دراسات

مشكلة تعاطي المخدرات

0002

تعدّ الأسرة الكيان الاجتماعي الأعم والأشمل، والمنوط بتربية الأبناء منذ نعومة أظفارهم تربيةً سليمة حتى يكونوا مواطنين صالحين في أسرهم ومجتمعهم، قادرين على البناء والإنتاج بدون أيّ عوارضَ أو مشكلاتٍ نفسيةٍ أو اجتماعيةٍ أو اقتصاديةٍ تحدُّ من قدرتهم على التفاعل الاجتماعي البنّاء داخل أيّ وحدةٍ من الوحدات الاجتماعية في مجتمعهم، وفي هذا الإطار يقعُ على الأسرة عاتقٌ كبيرٌ، ليس في تربية الأبناء فقط بل في اختيار الزملاء والأصحاب ذوي القدوة الحسنةِ والأخلاق الرفيعة، حتى تستكمل المنظومة الأسرية دورها في عمليات التنشئة الاجتماعية وصولاً لبناء أفرادٍ صالحين ومؤثرين بشكل إيجابي في مناحي الحياة الاجتماعية كافة.

لا تمتلك كل الأسر الأساليب التربوية الناجعة لبناء توليفةٍ أسريةٍ بين أبنائها تضمنُ لهم التعايشَ والاستقرار الأسري فيما بينهم، بل يسود أحيانًا نمطٌ من المحاباة والتفضيل بين الأبناء ظنًا من الوالدَين بأنها وسيلةٌ كافية لبناء علاقات ترابطية فيما بينهم، مما يؤدي في نهاية الأمر إلى ردات فعلٍ عكسية تتفاعل مع مشكلاتٍ أسرية متعددةٍ أخرى يكون أحد نتائجها أن يجد الابن ضالته في الانحراف وسلوكه مسلكياتٍ خاطئةٍ كتناوله عقاقير ومواد منبهةٍ أملًا منه في التخفيف من وطأة حالته النفسية.

في هذا المقال سأركز على عنوانين رئيسين أحدهما الأساليب اللاتربوية التي تؤدي إلى تفاقم مشكلة المخدرات، والآخر دور الأسرة في الوقاية من المخدرات عبر اتباع أساليبَ تربوية ناجعةٍ ذات أهدافٍ تكامليةٍ علاجية.

الأساليب اللاتربوية التي تؤدي إلى تفاقم مشكلة تعاطي المخدرات

  1. جو الأسرة المشحون بالنزاعات والعنفِ الدائم:

عندما تكثرُ النزاعات والخلافات الأسرية بين الزوج وزوجته أمام أعين أبنائهما، فلا بد أن تترك أثرًا بالغًا بالنسبة لهم، خاصةً إذا كان النزاع والشجارُ قد أخذ مداه وتحول إلى حالة من العنف والاعتداء غير المباشر كالصراخ والتلاسن الكلامي ابتداءً وصولًا إلى الاعتداء البدني، كل ذلك سيؤدي في نهاية المطاف وبلا أدنى شك إلى إنتاج شخصيات تتصف بالعجز والقصور عن القيام بأيّ فعل تجاه الأبوين، فعندئذ يلجؤون إلى عالمٍ آخر يحقق لهم ملاذهم الشخصي كتعاطي المخدرات بدون أيّ رقابة أسرية عليهم تحول دون الإمساك بهم أو علاجهم.

  1. البيئة الأسرية التسلطية:

إن اعتماد بعض الأسر على نمطٍ تسلطي في تربية أبنائها لن يؤدي في نهاية المطاف إلى تنشئة أبناءٍ نموذجين أو مثاليين، وهذا يعني أن التسلط لا يقود إلى الانضباط والالتزام بقدر ما يؤثر سلبًا على شخصية الأبناء، وأن يكونوا عُرضة وفريسةً سائغة خاصة إذا كانوا يعيشون وسط بيئة تتسم بقدرٍ من الانحراف مما يسهل عليهم أن يكونوا جزءًا منها.

  1. القسوة والتفرقة في معاملة الأبناء:

القسوة في تربية الأبناء أسلوبٌ مثيرٌ للجدل لا سيما وأنه في الغالب يعتمدُ على وسائل غير شرعيةٍ كالتوبيخ والضرب المبرح الذي يصلُ في نهاية المطاف إلى التمرد والعدوانية كوسيلة للتنفس، فضلًا عن لجوء الآباء إلى إثارة الألم لدى أبنائهم كنوعٍ من أنواع العقاب عن طريق إشعار الابن بالذنب، وقد يكون أيضًا عن طريق تحقير الأبناء والتقليل من شأنهم مما يفقدهم ثقتهم بأنفسهم.

أما التفرقة في المعاملة بين الأبناء فهي تعبرُ عن أسلوب لاتربوي يعتمد على عدم المساواة بين الأبناء والتفضيل والمحاباة فيما بينهم، وهذا المشهدُ لا يختلفُ عن القسوة بين الأبناء فكلاهما يخلقُ واقعًا مستبدًا لا يسوده العطف والودّ والحنان اللازم لبناء أسرةٍ متماسكة تستشعرُ أهمية التراحم والتعاطف، وهذا من شأنه أن يُوجد للأبناء مبرراتهم ومسوغاتهم للبحث عن جماعاتٍ تستوعبهم كجماعات مدمني المخدرات.

  1. شعور الأبناء بأنهم غير مرغوب بهم:

كأن يشعرَ أحد الأبناء بعدم أهميته داخل الأسرة وهذا أمرٌ خطيرٌ للغاية، ومن صور عدم الاهتمام التهديد المستمر بالطردِ من المنزل، والسُّخرية منه، وعدم إيلائه الاهتمام الكافي كالرعاية والعناية والسؤال الدؤوب عن أحواله الدراسية ومتابعة تصرفاته أثناء مكوثه في البيت أو بعد الانصراف منه، ومما لا شك فيه بأن مثل هذه الممارسات السلبية تجاه هؤلاء الأبناء سيكون لها عواقبُ وخيمةٌ، سواءً على الجانب النفسي أو الاجتماعي مما يدفعه للتمرد وعدم تقبُّلِ أيّ تغييرٍ من قِبل الأسرة.

  1. التساهل والإهمال في التربية:

التساهل معناه: أن تترك الأسرة الأبناء بدون أي ضابط أو رابط لمتابعتهم والوقوف على حاجياتهم والسؤال المستمر عنهم في إطار حمايتهم والمحافظة عليهم، مما يؤدي بهم إلى الإضرار بأنفسهم بدون أيّ استشعارٍ من قبل أسرتهم وهذا في الغالب يترتبُ عليه أضرار خطيرة منها أن يرتكب الابن فعلته وهو راضٍ عنها، إضافةً إلى أنه قد يتجرأ على القيام بأفعالٍ مخلةٍ بالآداب العامة والأخلاق مستقبلًا في ظل عدم وجود متابعة دقيقة وحثيثة من قبل ذويه لمتابعة شؤونه الخاصة.

أما الإهمال فلا يقلُ أمرًا عن التساهل وإن اختلفت العوارض والبيئات المسببة لذلك، إلا أن عدم الاهتمام بالابن وعدم تشجيعه وتحفيزه يخلق منه شخصيةً ضعيفة مهزوزةً تعاني الضعف والسخرية، مما يجعلهم بحاجة لمن يهتم بهم وسط تهميشٍ من قبل الأسرة، فتكون طريقهم نحو الاندماج في جماعاتٍ يجدون ضالتهم فيها، خاصة إذا كانوا يمارسون سلوكياتٍ خاطئة كالتدخين وتعاطي الحشيش مثلًا مما يترك آثرًا سلبيًا على نفسياتهم الذاتية، ويكونون أكثر عرضة للانحراف نتيجة للتساهل والإهمال وعدم المتابعة الصورية لهم في أدنى الحالات.

  1. التدليل وفرط الحماية:

يتمثل التدليلُ في تشجيع الأبناء على تحقيق معظم رغباتهم للتو بدون أي تذمرٍ أو تأخيرٍ من قبل الأسرة، وهذا سيكون له انعكاساته السلبية على الابن خاصةً إذا كان وحيدًا أو الابن الأصغر في الأسرة، فعادةً تسكتُ الأسرة عن أيّ فعلٍ يصدر عنه تجنبًا لانفعاله أو غضبه لكنه في واقع الحال يكون له تداعياتٍ سلبية على الابن مستقبلًا، خاصة إذا ارتكب أيّ مسلك سلبي يضر به وبأسرته فعندئذ تكون الأسرة هي المسؤول الرئيس عن تصرفاته.

أما الإفراط في الحماية الزائدة للابن فعادةً ما تكون نتائجها سلبيةً، فالأب والأم يقومان بالمسؤوليات والواجبات نيابةً عنه مما يخلق فيه شخصًا ضعيف الشخصية غير قادرٍ على تأمين احتياجاته ويعتمدُ على غيره في تصريف أموره الذاتية، وغالبًا ما يُستثارُ ويُستفز بسهولة، فيكون عندها عرضةً للانجراف نحو تناول المخدرِ أو المهلوس.

 

دور الأسرة في الوقاية من المخدرات:

إن دور الأسرة وإن كان مقتصرًا في بداية الأمر على توفير الطعام والشراب باعتبار أنه جزءٌ أساسي يقع على عاتق كل أسرة، إلا إن الأسرة يقع على عاتقها أمور أخرى تعادل في أهميتها الطعام والشراب أو حتى أكثر، ومنها تربية الأبناء وتنشئتهم تنشئة سليمة مع بث الثقة في أنفسهم، ودعم استقرارهم الوجداني والانفعالي.

ومن هذا المنطلق يجب أن يكون للأسرة دورٌ يتعدى الدور التقليدي في متابعة الأبناء وحمايتهم، وهذا بحاجة للتكاتف والتعاون الوثيق بين الأب والأم مع أبنائهم في تنشئتهم منذ البداية التنشئة السليمة التي تضمنُ عدم انحراف الأبناء أو استمالتهم للفساد والانحلال الخُلُقي فيكونوا عُرضة لتعاطي المخدرات والإتجار بها مستقبلًا، ولذلك فإن الفشل في تربية الأبناء تربية سوية من شأنه أن يقدم للمجتمع فيما بعد أشخاصًا قابلين للسقوط في هاوية المخدرات.

دور الأسرة في الوقاية من المخدرات يتمثل في الآتي:

  • قيام أحد الوالدين بتعليم الأبناء الحقائق والمخاطر الناجمة عن تعاطي المخدرات، وتعريفهم بالسلبيات المتوخاة منه.
  • المتابعة المستمرة لسلوك الأبناء، خاصةً في أماكن ارتيادهم للهو كالأندية الرياضية مثلا، مما يسهلُ على الآباء مساعدتهم مبكرًا في علاج أيّ سلوكٍ منحرف يضرهم، وبالتالي يكون من السهل تدارك الأمر قبل فوات الأوان.
  • للأسرة دورها الفعالّ في الانتقاء والاختيار عبر التوعية الدائمة بحسن الاختيار، وإرشاد أبنائهم نحو انتقاء الأصدقاء لا أن تفرض عليهم أصدقاء بعينهم، والواقع يتطلب ممارسةً عمليةً من الأب والأم في اختيار الصحبة الحسنة، لكي يقتدي أبنائهم بهم فلا يجب أن تختلط الأم بجارةٍ سيئة السمعة والسلوك، وكذلك الأب لا يجب أن يخالط أصدقاء يحتسون الخمر أو يعتمدون على المواد المخدرة حتى لا تكون الأقوال متناقضة مع الأفعال.
  • أن تسود علاقات حميمة بين الأهل والأبناء، وهذا من شأنه أن ينمي روح الانتماء في الأسرة، وتشعر الأسرة والأبناء بأنهم جزءٌ من المنظومة الاجتماعية التي تتصف بقدرٍ من المحبة والتعاون البناء الصادق فيما بينهم مما ينعكسُ على ترابطية العلاقات فيما بينهم.
  • يجب على الأسرة أن تسلك مسالك إيجابية أمام أبنائها لأن الأبناء عندما يلاحظون التصرفات السوية من ذويهم تتولَّد لديهم القدرة على التصرف بمثلها مستقبلًا، فالابن يتخذُ من أسرته المثل الأعلى والقدوة الحسنة في التصرف.
  • يتوجب على الوالدين ترسيخ التعاليم الأخلاقية لدى الأبناء قولًا وفعلًا، وذلك عبر السلوك المُمَارس من قِبل الوالدين في بيان أهمية البعد الأخلاقي ودوره في التنشئة السليمة منذ الصغر لا سيما وأنه يلعبُ دورًا مهمًا في صياغة جيلٍ ناشئٍ يتصفُ بالصفات الحميدة الرفيعة التي من شأنها أن تعزز الثقة بأنفسهم.
  • منح الأسرة للأبناء الحنان والعطف والمحبة، وألَّا تكون هناك قيودٌ في ذلك أو محاباة تفضيلية لابن على حساب ابنٍ آخر، فالأهلُ يجب عليهم أن يعاملوا أبنائهم بنفس المعيار وأن يقسطوا بينهم بالمودة والرحمة، فالتفضيل من شأنه أن يؤثر على ممارسات الأبناء وسلوكياتهم وتصرفاتهم، وهذا يخلقُ جيلًا ضعيفًا يسهل اختراقه والتلاعب بأفكاره، وأن يكون لقمة سائغة في أيدي المنحرفين الذين هم في نظره بيئة ملحقة بالبيئة التي يسكنُ فيها، أملًا في أن تعوضه الحنان والعطف والمحبة، لكنها في الحقيقة تجره إلى عالمٍ تسكنه الآفات والمخاطرُ بدون أيّ رقيبٍ أو حسيب.
  • أن تتعامل الأسرة (الأبوين) مع مشاكلها بعيدًا عن أبنائها، حتى لا يتأثروا بها ويصبحوا جزءًا من المشكلة، فعلى الأسرة أن تُنتج بيئة تمتاز بالديمقراطية ويسودها الودّ والوئام والتسامح والتعاطف حتى تكون قادرةً على بناء جيلٍ قادرٍ على البناء والعطاء.

السؤال المستمر عن الأبناء في المدرسة، حتى يتقين الأبناء بأنهم محض اهتمام والديهم وأنهم دائمًا في سؤالٍ عنهم، حتى يستشعر الأبناء بأن الأسرة تريدُ لهم مستقبلًا زاهرًا متقدما بعيدًا عن أيّ شبهة ٍ من شأنها الإضرار به أو إفساده، فهي تسعى لأن يكون الابن مثالًا وقدوة يقتدى بها مستقبلًا لكي يكون جزءًا من المنظومة المجتمعية الصالحة.

 

الخاتمة:

إن اتباع الأسرة للأساليبَ التربوية الناجحة من شأنها أن تُسهم في بناء جيلٍ نافعٍ قادرٍ على الإسهام بفعالية في مجتمعهم، وهذا بحاجة لأن تتسلح الأسرة بمزيدٍ من الوعي والفهم والإدراك لأهمية الأبعاد التربوية والنفسية والسلوكية أثناء تعاملها مع الأبناء، مما سيكون له الأثر البالغ في الانعكاس المباشر على شخصيات الأبناء نحو الارتقاء بهم نحو عالمٍ صحيٍ، وبيئة ٍ أكثر نمذجةٍ للواقع المعاصر بعيدًا عن أيّ مسبباتٍ أو مشاكلَ من شأنها أن تؤدي بهم إلى عالمِ الآفات والجرائم المنظمة وغير المنظمة.

أستطيع القول: بما أن الأسرة يقعُ عليها حملٌ ثقيلٌ في تربية الأبناء، فعليها أن تحسن الاختيار في استخدام الأساليب التربوية الأكثر نجاعة في بناء أسرة أكثر اعتدالًا وتوازنا حتى تضمن مخرجاتٍ مستقبلية سليمة، ولا آدل على ذلك طبيعة العقلية الانفتاحية المنضبطة والملتزمة في فهم الأمور بكلياتها العمومية لا الاقتصار على الخصوصية فقط، حتى تكون مواكبةً لكافة تغيرات العصر ومتطلباته، وتسهمُ بجدارةٍ في بناء واقعٍ ينحو نحو البناء لا الهدم.

للتحميل من هنا

 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات ©2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى