهل لطالبان دخول العاصمة كابل وإعلانها “خطاب النصر” من داخل القصر الرئاسي.[21]
الفرضية الثانية: تتمثّل في أنّ طالبان نجحت في إجبار الولايات المتحدة على التسليم بالواقع الجديد الذي هندسته بأساليب وتكتيكات جديدة لم تكن موجودة في فترة ولايتها الأولى ( 1996- 2001)، كنسج تحالفاتٍ مع رموز العشائر القبلية في المناطق الريفية النائية، وتحقيق توافقاتٍ مع جماعات عرقيةٍ من خارج مكون البشتون (أكبر مكون في أفغانستان – 45%)، لا سيما مع الأعداء القدامى للحركة من الطاجيك والأوزبك، وتحييد مكون الهزارة (شيعة)، إلى جانب فتح قنوات تواصل مع دول الجوار الأفغاني، والانفتاح عليهم في تدشين علاقات على أساس المصالح المشتركة؛ لأجل ذلك كثرت خلال العامين الماضيين زيارات ولقاءات وفود من طالبان لدول إيران وروسيا والصين وباكستان.[22]
كما لعبت طالبان – وفق هذه الفرضية – على تناقضات الداخل الأمريكي بين مؤسساته وإدارته واختلافهما على قرار الانسحاب من أفغانستان، وبالتالي استطاعت تجيير رغبات الولايات المتحدة لصالحها، وفرضت عليها – بشكلٍ أو بآخر – التنسيق معها في عمليات الإجلاء وحماية الرعايا والبعثات الدبلوماسية بعد انكشاف قوات الأخيرة بفعل الانهيار السريع للقوات الأفغانية.
كذلك استفادت طالبان من عوامل انعدام الثقة بين الولايات المتحدة والحكومات المتعاقبة على أفغانستان، سيما في عهدي حامد كرزاي وأشرف غني، إلى جانب توظيف ثغرات ضعف تلك الحكومات لصالحها وفشلها في تحقيق توافقات داخلية مع مكونات المجتمع الأفغاني، وتفشي الفساد بين المسؤولين، واستمالتها لبعض المحاربين القدماء كقلب الدين حكمتيار الذي أعلن في أحد تصريحاته أنه من الممكن التفاهم مع طالبان حول تشكيل الحكومة،[23] وإسماعيل خان الذي ظهر في صورة له مع قيادي طالباني بعد سقوط مزار شريف.
أيضًا فشل في إيقاف تمدد حركة طالبان على التراب الأفغاني قوات إقليم بنجشير الذي هرب إليه مناهضو الحركة؛ كنائب الرئيس أمر الله صالح، وعبد الرشيد دوستم، وعطا محمد نور الذي ذَكر في مقطع مُسرب له من أوزباكستان “أنّ الجيش لم يُقدّم الدعم المطلوب، مضيفًا أنّ مؤامرةً مُدبرة كانت وراء ذلك، ما أدى إلى سيطرة طالبان على كامل أفغانستان بسرعةٍ غير متوقّعة، ودفعها لتحقيق انتصارات دون أن تُواجه أي عقبات حقيقة”.[24]
كل هذه الظروف أتاحت لطالبان إحكام قبضتها على أفغانستان، لكن ليس بعامل السلاح، بل بسبب الانهيار السريع لقوات الجيش الأفغاني ومؤسساته الأمنية والعسكرية، وفقدانه لمقومات وإرادة القتال والمواجهة، وعدم رغبته بنفس الوقت في الدفاع عن حكومة أشرف غني التي همّشت العسكريين، ومنعت عنهم رواتبهم ومستحقاتهم المالية، بهدف البقاء في السلطة، وجني ثروات على حسابهم. الأمر الذي شكّل مُتنفسًا للرئيس جو بايدن في تحميل مسؤولية سقوط كابل لحكومة أشرف غني. كما وجّه الرئيس السابق حامد كرزاي سؤالًا لغني قائلًا له: “هل كان استيلاء طالبان على أفغانستان صفقة أم سوء إدارة؟”.[25]
وبنفس سياق الفرضية الثانية استفادت طالبان من الحسابات الخاطئة للولايات المتحدة في التعاطي مع عملية الخروج من أفغانستان، كعدم وجود خطط استراتيجية أثناء تنفيذ عملية الانسحاب، وهو ما اتضح خلال إعلان الولايات المتحدة خطة طوارئ لتنفيذ عمليات الإجلاء، والطلب من دولة قطر وباقي الحلفاء إنشاء شبكات متعدّدة لاستقبال المواطنين، كل ذلك حدث بسبب توقعات خاطئة لوكالات الاستخبارات أفادت بصمود حكومة كابل لشهور بعد إنهاءٍ كاملٍ لعمليات الإجلاء، حتى إنّ الرئيس الأمريكي كان يُعول على الجيش الأفغاني في حماية العاصمة. وفي أحد تصريحات جون كيربي المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكي أشار إلى أنّ القوات الأفغانية تمتلك القدرة والميزة العددية والقوة الجوية للصمود والمواجهة أمام طالبان.[26]
شكّل التباين داخل المؤسسات الأمريكية في تأزم الوضع داخل أفغانستان، لا سيما في الخلاف الذي دار طويلًا حول إبقاء قوات عسكرية محدودة، لمساعدة القوات المحلية الأفغانية، والتعامل مع احتمالات عودة التنظيمات المتشدّدة، الأمر الذي أدى إلى الانتقال من إدارة عملية انسحاب أمريكي إلى إدارة أزمة سقوط كابل في يد طالبان، وضرورة التعامل معها والتنسيق والتعمية على ذلك، وتبريره في الداخل الأمريكي بذرائع إنسانية ودبلوماسية وحملاتٍ إعلامية لمخاطبة الرأي العام الداخلي، وصرف أنظاره عن أخطاء وفشل بلاده في أفغانستان.[27]
بطبيعة الحال تتضمن كل واحدة من الفرضيتين جزءًا من الحقيقة، مع ترجيح أن الفرضية الأولى هي الأقرب للحقيقة؛ فدخول طالبان كابولَ دون مقاومة، والعامل الزمني القصير، وحجم الفساد داخل حكومة أشرف غني، يستحيل أن تُشكل سيناريو قسريًّا على الولايات المتحدة، بل هي من اختارت الانسحاب بالتنسيق المباشر مع طالبان والتخلي عن حكومة أشرف غني.
ومهما ظهر من اختلاف في آليات وطريقة التعاطي الأمريكي مع أفغانستان، فالنتيجة الواضحة هي أنّ طالبان سيطرت على أفغانستان دون عمليات قتالية واسعة، وأعلنت من داخل قصر كابل عودة “الإمارة الإسلامية” في أفغانستان، وفي 7 من أيلول /سبتمبر 2021 كشفت عن تشكيلتها الحكومية التي غلب عليها الطابع البشتوني لقيادات الحركة القدماء منهم والجُدد، ما سيضعها أمام تحدّيات مستقبلية داخليًّا وخارجيًّا سيكون عنوانها: كيفية التوفيق بين مرتكزاتها الفكرية والممارسة السياسية الواقعية، وهو ما سنوضحه فيما يلي تباعًا.
ثالثا: طالبان بين الفكر والممارسة السياسية (تحدّيات):
عودة طالبان وتصدّرها المشهد السياسي في أفغانستان بعد سقوطها مع الغزو الأمريكي عام 2001، يضعها أمام مقاربةٍ ومراجعةٍ باتت ضروريةً لمعرفة حجم التغيير الذي طالها على صُعد الفكر والسياسة والخبرة العسكرية، فالحركة اليوم أمام فرصةٍ حقيقةٍ تحتاج لاستثمارها عمليًّا إذا ما أرادت أن يُكتب لها النجاح في إدارة بلد مُتعدّد العرقيات والتحدّيات كأفغانستان.
طالبان من خلال تتبّع سلوكها الأخير، وبالتوازي مع تمدّدها في البلاد، أظهرت سلوكًا جديدًا ومغايِرًا لما كانت عليه في ولايتها الأولى.. آنذاك، وفي عام 1996 كانت نزعة الانتقام من الخصوم طاغية على الحركة، فقتلت الرئيس نجيب الله بتهمة تخاذله مع السوفييت، وأقامت محاكم ميدانية، ومنعت النساء من الدراسة، مُستمدةً أحكامها من منطلقات فكريّة خاصّة بها في تفسير الشريعة والعقيدة الإسلامية، وترتكز على فهمها للمذهب الحنفي والعقيدة الماتريدية التي أسسها الإمام أبو منصور الماتريدي.[28]
إن طالبان، مهما اتفقنا أو اختلفنا معها، قد أصبحت أمرًا واقعًا، وهو ما تأخذه الحركة على مَحمَل الجِد، وتسعى لتعزيزه والبناء عليه؛ بهدف نيل الشرعية السياسية الدولية، ولأجل ذلك سعت لإظهار سلوكيات جديدة، فعندما استتبّ الأمر لها هذه المرة، أظهرت تطمينات للداخل والخارج، تجلّت خلال سلسلة مواقف، وتصريحات المتحدثين باسمها.[29]
داخليًّا: أصدرت الحركة عفوًا شاملًا لا يتضمن فقط المواطنين الأفغان الذين تعاملوا مع الاحتلال، مثل المترجمين وغيرهم، أو الجنود الذين حاربوا الحركة، بل لجميع مسؤولي الحكومة الأفغانية السابقة أنفسهم، بمن فيهم الرئيس أشرف غني، وأكّدت أنه يمكنهم العودة والعيش في أفغانستان، كذلك أعطت تطمينات لضمان حرية وحقوق المرأة، والسماح لها بالتعلّم والعمل ضمن حدود معينة لا تُخالف تفسيرهم للشريعة.
كذلك تعهدت طالبان بإشراك جميع المكونات والعرقيات الأفغانية في بناء بلدهم، بعيدًا عن سياسة الإقصاء والاستئثار بالسلطة، إلى جانب الانفتاح على وسائل الإعلام – بخلاف ما كانت عليه في ولايتها الأولى التي اقتصرت فيها على إذاعة بيانات وتعليمات الحركة وبث خطب قادتها ومحاضراتهم.[30]
وخارجيًّا: قدّمت تطمينات لكل الدّول؛ سواء المتعاونة معها في الجوار الأفغاني، وحتى الأوروبية والغربية، تمثلت بالتعهد على حرصها حماية البعثات الدبلوماسية، وضمان أمن الحدود، ومنع تسلّل المتشدّدين، والحفاظ على حقوق الإنسان، وغيرها من الأمور والشروط التي شدّدت عليها أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي.
وقد تعدّدت الآراء حول هذه المسألة، انطلاقًا من تساؤل مفاده: هل سلوك طالبان والمرونة التي أبدتها خلال الأعوام الأخيرة ناتجة عن قناعات جديدة لديها، وبالتالي قرّرت الظهور بمظهر جديد يتناسب مع طبيعة العمل السياسي الواقعي، أم أنّ هذه المرونة هي تكتيك ناتج عن ضرورة حالية ومرحلية تريد توظيفها للحصول على الاعتراف الدولي؟
إنّ انفتاح طالبان المفاجئ، وإن كان نسبيًّا، لا يزال يُواجَه بتخوّف داخليّ وخارجيّ؛ وذلك أولًا بسبب: أنّ التشكيلة الحكومية التي أعلنت عنها غلب عليها طابعٌ تشدّدي من مكون البشتون، مع تطعيم بسيط من مكوني الطاجيك والأوزبك، وتحييدٍ كامل لمكون الهزارة، وتُبرّر الحركة هذا بأنه ضرورة المرحلة الحالية؛ لأنها تعتبر نفسها في واجهة المسؤولية “لإنقاذ البلاد والنهوض بها مُجددًا”. كذلك أثناء دخولها إقليم بنجشير ظهرت تسريبات عن حدوث تصفيات جماعية لمن تعتبرهم الحركة من المناوئين لها.[31]
وعلى صعيد التعهدات التي قدّمتها الحركة يرى البعض أنها لا تزال في إطارٍ نظريّ، وتحتاج لفترةٍ زمنية لإثبات صحتها، فيما رأى آخرون أنّ المرونة التي أبدتها الحركة – كالتطمينات التي قدّمتها للداخل والخارج – ناتجةٌ عن ضغوطٍ مورست عليها من قبل بعض الأطراف الخارجية؛ بمعنى أنّ طالبان استخدمت تكتيكًا مرحليًا، وألمحت بتغيير سلوكها لتحقيق أهداف مرحليّة.
وما بين هذا وذاك يبدو الميل الأرجح – في المدى المنظور – إلى أنّ طالبان أقدمت فعليًّا على تغيير نسبيّ ومبدئيّ في سلوكها بناء على قناعة وليس مجرد تصريحات، انطلاقًا من رغبتها في إنجاح تجربتها في أفغانستان هذه المرة. لكن المهمة الأصعب تكمن في استدامة هذا التغيير وتحويله إلى سلوك ونهج دائم، وصولًا للتوفيق بين أدبياتها الفكرية والممارسة السياسية الواقعية. وهي مهمة تبدو شبه مستحيلة إذا ما توقّفت الحركة عند المقدار المعلن عنه من التغيير، وكل ذلك لن يمنعها من مواجهة تحدّيات قادمة يمكن إيجازها في الآتي:
ملء الفراغ في مؤسسات الدولة: سُتواجه طالبان تحدّيًا كبيرًا في تعبئة مؤسسات الدولة التي تمّ تفريغها من الكوادر من قبل الاحتلال خلال عمليات الإجلاء؛ خصيصى المؤسسات الرسمية والسياديّة؛ الجيش والشرطة والاستخبارات. وبالنظر إلى إمكانيات الحركة، فإنّ تعدادها يصل من 80 إلى 100 ألف شخص، وهو رقم لا يمكن استيعابه أمام تعداد سكاني يصل إلى 45 مليون نسمة يحتاج إلى خدمات يومية.[32]
التحدّي الاقتصادي الكبير: وجزء منه ناتج عن الفراغ الذي أحدثه انسحاب الأمريكيين وحلفائهم؛ لأن الولايات المتحدة تدفع نسبة 80% من رواتب الموظفين والعسكريين واحتياجات المواطنين الأساسية من ماء وكهرباء وتكاليف برامج التنمية. الجزء الآخر متعلّق بكيفية استغلال ثروات البلد، فأفغانستان بلد غني بالثروات المعدنية، ويوجد به حوالي 40 نوعًا من المعادن بكميات مهمة، لكن لم يتم الاستفادة منها سابقًا بسبب تفشي الفساد بين المسؤولين، كما أنّ الاقتصاد الأفغاني قام على المساعدات الخارجية بنسبة 75٪، وهي أيضًا توقّفت مؤخرًا، إضافةً إلى تجميد احتياطات الحكومة الأفغانية المودعة في البنوك الأمريكية، بموجب ذلك ستُواجه حكومة طالبان تحدّيًا كبيرًا يتمثّل في اختبار قدرتها على إقناع المجتمع الغربي في دمج اقتصاد أفغانستان مع الاقتصاد العالمي؛ لأنه سيكون الحل الأسرع في نهوض البلاد اقتصاديًّا وماليًّا.[33]
الحفاظ على التماسك الداخليّ: وهو أحد أهم التحدّيات الأساسية لطالبان، فرغم أنّ الحركة يتكون أغلبها من مكون البشتون، إلّا أنها تحوي داخلها أكثر من تيار، أهمها تيار حقاني الذي يتزعمه أنس حقاني وسراج حقاني الذي عينته طالبان وزيرًا للداخلية بالوكالة في حكومتها الجديدة.
ويتعارض هذا التيار في توجهاته مع تيار آخر داخل الحركة يتزعمه الملا عبد الغني برادار نائب رئيس الحكومة بالوكالة، وهو من مؤسّسي حركة طالبان، وقد اختفى عن الأنظار منذ أوائل أيلول /سبتمبر 2021 لغاية لحظة كتابة التقرير، وأفادت تسريبات أنه قُتل جرّاء دخوله في اشتباك مسلّح مع أعضاء من شبكة حقاني، عقب ذلك ظهر تسريب صوتي بصوت برادار نفى مقتله، وأكد أنه على قيد الحياة. ودفعت هذه التطورات رئيس المخابرات الباكستاني فايز حميد إلى التوجّه بشكل سريع إلى كابل بتاريخ 11 من أيلول /سبتمبر 2021 للوقوف على حقيقة ما جرى، في إشارةٍ إلى دور باكستان وتأثيرها المحوريّ في تشكيلة الحكومة الجديدة وفقًا لعدة مصادر.[34]
ولا يزال الغموض سيد الموقف هناك، لكن بعض المصادر نقلت أن سبب إطلاق النار الذي تم التأكّد من حدوثه بتاريخ 10 من أيلول /سبتمبر صراع وخلاف على السلطة بدأ بين الملا عبد الغني برادار وأنس حقاني، فقد كان الأول متأملًا بحصوله على رئاسة الحكومة، والثاني عارض ذلك.
ومهما يكن شكل الخلاف بين الطرفين، فيبدو أنه سيُضيف تحدّيًا آخر على كاهل الحكومة التي سيكون على عاتقها أيضًا مهمة مواجهة المعارضين لها من الزعماء الذين هربوا إلى الشمال؛ كجماعة عبد الرشيد دوستم وأحمد مسعود وعطا محمد نور؛ إذ لا يزال بالإمكان إجراء عمليات تحشيد وإحياء لتحالف الشمال إذا ما ظهرت مقومات دعمٍ دوليّة لها للوقوف في وجه طالبان.
عودة التنظيمات المتشدّدة: لا يزال خيارًا دوليًا مطروحًا، فواقعة التفجيرات التي حدثت في 26 من آب /أغسطس 2021 في محيط مطار كابل، وتبنّيها من قبل تنظيم خراسان، تعد إنذارًا أوليًّا ينبئ عن عودةٍ محتملةٍ لبقية رموز القاعدة والتنظيمات المتشدّدة في أفغانستان؛ خصيصى إذا ما اقتضت حاجة بعض الدول إفشال تجربة طالبان في بالحكم، ونشر الفوضى في المناطق القريبة من الصين وطاجيكستان وأوزبكستان، مما سيؤول بشكل غير مباشر إلى مزيد من التدخل الدولي في شؤون أفغانستان، لاسيما من قبل دول الجوار التي ترتبط عرقيًّا مع مكونات عرقيّة داخل أفغانستان، وهذا يعني عودة الحرب الأهلية كما كانت في تسعينيات القرن الماضي.[35]
قضايا الحرية وحقوق الإنسان: تُواجه حكومة طالبان كذلك معضلة كبيرة في مسائل الحريات وحقوق الإنسان والمرأة، وهي التزامات تعهدّت بمراعاتها عبر رسائل التطمين للداخل والخارج، ويرى البعض أن التزام الحركة بتطبيقها يُخالف إلى حد بعيد ما تأسست عليه فكريًا، وربما يقودها ذلك لظهور معارضة من داخل الحركة، يُضاف لذلك أيضًا التشكيك في نوايا طالبان ذاتها والتزامها بمراعاة هذه القضايا بعد تواتر معلومات أفادت بقمعها لمظاهرة نسائية في كابل، إلى جانب ممارسة انتهاكات ضد المدنيين في إقليم بنجشير.[36]
الدستور والشرعية الدولية: وهما مسألتان من أصعب التحدّيات التي ستخضع لها طالبان، فالأولى -الدستور- تُعارضه الحركة، استنادًا لمنهجها وتفسيرها للشريعة الإسلامية التي تعتبرها أساسًا في إدارة البلاد، فهل ستخوض طالبان الحاكمة معركة قانونية مع شرائح المجتمع، وتخط دستورًا آخر وتعرضه للاستفتاء، أو حتى تمضيه بلا استفتاء؟
قد يكون وقوع هذا أمرًا صعبًا في الوقت الحالي، لكنه ليس مستبعدًا في المرحلة القادمة، فالحصول على الشرعية والاعتراف الدولي يعد حجر الأساس في تحركات طالبان على الصعيد الداخلي والخارجي، لكن لن يكون الأمر بهذه السهولة، فكل الدول – بما فيهم المتعاونون مع طالبان في قضايا تجارية وأمنية مشتركة كالصين وروسيا – لم يُبدوا رغبة شديدة في الاعتراف بها، أما أمريكا والمجتمع الأوروبي فقد وضعوا شروطًا لقاءَ هذا. من هنا لا بد من التنويه إلى أنّ مسألة التعامل والتعاون مع طالبان دبلوماسيًا وإنسانيًا شيء ومسألة الاعتراف بها أمر آخر؛ لأنها تخضع لمعايير دولية وقوانين عالمية لا يتسع المجال هنا لشرحها،[37] لكن يبدو بنفس الوقت أن ورقة الشرعية هي بيد الولايات المتحدة للضغط على طالبان بما يتناسب مع توجهاتها القادمة في المنطقة.
رابعًا: مواقف الدول الكبرى والفاعلة من عودة طالبان (مسألة الاعتراف والتعامل):
تُمثّل عودة طالبان إلى صَدارة المشهد الأفغاني تغيّرًا جذريًا ستنعكس آثاره على المنطقة والإقليم سلبًا أو إيجابًا في مدى غير بعيد، وستتغيّر موازين القوى مع بداية ظهور اصطفافات وتحالفات دولية باتت تتأهب للدخول في تنافس إقليمي لملء الفراغ في أفغانستان، وحجز نصيب من الثروات والمشاريع المتضاربة بين الدول. ولعل الرابط الأساس بين تلك الدول هو تحديد معايير وشكل علاقاتهم الجديدة مع طالبان.
وتزامنًا مع دخول طالبان القصر الرئاسي في كابل، ظهرت تحذيرات دولية من عواقب الاعتراف الفردي بالحركة؛ إذ وضعت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي معايير رئيسة للتعامل مع الحركة، من بينها: التزام الأخيرة بضمان حقوق الإنسان والمرأة، وتأمين إيصال المساعدات، وتأمين ممرات آمنة لخروج مَن يرغب من أفغانستان، وتشكيل حكومة شاملة لكل مكونات الشعب الأفغاني.
ومع الوقت بدا أنّ هذه المحددات لا تعدو كونها عوامل ضغط لا أكثر على طالبان؛ من أجل تليين مواقفها مستقبلًا، حيث ظهرت انقسامات بين الدول الأوروبية في طريقة تعاطيها مع طالبان، والتقت مواقف أخرى لدول الصين وروسيا وإيران وباكستان الذين رحبوا ضمنيًا بعودة طالبان، وأظهروا استعدادهم للتعاون معها في عدة مجالات، ويمكن استعراض هذه المواقف كما يلي:
الولايات المتحدة الأمريكية: هندست مقاربة خاصة للتعاطي مستقبلًا مع أفغانستان، ففي 20 من آب /أغسطس، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن في بيان رسمي: إنّ إدارة بلاده ستبقى على تواصل مع طالبان للتعامل معها في بعض القضايا[38]، لكن ذلك لن يعني الاعتراف بشرعية الحكومة؛ لأنّ الاعتراف مرهون بسلوكها ومدى التزامها بتعهداتها في الدوحة. معنى ذلك هو أنّ أمريكا ستُبقي بيدها أوراقًا ضاغطة على طالبان؛ مثل: مسألة الشرعية، وتجميد المساعدات والأرصدة المالية والمِنح، لغاية ظهور أول تقييم لها لنهج طالبان الجديد.
وحقيقة الأمر هي أن مسائل حقوق الإنسان والمرأة لا تعدو في السياسات الأمريكية أن تكون أدوات وذرائع تستخدمها أمام الرأي العام للتغطية على نواياها الرئيسة، فموضوع انسحابها من أفغانستان، وتعّمد إحداث فراغٍ كبيرٍ في المنطقة، يدخل في سياق تعديل أولويات الولايات المتحدة في الساحة الدولية؛ فبخلاف ما قِيل من أنّ انسحابها من أفغانستان جاء لأسباب مالية، وأعباء اقتصادية متزايدة في الداخل الأمريكي، وانتفاء أسباب الحرب في أفغانستان، فإنها – ومن منظور استراتيجي – أشعلت بذور الفوضى في أفغانستان، بهدف التفرّغ للحروب التنافسية مع الصين وروسيا في مناطق أخرى من العالم، وبالتالي ربما يسهم ترك الساحة الأفغانية – حسب اعتقادها – إلى إشغال منافسيها وإضعافهم.[39]
الاتحاد الأوروبي: يتماهى موقف دول الاتحاد “الرسمي” لحد ما مع الموقف الأمريكي في بند عدم التسرع بمنح طالبان الشرعية الدولية. وفي اجتماع لدول مجموعة السبع في أواخر آب /أغسطس المنصرم أقرّ الاتحاد عدم اعترافه بأي حكومة في أفغانستان حتى تُثبت التزامها بالمعايير الدولية،[40] لكن في العمق ظهرت تباينات بين دول الاتحاد نفسه، على أثر الصدمة التي تلقّاها من أمريكا التي لم تُشاركهم في قرارها بالانسحاب، وتركتهم يُواجهون تحدّياتهم الأمنية والاقتصادية بشكلٍ منعزلٍ عنها.
كبرياء دول الاتحاد لم يَدم طويلا مع اتساع خيبة الأمل من الحليف الأمريكي؛ فبعد سقوط العاصمة كابل، سارعت ألمانيا وفرنسا لاتباع سياسة توافقية براغماتية بشكل يتناسب مع الواقع الجديد، فرنسا قالت إنها ستفعل كل ما في وسعها لمساعدة روسيا والولايات المتحدة وأوروبا على التعاون بشكل فعال في ردع الهجرة غير النظامية والإرهاب.
علاوة على ذلك اعتبر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، أنّ “طالبان ربحت الحرب”، مضيفًا: “علينا أن نتحدث معهم من أجل الإسراع في إطلاق حوار ضروري غرضه تجنب كارثة إنسانية محتملة، وربما كارثة هجرات”.[41]
وفي الوقت الراهن تعمل فرنسا وألمانيا على إنشاء منصة يقودها الاتحاد تخص دول جوار أفغانستان؛ بهدف تنسيق مواقفهم في أفغانستان، وعدم ترك الساحة لروسيا والصين. وأما بريطانيا، فتتحرّك في الموضوع الأفغاني بشكلٍ منعزل، وتحث المجتمع الدولي على الاعتراف بالأمر الواقع والتعامل مع طالبان على أنها حقيقة لا مفرّ منها.
على صعيد أوروبي داخلي تسارعت الاقتراحات في اجتماعات عُقدت ببروكسل أيلول /سبتمبر 2021 حول ضرورة تحقيق استقلال ذاتي أوروبي، وتأسيس قدرة دفاعية مستقلّة عن المظلة الأمريكية. وانطلاقًا من هذه المواقف يبدو أن دول الاتحاد باتت مضطرة للتدخل السريع لحماية أمنها القومي، بهدف تقليل مخاطر الهجرة غير الشرعية، وخطر الجماعات الراديكالية التي تتاح لها فرصة لإعادة التدوير بعد تطورات أفغانستان.[42]
لكن من غير الواضح ما إذا كان الاتحاد سينجح في رأب صدع الانهيار السريع في أفغانستان في ظل حالة الانقسام التي يمرُّ بها، وفي نفس الوقت فإنّ النهاية الدراماتيكية لمشاركة قواتهم ضمن حلف الناتو في أفغانستان، ستثير حتمًا مسألة مصير تدخلاتهم العسكرية لجيوشهم في مناطق مختلفة من العالم، لأجل ذلك ازداد الضغط على الأوروبيين للانخراط في إدارة الأزمات؛ خصيصى في جوارهم الحيوي، وذلك بعدما اتضح لهم أنّ مهمة أفغانستان أثبتت مدى فشل سياساتهم في الاعتماد على الولايات المتحدة.
باكستان: موقفها الرسمي جاء مرحبًا بعودة طالبان، حيث اعتبر رئيس الوزراء عمران خان أنّ ما جرى في أفغانستان هو كسر الأفغان لقيود العبودية،[43] في إشارة إلى هيمنة السياسة والثقافة الغربية التي كانت مفروضة عليهم؛ كذلك أقرّت لجنة الأمن القومي عبر بيان رسمي لها بأنّ طالبان تجنّبت العنف في أفغانستان.
وعلى صعيد آخر لم تعترف باكستان رسميًا بحكومة طالبان، وثمة خبراء يرون أنّ باكستان تُدرك أن إدارة طالبان إذا لم تشارك مستقبلًا الحكم مع كل مكونات الشعب، فسوف تتعرّض لعقوبات غربية، مما سيدفعها للتحوّل إلى عبء أكثر من كونها مصدر قوة؛ لأجل ذلك فإن إسلام آباد وإن أظهرت ترحيبًا بعودة طالبان، لكنها ستبقى متردّدة في الاعتراف بها بشكل أحادي، ولن تُقدم على هذه الخطوة إلّا بعد التشاور مع دول الترويكا الموسعة التي تشمل الولايات المتحدة والصين وروسيا.
بنفس الوقت لن تستعجل إسلام آباد الاعتراف بحكومة طالبان ما دامت لها ذراع كبيرة مؤثرة داخل أفغانستان (الاستخبارات الباكستانية لها تاريخ كبير في العلاقة مع أفغانستان منذ تسعينيات القرن الماضي) تستند إليها في ترتيب مصالحها مع أفغانستان والحكومة الجديدة.
ومع صياغة باكستان لمقاربتها تجاه أفغانستان على هذه الصورة، فإن أولويتها ستكون في المقام الأول الحفاظ على أمنها القومي، فمن منظور تنافسها التاريخي مع الهند، تُراقب الاستخبارات الباكستانية عن كثب طبيعة تحركات الحركات المناوئة لها – طالبان باكستان -، ومن المرجّح أن يكون للكثير من الأطراف مصلحة في إحياء النزاعات ودعم الجماعات القديمة لضرب خط التنسيق التحالفي والتجاري بين باكستان والصين.[44]
الأولوية الأخرى لباكستان في أفغانستان هي الحفاظ على العلاقات الاقتصادية معها، حيث تعتبر الأراضي الباكستانية بوابة أفغانستان الاقتصادية الرئيسة منذ عام 2010 الذي شهد توقيع اتفاقية بين كابول وإسلام آباد تنص على السماح للأولى باستخدام الأراضي والموانئ الباكستانية لتمرير سلعها التجارية، في حين يمكن لباكستان استخدام الأراضي الأفغانية للوصول إلى جمهوريات آسيا الوسطى، مع شرط عدم استفادة الهند من هذه الاتفاقية بعدم إيصال البضائع الهندية إلى باكستان.
الهند: تغيّر المعادلات السابقة في أفغانستان يعد نكسةً وخسارة استراتيجية للهند التي لم ترحب بعودة طالبان، بل أغلقت سفارتها في كابل، وأجلت رعاياها من أفغانستان. كل ذلك بسبب فقدانها حليفها السابق أشرف غني الذي دعمته ضد طالبان، فضلًا عن عودة مخاوفها على مصالحها الاقتصادية والاستثمارات الكثيرة مع أفغانستان بما يقارب 3 مليارات دولار منذ تطبيع العلاقات مع حكومة ما بعد طالبان في عام 2002. كما ساعدت الهند في بناء البنية التحتية والقدرات المؤسسية في أفغانستان، واستمرت في تأكيد دعمها لدستور عام 2004.[45]
على صعيد آخر تنظر نيودلهي لموضوع صعود طالبان من منظور صراعها مع باكستان وتقاربها مع الصين؛ ففي عام 1996 – عندما اجتاح مقاتلو الحركة لأول مرة كابول بدعم من باكستان -، بدأت الهند في دعم مقاتلي التحالف الشمالي الذين كانوا يقاومون حكم طالبان. وبعد تدخل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي “الناتو” في أفغانستان في أعقاب هجمات 11 من أيلول /سبتمبر 2001، أبقت الهند قواتها الأمنية خارج أفغانستان، حيث لم ترغب الولايات المتحدة في أن تصبح البلاد ساحة خلاف أخرى بين نيودلهي وإسلام آباد، لكن نيودلهي عادت وعمقت علاقاتها الاقتصادية والأمنية بالدولة الأفغانية بعد وقت قصير.
اليوم تُواجه نيودلهي مخاطر وتحدّيات استراتيجية، أهمها احتمال عودة أفغانستان ملاذًا آمنًا للجماعات الراديكالية، وعلى رأسها جيش محمد وعسكر طيبة – مقرّهما باكستان – وتعني عودتهما استهداف الهند والضغط عليها للانسحاب من القطاع الكشميري الذي تحتله، لا سيما بعد ورود تقارير ألمحت إلى تقارب هذه الجماعات مع طالبان في الأشهر الأخيرة[46]؛ لذلك تزداد خشية الهند من تسلّل تلك الجماعات إلى كشمير مما يؤدي إلى المزيد من الأنشطة العسكرية ضدها.
المعضلة الكبرى أمام الهند في الوضع الأفغاني تتمثل في الاتفاق على آلية وصيغة توافقية مع طالبان لحماية مصالح نيودلهي التي سارعت في الفترة الأخيرة بالفعل لإيجاد قنوات تواصل مع طالبان، فقد زار وفد هندي برئاسة وزير الخارجية جاي شانكار الدوحة لمقابلة زعماء طالبان في حزيران/ يونيو الماضي، كما التقى دبلوماسيون هنود زعماءَ طالبان في موسكو، وبرغم ذلك لم تلقَ هذه اللقاءات أي صدى فعلي من طالبان حتى الآن.
ومن ذلك يتضح أن الهند خرجت من دائرة المسألة الأفغانية باعتبارها لاعبًا أساسيًا فيها؛ بسبب أنّها بنت نظريتها الجيوسياسية سابقًا على أساس أن النظام الأفغاني المعادي لباكستان سيستمر في كابل، لكنها الآن ستضطر إلى إعادة النظر في تحالفاتها؛ كون الانسحاب الأمريكي من أفغانستان خلق فراغًا تحاول باكستان والصين وروسيا وإيران ملأه، في حين أن الهند لن يكون بمقدورها فرض إرادتها هناك على الآخرين؛ فهي ليست قوة عظمى، لكنها ستبقى لاعبًا مؤثرًا من الخلف تعمل بكل إمكاناتها للحفاظ على الحد الأدنى من مصالحها في أفغانستان.
الصين: أبدت بكين ترحيبًا واضحًا بعودة طالبان، من خلال موقف رسمي عبّر عنه كبار مسؤوليها، مؤكدين على استعداد بكين بناء علاقاتٍ جيدةٍ مع الحركة، وتقديم مشاريع استثمار لها في مجال التعدين، كما أعرب وزير خارجيتها وانغ يي عن رغبة بلاده في تحقيق الاستقرار في أفغانستان. بدورها طلبت طالبان بشكل مباشر المساعدة من الصين، لا سيما في مجال إعادة تحريك الاقتصاد الأفغاني.
بكين، وبرغم موقفها الرسمي، فإنها في نفس الوقت أكدت على أهمية استمرار مكافحة “الإرهاب” وحث طالبان على ذلك، خصيصى في ممر واخان الرابط بين البلدين.[47]
وفيما يتعلق بحكومة طالبان، أكدت بكين على قضيتين حتى الآن؛ الأولى: تعتقد أن الطريق إلى الاستقرار الداخلي الأفغاني يتم من خلال تسويةٍ سياسية تشارك فيها طالبان السلطة بشكل كافٍ مع “جميع الفصائل والجماعات العرقية” في أفغانستان، والثاني: دعت طالبان إلى الانفصال عن حركة تركستان الشرقية الإسلامية التي تُهدد أمنها القومي في إقليم شينجيانغ. وبرغم أنّ طالبان وجّهت رسائل تطمين للصين في هذا الصدد، فإنّ الأخيرة لا تزال متوجسةً ومتخوفة من طالبان وعدم التزامها بما وعدت به.
تهتم الصين بتحقيق الاستقرار في أفغانستان، وتُشدّد كثيرًا على أهمية ضبط الوضع الأمني والحدود في البلاد؛ كون ذلك ركيزة أساسية لتحقيق الأمن الاقتصادي لمصالحها في أفغانستان، وأهمها ضمها لمبادرة الحزام والطريق، وتفعيل خط التجارة مع إيران عبر أفغانستان بموجب الاتفاقية الموقّعة بين الطرفين الصيني والإيراني لـ 25 عامًا.
بناءً على ما سبق، ستراقب بكين تحركات طالبان عن كثب في الأسابيع والأشهر المقبلة، وكذلك تحركات الجهات الفاعلة الدولية؛ لتحديد مقاربةٍ عملية أوضح في التعامل مع أفغانستان، لكن إذا تدهور الوضع الأمني في أفغانستان بشكلٍ كبير، وشعرت الصين أنّه لا يمكنها الاعتماد فقط على حكومة طالبان أو باكستان لضمان سلامة مشاريعها ومواطنيها في المنطقة، فقد تفكر الصين في الانخراط عسكريًا عبر تطوير علاقات مع الفصائل الأفغانية الموجودة على الأرض.[48]
روسيا: اتبعت موسكو سياسة نشطة وحذرة بنفس الوقت مع طالبان، الموقف الرسمي جاء مرحبًا بالحركة، ووصف قادة طالبان بـ”الأشخاص العقلاء”، وسبق أن جهزت موسكو لهذا اليوم من خلال سجل علاقاتها خلال العامين الماضيين مع طالبان.
لم تستبعد روسيا إجراء اتصالات مع طالبان كذلك، ويبدو أن اعترافها رسميًا بطالبان مرهون بذريعة شطب مجلس الأمن المجموعة من قائمة عقوباتها، وكذلك رهن بالتأكيد على أن مصالحها لن تتعرّض للتهديد من قبل دول الجوار، إلى جانب مكافحة مسألة المخدرات والتهريب.
موسكو – تماشيًا مع الصين وباكستان – رأت في الانسحاب الأمريكي فرصةً لتوسيع نفوذها في المنطقة، ولا سيما مع دول آسيا الوسطى، حيث تتمثّل المصالح الرئيسة لروسيا في آسيا الوسطى في تعزيز الأمن والتعاون العسكري التقني، والاستثمار في قطاعي الطاقة والغاز، وتقوية المؤسسات مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.[49]
إيران: بخلاف علاقاتها القديمة العدائية مع طالبان، فهي اليوم بموقف آخر جاء مرحبًا بعودتها، كذلك أبقت سفارتها في كابل مفتوحة ونشطة بكامل تشكيلاتها، بالإضافة إلى القنصلية العامة الإيرانية في مدينة هرات، وتوصّلت لتفاهمات سابقة مع طالبان حول “حماية المراقد الشيعية”، وهو ما اتضحت بعض نتائجه بعدم حدوث أي حالة اعتداء على الهزارة الشيعة ومراقدهم في أفغانستان، بعكس ما حدث في واقعة مزار شريف في تسعينيات القرن الماضي.[50]
ولإيران كذلك علاقات تجارية واقتصادية مع أفغانستان، إلا أن طهران – وبرغم حالة الاحتفاء بعودة طالبان – تشعر بالقلق من أن عدم الاستقرار والمشاكل الاقتصادية المجاورة قد تمتد إلى أراضيها؛ فهي تشترك بحدود طولها 921 كيلومترًا مع أفغانستان التي هي خامس أكبر سوق تصدير لإيران، ويجمعهما نهر هلمند الذي تتخوف إيران من عودته لدائرة الضغط والابتزاز.
وفي نفس الوقت أبدت إيران انزعاجها من تشكيل الحكومة لدى طالبان؛ بسبب اقتصارها على مكون البشتون وتحييد كامل للهزارة، وبالتالي هناك حالة عدم يقين لدى النظام الإيراني من ألا تلتزم طالبان بمنع تحويل الحدود المشتركة إلى شريط ملتهب من هجرات متدفقة أفغانية قادمة، ومسائل التهريب، وعمليات تستهدفها.
خاتمة:
مثّل خروج الأمريكيين وحلفائهم من أفغانستان تحولًا استراتيجيًا في توجهات الولايات المتحدة في المنطقة، وجاء القرار ضمن سياق استراتيجية شاملة مرتكزة على تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط وبحر العرب، وتراجع مرتبة الشرق الأوسط عن مرتبة الأولوية والمركزية، مقابل توجيه الاهتمام لمناطق أهم لهم حول العالم بما فيها منطقة القطب الشمالي والمحيطين الهندي والهادي.
ستزداد التفاعلات في أفغانستان في اتجاهات داخلية أمنية وسياسية واقتصادية، وستتغّير معادلات القوى في المنطقة والإقليم بعد عودة طالبان إلى صدارة المشهد السياسي للمرة الثانية، وإن بدا صعود طالبان لصدارة المشهد الأفغاني بتوافق أو خيار دولي للمتغيرات الجديدة في المنطقة، إلّا أنّ التحدّيات التي ستُخوضها الحركة داخليًا وخارجيًا، ستكون بمثابة اختبار لمدى مصداقيتها والتزامها في تعهداتها التي قدّمتها لكل الأطراف الحليفة والمعادية لها. يبقى الرهان القادم محصورًا في مدى نجاح أو فشل طالبان في كيفية تحقيقها توافقات بين مبادئها الفكرية والممارسة السياسة الواقعية مع دول الجوار الأفغاني والدول الفاعلة والمؤثرة في الشأن الداخلي، التي رأت في انسحاب أمريكا فرصةً لتعزيز حضورها الأمني والاقتصادي والسياسي.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021
What Does the Fall of Saigon Really Have to Teach Us About Afghanistan.
AUG 16, 2021.
Chaos at Kabul Airport as thousands scream for help to escape the Taliban .euroweekly. 18 August 2021.
US says drone kills suicide bombers targeting Kabul airport. Aljazeera. 29 Aug 2021.
Was Biden handcuffed by Trump’s Taliban deal in Doha. AP NWWS. August 19, 2021.
Communiqué of the Special Envoys and Special Representatives of the European Union, France, Germany, Italy, NATO, Norway, the United Kingdom and the United States on the Afghan Peace Process. 07.05.2021.
Biden administration tries to mobilize international diplomatic effort to halt Taliban. The washinton post. August 11, 2021.
Withdrawal of military forces in Afghanistan and its implications for peace. House of Commons Library. 17 August, 2021.
[8] مقابلة أجراها الباحث مع باحث أفغاني مطلع على الوضع الميداني في أفغانستان والعاصمة كابل.
Afghanistan disaster puts intelligence under scrutiny. THE HILL. 8-18-2021.
Analysis: Why did Kabul fall so easily into the Taliban’s hands. Euronews. 20/08/2021.
A New Northern Alliance Against The Taliban Is Forming In Afghanistan’s Panjshir Valley.
Taliban announce formation of new interim government. Independent. September 7.9.2021
[13] https://on.ft.com/3CfNEdy
Mistrust and mysterious surrenders: how Kabul fell to the Taliban. Financial times.
لإنقاذ مستقبل أفغانستان: حاجة ماسَّة لإطلاق حوار وطني، الجزيرة للدراسات، 8-أيلول/ سبتمبر 2021.
Intelligence failure of the highest order’ — How Afghanistan fell to the Taliban so quickly. CNBC. AUG 16 2021.
Biden Defends Afghan Pullout and Declares an End to Nation-Building. The new York times.
Updated Sept. 3, 2021.
التعامل المهين لأمريكا مع حلفائها أثناء الانسحاب من أفغانستان، مركز الدراسات الاستراتيجية لأفغانستان في كابل، 9- أغسطس 2021.
الجزيرة نت ترصد التخريب الأميركي للطائرات ومرافق مطار كابل العسكري، تاريخ الدخول، 15- أيلول / سبتمبر 2021.
مرجع سابق
[20] https://on.ft.com/3CfNEdy
مرجع سابق
كيف سقطت العاصمة كابل: انهيار أم صفقة، الجزيرة للدراسات، حيد الله حمد شاه، 18 أغسطس 2021.
طالبان والعودة إلى كابل، المسار للدراسات 17-8- 2021.
حكمتيار: تشكيل الحكومة سيبدأ عقب وصول قادة طالبان إلى كابل، الأناضول، 20-8-2021.
«طالبان» وتأثير ديناميكياتها على مستقبل أفغانستان، رصانة للدراسات الاستراتيجية، 31-أب/ أغسطس 2021.
مرجع سابق
انهيار الحكومة الأفغانية أمام طالبان بعد الانسحاب الأمريكي، المستقبل للدراسات، 15- أغسطس 2021.
كيف تعاملت إدارة “بايدن” مع أزمة سقوط كابول، المستقبل للدراسات، 17-أغسطس 2021.
كيف يمكن فهم خطاب وممارسات حركة طالبان، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 20 أغسطس 2021.
وعود طالبان بالحكم المختلف، موقع الحرة، 18- أغسطس 2021.
سيناريوهات الحكومة الأفغانية الجديدة في ظل حكم طالبان، المستقبل للأبحاث المتقدمة، 26- أغسطس 2021.
[31] مقابلة أجراها الباحث مع باحث أفغاني حول مجريات وقائع دخول طالبان إلى إقليم بنجشير.
طالبان الحاكمة: تحديات داخلية وأهداف جيوستراتيجية، موقع هلا، 31-8- 2021.
هل تنجح حركة طالبان في إدارة الاقتصاد الأفغاني، المستقبل للأبحاث المتقدمة، 31 أغسطس 2021.
taliban’s Mullah Baradar hurt in clash with Haqqanis: Report,sep.6.2021.
مخرجات الورشة الحوارية طالبان حركة داخلية أفغانية، أم كيان يؤسس نظامًا إقليميًا جديدًا، برق للسياسات والاستشارات، 12- أيلول/ سبتمبر 2021.
المواقف الدولية من عودة حركة طالبان إلى حكم أفغانستان: المحددات والتوجهات، الشارع السياسي، 26- أغسطس 2021.
للمزيد من الاطلاع على مسألة الشرعية بين السياسة والقانون:
Between Legitimacy and Control: The Taliban’s Pursuit of Governmental Status.
[38] https://politi.co/3lARdEI
Western nations to Taliban: Show us you’ve changed.politico.8.20.2021.
للمزيد حول مصالح أمريكا بعد الانسحاب من أفغانستان، مركز الدراسات الاستراتيجية الأفغانية في كابل.
EU says no recognition of Taliban, no political talks. Reuters. August 21, 2021.
Taliban Have Won the War, We Will Have to Talk with Them: EU Foreign Policy Chief. August 18, 2021.
Experts react: What the fall of Afghanistan means for Europe.atlantic. August 18, 2021.
Afghans have broken ‘shackles of slavery’: Pakistan PM Imran Khan. AUGUST 16, 2021.
The Rise of the Taliban in Afghanistan: Regional Responses and Security Threats. 27 Aug 2021.
India’s limited options in Afghanistan. August 29, 2021.
مرجع سابق
كيف يتعامل الجوار الأفغاني مع عودة “طالبان”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 9 أيلول/ سبتمبر 2021.
With the Taliban Back in Kabul, Regional Powers Watch and Wait. 26 AUGUST 2021.
مرجع سابق
الكل يغادر إلا إيران.. قراءة في علاقة طالبان مع طهران، نون بوست،29-8-2021.