الاصداراتمتفرقات 1

"الهدنة" الأخيرة في سورية: محاولة جديدة لحصاد سياسي للتدخل الروسي.

الهدنة في سوريا
 
مقدّمة:
بُعيد استيلاء قوات النظام السوري وحلفائه على مدينة حلب بدعم مُكثّف من الطيران الروسي، أعلن الرئيس الروسي عن مبادرته لإرساء وقف شامل لإطلاق النار في سورية، والبدء بمحادثات سلام في عاصمة كازخستان “أستانا”، برعاية ثنائية روسية تركية وبمشاركة إيرانية، وكان بوتين قد أشار إلى دور تركي في تسهيل سيطرة قوات النظام السوري على حلب[1]، حيث كانت مصادر أمنية وإعلامية تحدّثت عن صفقة روسية تركية عُقدت بين بوتين وأردوغان، تضمّنت إرساء هدنة بعد الانتهاء من معارك حلب، والدّخول في مفاوضات سلام برعاية ثنائية روسية تركية، الأمر الذي أكّده الرئيس الروسي بوتين خلال تصريحاته في 16 ديسمبر من العام الماضي بقوله: “كل شيء يجري وفق التّوافقات التي أبرمناها، بما في ذلك الاتفاقات مع الرئيس التركي خلال زيارته سان بطرسبورغ”، مضيفاً: “اتفقنا أن توفر تركيا كل مساعدة ممكنة بالنسبة لإزالة هؤلاء المسلحين المستعدين للاستسلام في حلب”[2].
الخلفيات والسياق:

  • الدور الروسي:

حاولت الدُّبلوماسية الروسية حصاد الجهود العسكرية الروسية مبكراً مع بداية التّدخل الروسي، فكانت عرّابة “مؤتمر فيينا” الذي حاولت من خلاله تمييع مقررات مؤتمر جنيف، والتي تنصّ على تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية[3]، فتحدثت مقررات مؤتمر فيينا بدلاً من ذلك عن “تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية”[4]، الأمر الذي كان محاولة لتجاوز مقررات جنيف، إلا أنّ قرار الأمم المتحدة 2254 / 2015[5] دعم قرار فيينا “في إطار السعي إلى كفالة التنفيذ الكامل لبيان جنيف كأساس لانتقال سياسي”، والذي يعني إبقاء مرجعية جنيف مع اعتبار مرجعية فيينا، ممّا يعني نجاحاً جزئياً للدبلوماسية الروسية في هذا الجانب.
على أنّ الدبلوماسية الروسية عملت على محور آخر، وهو اختراق المعارضة ومحاولة زرع “المعارضة الموالية لروسيا” فيها، عبر تأسيس منصّات للمعارضة في موسكو والقاهرة (بالتعاون مع النظام المصري)، ولاحقاً ما عُرف بمعارضة “حميميم”[6].
تُشكّل الهدنة المطروحة حالياً، والتي من المُفترض عقد محادثات “أستانا” على أساسها محاولة روسية جديدة لحصاد سياسي لجهودها العسكرية، وخاصّة بعد استعادة مدينة حلب الاستراتيجية.
ولا يُعرف حتّى الآن ماهية أجندات محادثات “أستانا”، وفيما يُفترض أنّها محادثات ذات طابع عسكري حول وقف إطلاق النّار وآلياته وسبل ضبطه، وآليات مراقبته والعقوبات الرّادعة للخروقات، إلا أنّ تكهّنات ومخاوف كثيرة حول إمكانية أن تكون المحادثات تهدف إلى إقرار مبادئ سياسية جديدة، ومسار مختلف عن مسار جنيف، علاوة على محاولات اختراق صفوف المعارضة مجدداً من خلال تطعيمها ب “المعارضة” الموالية لروسيا[7].

  • الدور التركي:

بعد تدهور العلاقات الروسية – التركية نتيجة حادثة إسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود السورية، توقّفت أنقرة – مُضّطرة بسبب الوجود الروسي في الأجواء السورية – عن مشروع تأمين المنطقة الواقعة بين “جرابلس – أعزان – منبج – الباب”، والذي كانت قد بدأته من خلال دعم فصائل المعارضة السورية بضربات جوية ضدّ تنظيم الدولة، وازداد تهديد وحدات الحماية الكردية للأمن القومي التّركي عندما تجاوزت الخط الأحمر التركي وعبرت نهر الفرات بدعم من طيران التحالف (بقيادة الولايات المتحدة) لتتمكّن من الاستيلاء على مدينة منبج الاستراتيجية، شعرت أنقرة بخيبة أمل كبيرة بسبب تأييد الحليف الأمريكي لوحدات الحماية في تجاوزها للخط الأحمر التركي ( عبور نهر الفرات)، ثمّ ازدادت علاقة تركيا بالولايات المتحدة (والغرب عموماً) سوءاً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، ممّا حدى بتركيا إلى الدّفع باتجاه تحسين العلاقات مع روسيا، مدفوعة بالعوامل المذكورة (وعوامل أخرى[8])، وبالأخصّ حاجتها للتّدخل في سورية لمنع استكمال حزب الاتحاد الديمقراطي لمشروعه في الشمال السوري، ممّا أدّى إلى حدوث تحوّل حقيقي في الموقف التركي[9]، حيث غدت أولويات تركيا هي منع تمدّد وحدات الحماية في الشمال السوري من خلال عملية “درع الفرات” التي تتمّ بالتنسيق مع الروس، ويرى الأتراك أنّ التقارب مع الروس قد أثمر جزئياً في تصدّع التحالف بين روسيا وايران، وتجلى ذلك في الخلاف بين الأجندات الروسية والإيرانية في معركة حلب، حيث أراد النظام السوري ومعه المليشيات الشيعية ومن ورائهم إيران تعطيل الاتفاق التركي – الروسي الذي قضى بخروج المقاتلين والأهالي من مدينة حلب[10]، ولكنّ الروس استطاعوا إنفاذ وعودهم للأتراك على الرغم من وجود خروقات عديدة للمليشيات المدعومة من إيران.
التحركات التركية تأتي في سياق اعتقاد الأتراك أنّ هناك مؤامرة كبرى تحاك ضدّهم من الغرب (والولايات المتحدة خاصة) تستهدف أمنهم القومي ووحدة أراضيهم من خلال دعم تمدد الوحدات الكردية في الشمال السوري، الأمر الذي يمكن أن يُهيئ لانفصال الجنوب الشرقي التركي ذو الأغلبية الكردية، والذي خاضت في عدد من مدنه -القوات التركية- حرب شوارع مؤخراً مع عناصر حزب العمال الكردستاني[11]، الأمر الذي دفع الأتراك للمزيد الإصرار على إرساء تفاهمات سياسية واقعية مع الروس انطلاقاً من كون السياسة هي “فنّ الممكن”.
 
 
تقييم:
رغم كون مشروع الهدنة وما بعده من مفاوضات في “أستانا” مشروع روسي أساساً، إلا أنّ تركيا استطاعت فرض أجنداتها وتحقيق انزياح جزئي في الموقف الروسي مع ابتعاد جزئي عن تحالف النظام – إيران، واعترف الروس بالفصائل السورية المفاوضة كطرف في المفاوضات على الطاولة[12]، مع ذلك، قد يكون من الأجدى للفصائل العسكرية أن تتمسّك بمظلّة الهيئة العليا للمفاوضات في كل ما هو متعلق بالقضايا التّفاوضية السياسية والعملية الانتقالية، والتي تتمسّك حتى الآن بدورها بالمرجعية الأممية التي تنصّ على مرجعية بيان جنيف في حزيران 2012، وبما أنّه من المفترض أنّ المحادثات في “أستانا” تهدف أساساً إلى تثبيت خطوط القتال والهدنة (وهو  أمر مطلوب وإيجابي)، يُتيح ذلك لممثلي الفصائل العسكرية الإصرار[13] على مناقشة القضايا التقنية العسكرية ( تثبيت خطوط التماس – آليات مراقبة وقف إطلاق النار – الرُّدود على خروقات الهدنة – نقاط التفتيش المشتركة الروسية – التركية…الخ) قبل الموافقة على مناقشة أيّ من القضايا السياسية، والتي يمكن أن تُحال إلى اجتماع جنيف في الثامن من شباط القادم، لتكون برعاية الأمم المتحدة، وبقيادة الجهة المُختصّة في التفاوض عن فصائل المعارضة (الهيئة العليا للمفاوضات).
للتحميل من هنا
 
 
 

 جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2017

 
 
[1]  وقال بوتين إن تركيا وإيران والنظام السوري لعبوا دورا كبيرا في استعادة السيطرة على مدينة حلب – أنظر تقرير الجزيرة ” بوتين: يجب وقف إطلاق النار لبدء المفاوضات بسوريا“.
[2]  أنظر تقرير المرصد الاستراتيجي “التنافس التركي-الإيراني يرجح كفة موسكو“.
[3]  أنظر بيان جنيف الصادر عن مجموعة العمل من أجل سورية.
[4]  بدا ذلك واضحاً من خلال تفسيرات المحللين المقربين من الدوائر الروسية، فمثلاً أكد أحد الكتاب على موقع “روسيا اليوم” الرسمي الروسي في إحدى مقالاته بأنّ مؤتمر فيينا “يشكل انعطافاً في مسار الأزمة السورية”، وبأنّ بيان فيينا “قد تجاوز بيان جنيف”، حيث دعا إلى ” تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، ويترتب على ذلك أمران:
1ـ أن الحكومة المقرر تشكيلها لن تكون ذات صلاحيات كاملة، ما يعني أن جزءاً من الصلاحيات سيبقى لموقع الرئاسة.
2ـ أن الحكومة المقررة لن تكون في المقابل شكلية، وإنما ذات مصداقية، بحيث تشمل جميع القوى السورية، وأن تكون لها صلاحيات واسعة وإن لم تكن كاملة” – أنظر: بيان فيينا.. انعطاف في مسار الأزمة السورية.
[5]  القرار 2254/2015.
[6]  نسبة إلى القاعدة الجوية الروسية في الساحل السوري.
[7]  تلتقي هذه المعارضة مع طرح النظام الخاص بفهمه لبيان جنيف من خلال تشكيل “حكومة وحدة وطنية” بمفهومها الحالي الموجود لدى النظام السوري، والتي لا تملك إلا صلاحيات بسيطة وشكلية، فيما تبقى الصلاحيات الحقيقة في يد رئيس الجمهورية نظرياً (بحسب الدستور السوري)، وعملياً بحكم ولاء أجهزة الأمن والقوى المسلحة له، ويلاحظ إصرار روسيا على اختراق صفوف المعارضة الحقيقية بالمعارضة الشكلية التي تدعمها، فقد صرح أليان مسعد بأنّه “على المعارضة السورية أن تندفع فوراً للقاء مع الوفد الحكومي في جنيف، وأنا سألتقي مع ممثلة المبعوث الأممي في دمشق خلال اليومين القادمين، وسأطالبها بأن يجمع كل المعارضة مع الوفد الحكومي في جنيف في 8 شباط القادم، وليقدم كل طرف ما عنده، ومن يرفض وغالباً مجموعة الرياض سترفض لتستقل في غرفة أخرى”، كما أظهر تطابق وجهة نظره مع طرح النظام حول “حكومة الوحدة الوطنية” حيث أكّد على أنّ “مؤتمر أستانا سينجح وسينتج حل نهائي لسوريا وسيجري التشاور بين شخصيات وطنية بالداخل والخارج والدولة لتشكيل حكومة وحدة وطنية تشاركية بأقصى سرعة ولإنجاز مؤتمر وطني جامع بدمشق، ووضع دستور ديمقراطي علماني متوافق مع المقررات الدولية، ثم الذهاب للانتخابات. إن مهمة حكومة الوحدة الوطنية التشاركية الجديدة هي إنقاذ الوضع الداخلي وإجراء حوار بالداخل والمحادثات والتواصل الدولي مع الخارج لإنجاز الحل السياسي المتمثل بالانتقال السياسي في سوريا ونريده من خلال مؤتمر كازاخستان حصراً”، يُنظر: “رئيس وفد معارضة الداخل السورية: ندعم فكرة إجراء محادثات في أستانا” وأيضاً: “حوار خاص مع رئيس وفد معارضة الداخل “مسار حميميم” إليان مسعد“.
[8]  كالعوامل الاقتصادية، فكلا الطرفين يحتاج الآخر، حيث يعاني الاقتصاد الروسي نتيجة لانخفاض أسعار النفط والغاز عالمياً، ونتيجة للعقوبات الغربية بعد أحداث أوكرانيا، فيما يعاني الاقتصاد التركي نتيجة توتر الأوضاع في المنطقة، والاستقطاب الحاصل حول تبني النظام الرئاسي، وإقرار أحكام الطوارئ.
[9]  للمزيد حول التحول في الموقف التركي، يُنظر “تحولات الموقف التركي وتأثيره على الثورة السورية” للباحث د. بشير زين العابدين.
[10]  كما حاول النظام السوري وإيران تعطيل التوافق الروسي التركي من خلال الضربة الجوية التي تمّ تنفيذها ضدّ الجيش التركي قرب مدينة الباب، على سبيل المثال، أنظر مقالة د. سمير صالحة: استهداف القوات التركية في «الباب»: أصابع إيران؟.
[11]  ويعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) فرعاً لحزب العمال الكردستاني في سورية.
[12]  حتّى أنّ مصادر عسكرية وأمنية قد أكّدت رفض الروس اطلاع النظام السوري على محتويات المفاوضات مع الفصائل، كما أكّدت مصادر رفض الروس لإلقاء بشار الأسد لخطابه عن “النصر” داخل مدينة حلب منعاً لاستفزاز الأتراك.
[13]  وهو أمر منطقي، وربّما من المفيد أن نُذكّر بأنّ النظام السوري أصرّ مثلاً على مناقشة قضية “مكافحة الإرهاب” في مفاوضات “جنيف 2” قبل مناقشة أيّ قضية أخرى سياسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى