الاصداراتمقال رأي

عن نسق السلام كخيار استراتيجي

110

تعقدت القضية الفلسطينية واستعصت على الحل. وتحولت إسرائيل في الذهنية العربية إلى قضية فلسفية تتصارع حولها وجهتا نظر وجودية وعدمية. إحداهما تعتبرها أمراً واقعاً لا مفر منه إلا بالسلام (الاستراتيجي)، والأخرى تعتبرها عدماً فتنشئ أطفالها على عدم الاعتراف بوجودها. من ذلك أن تسأل أم طفلتها، ذات الثلاثة أعوام، عن عواصم العالم، فتجيبها الطفلة إجابات صحيحة يغبطها عليها الكبار. وحين تسألها: “شو عاصمة إسرائيل؟” تجيب ببراءة ملقنة: “ما في إسرائيل”.

هذا الخطاب الذي ينفي إسرائيل من خريطة العقل هو نفسه الذي يصفها بالعدو المحتل. فتكون إسرائيل موجودة على الأرض غائبة عن العقل. محذوفة من خريطة اللغة والعقل والتاريخ المتخيل، في الوقت الذي تسرح وتمرح فيه على خريطة الواقع. والنتيجة عدم الاستعداد لمواجهتها حتى على مستوى التفكير!

وأمام التعنت الذي ينفي وجودها المعنوي تعمل إسرائيل على تثبيته بأدلة مادية تتمثل بقصف عنيف يدمر البشر والحجر والشجر. وهي أدلة كفيلة لأن تدفع للتساؤل: إذا كانت إسرائيل غير موجودة فمن الذي يقصف أعمارنا؟! لولا أن هذا العقل قد تم تدميره هو الآخر بعمليات غسل الدماغ. وهكذا تقوم إسرائيل بتدمير الجسد ويعمل العرب على تدمير العقل.

تشخيص حالة الفصام يشير إلى عامل واحد هو الكسل. فالاعتراف بإسرائيل سيضع العقل العربي أمام خيار استراتيجي جديد هو التفكير في آليات التعامل مع الصراع الذي يفرضه وجود إسرائيل. ففي ظل صراع وجودي، لا السلام ولا الحرب تشكل خيارات استراتيجية.

جزء من صعوبة حل القضية الفلسطينية يكمن في التعامل معها كمشكلة تبحث عن (حل نهائي) ينهيها من جذورها. والواقع يقول أن صراع الأيديولوجيات في ظل عدم توزان القوى –فضلاً عن الصراع بين الفلسطينيين أنفسهم-يجعل من القضية الفلسطينية إشكالية يمتنع علاجها بالخيارات الاستراتيجية. فالسلام لا يمكن أن يكون خيارا استراتيجيا إلا بين طرفين مثاليين يؤمنان به، أو بين قوتين متعادلتين. ولأن ميزان القوى في صالح إسرائيل، فهي لا تتعامل بجدية مع خيار العرب منذ جولته الأولى.

لا شك أن المقاومة العنيفة توجع إسرائيل، لكن إسرائيل لا تتعامل مع هذه المقاومة بمنطق “الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح” وإنما بمنطق “ضربة لا تقتلك تقويك” ويظهر هذا من خلال مضاعفتها للرد العنيف. وهذا يبين طبيعة إسرائيل القائمة منذ نشأتها على فرض وجودها بالقوة. إسرائيل لا تختلف كثيرا عن روما قديماً فالرومانيون كما يقول مونتسكيو “لم يبرموا أبداً صلحاً ليدوم. فبما أن هدفهم البعيد هو الاستيلاء على كل شيء، لم يروا في صلح سوى هدنة. لذلك كانوا يفرضون شروطاً تؤدي لا محالة إلى دمار الدولة التي تقبلها، كإخلاء المواقع الحصينة، حصر الجنود في مستوى معين، تسليم الخيل والفيلة، إحراق السفن، والابتعاد عن الشواطئ بالنسبة للشعوب البحارة” (مونتسكيو: تأملات في تاريخ الرومان. أسباب النهوض والانحطاط.

ترجمة: عبد الله العروي، ص 66)

مونتسكيو يتحدث عن قاعدة سياسية اتخذتها إسرائيل خيارا استراتيجياً وهو ما يبين استفادتها من التاريخ. ومن خياراتها الاستراتيجية إعلانها عن الهوية الدينية للدولة وهو ما يشكل طموحاً له علاقة بالتراث المطالب بدولة يهودية كبرى. وهذا تأكيد على أن إسرائيل لا تنظر إلى السلام كخيار استراتيجي وإنما كخيار تكتيكي لبلوغ أهدافها أو طموحها النهائي.

إذا كان لا بد من حل. فليكن في تكوين قوة فلسطينية، ليس بالضرورة لإعلان الحرب ومحو إسرائيل من الخريطة، بل لإجبارها على السلام. وأولى بوادر تكوين تلك القوة أن يتحد الفلسطينيون على عقل رجل واحد. وحتى يمتلك الفلسطينيون دولة وقوة، يمكن للسلام أن يتحقق، لكنه سيظل مهدداً بالانهيار عند أول اختلال في ميزان القوى. فميزان السلام يعتدل وفقاً للمثل الإنجليزي: “إذا أردت السلام فكن مستعداً للحرب If you want peace be prepared for war”. ففي الحرب لا يقف الله مع الضعفاء والفقراء وأصحاب الحق. عدالته تقف مع المدافع الأقوى، خصوصا في الحروب الحديثة التي لا يجدي فيها الدعاء ولا تقنية طير الأبابيل.

الهدف من لصق صفة (الاستراتيجي) بالسلام هو طمأنة إسرائيل والعالم. لكن اهتمام العرب بتوضيح نيتهم المسالمة وصورتهم الطيبة يأخذ النصيب الأكبر من الجهد، في وقت هم بحاجة لكشف جرائم إسرائيل للعالم. ولهذا يحتاج السلام إلى شركات إنتاج سينمائية وقنوات إخبارية وهذا ما تجيده إسرائيل فتلمع به صورتها وتكسب تعاطف ضمير العالم. الأخطر في نسق (الخيار الاستراتيجي) هو دلالته المضمرة التي تستبعد خيار الحرب وهو ما يجعل إسرائيل تطمئن إلى نوايا العرب فيعود ذلك عليها بنتائج إيجابية في إملاء شروطها، ويعود على الفلسطينيين سلباً من خلال تقديم مزيد من التنازلات.

الخيار الاستراتيجي قائم على مقارنة القضية الفلسطينية بنموذج المقاومة السلمية في الهند وجنوب أفريقيا. وهي مقارنة في غير محلها؛ لاختلاف الأوضاع. فلئن كان سكان جنوب أفريقيا يشبهون الفلسطينيين فإن المستعمر الأبيض ليس كالمحتل الصهيوني. وهذا ينطبق على الوضع الهندي، فلم تكن نوايا الاستعمار البريطاني إنشاء وطن قومي للإنجليز في الهند. لكن اختلاف الحالات لا يمنع من تبني مقاربة غاندي ومانديلا من أجل إيقاظ ضمير العالم، كما تفعل إسرائيل من خلال استثمار الهولوكوست سينمائياً وثقافياً.

الخيار الاستراتيجي دليل على اعتقاد العرب على أن السلام يُبنى بالنوايا الحسنة. وهو في الواقع يبنى على أساس إمكانات واحتمالات الاستعداد للحرب. وهذا ما تمارسه إسرائيل من خلال الاستيطان وسياسات الأمر الواقع التي تدل على أنها خيارها الاستراتيجي الوحيد. فعلى العرب أن يدركوا أن السلام كقيمة أخلاقية يتطلب مدينة فاضلة، أما السلام كوسيلة لتجنب الحرب فهو أمر ممكن بشرط توازن القوى. وإن كان امتلاك قوة حربية تعادل قوة إسرائيل مستحيل أو صعب، في ظل الظروف الراهنة، فيمكن استبدال ذلك بامتلاك قوى ناعمة إعلامية وسياسية.

ولا يمكن لمبدأ الأرض مقابل السلام أن يحقق نتائج إيجابية للقضية الفلسطينية، لأن السلام كخيار استراتيجي أعطى إسرائيل السلام دون أن يأخذ الأرض في المقابل. وهذا الخيار جعل السلطة الفلسطينية وكثير من الدول العربية تندد بالمقاومة، وما لم تشعر إسرائيل بتهديد بين الحين والآخر فلن يكون لخيار السلام نتائج إيجابية، لكن يجب أن تُجمع كافة الأطراف الفلسطينية على خيار المقاومة بوسائلها العديدة، لا أن يُقرَّر على نحو منفرد.

القوة هي من يحسم نهاية الحرب، لكن بداية السلام قرار يتخذه طرفان يدركان أن القوة والضعف نسبيتان “فليست قوتك سوى نتيجة عرضية لضعف الآخرين”, كما ورد على لسان مارلو في رواية (قلب الظلام) لجوزيف كونراد. ولأن القوة والضعف ليستا قدراً أبدياً يمكن للسلام أن يكون مخلِّصاً فيخفف من حدة الصراع العسكري وينقل المنافسة إلى ميدان آخر تنموي واقتصادي. وحين يسود السلام لأطول أجل ممكن ندرك ساعتها أنه قرار استراتيجي بين قوتين متكافئتين تمتلكان القدرة على اتخاذ قرار الحرب في أي لحظة.

رياض الحمادي

للتحميل من هنا

 

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى